جاك دريدا .. وتضاد الصداقة والفناء
ترجمة: رولا عادل رشوان
يحكي الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في كتابِهِ “سياسات الصداقة” عن أحد أساليب الحياة الغابرة، والتي ترتبط بتقليل التوتر في علاقتنا مع البشر. تُقَدِّمُ قصصُ الحب أنماطًا تحكي عن إلزام حياتك بكينونة شخصٍ آخر، بينما تُقَدِّم لنا قصصُ الصداقة أنماطًا من محاولات الإنسان إلزامَ حياتِهِ بالحياة نفسها. هناك لحظةٌ ما تصِفُها رواية “القرد منظم الرحلات”، إحدى رواياتي المفضلة، عندما يُحَيّي بطلُ الرواية “ويتمان أه سينج” الشاب الفنان بطل الرواية، هؤلاء “الفائزين بالحفلة” – الذين ظلّوا يُعانون طوال الليل عبر رحلةٍ مقيتةٍ هادفينَ إلى الوصولِ للجهة المقابلة، التي يحتفون عندها بانبلاج النهار. “إنه لأمرٌ عظيمٌ، الجلوس هنا بين الأصدقاء، بكوبٍ من القهوة دافئٍ بين يدَيَّ، وسيجارة” يُفَكِّر البطل في نفسه. “ألا لقد أحسنتم إخراجَ هذا العرض أيها الآلهة”. إن الروايةَ أشبَهُ بترنيمةٍ عن الاحتفاظ بالأصدقاء، بحضورهم وغيابهم. عن وجود أحدهم في حياتك، ذاك الذي يُمكِنُك أن تجذبه إليك وتدعوه لرؤية ما ترى عيناك. المعنى من خلال التضاد في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ألقى الفيلسوف جاك دريدا سلسلةً من المحاضرات عن موضوع الصداقة، وكان في تلك الآونةِ واحدًا من أشهر الفلاسفة في العالم، بعد أن أصبح بشكلٍ أو بآخر أشهر مُفَسِّري مفهوم “التفكيك”. أراد دريدا أن يُعرقِلَ وينتقد سعيَنا لتوليد المعنى من خلال التضاد – الكلام مقابل الكتابة، العقل مقابل العاطفة، الذكورة مقابل الأنوثة. تفرِضُ هذه الأضداد وجودَها كأساسياتٍ للحياة بشكلٍ تَبادُليٍّ، يشرح دريدا ذلك: “في حالة سيادة أحد هذه المفاهيم بشكلٍ ما على الآخر، فلا يعني ذلك أن المفهوم الآخر يظل محلَّهُ مستقرًّا أو ثابتًا بغير تغيُّر، فاستقامة المفهوم على حالٍ لا تتوفر إلا في حالة تهميش الغرابة أو الشذوذ في المعنى.”، تطلَّبَت أساليب دريدا في التحليل فحصًا أدق لكل المعاني المفقودة أو المخفيَّة – وللعمل على تحقيق ذلك، جادَلَ هو ومساعِدوه طويلًا في أننا علينا أن ندرك أن المفاهيم التي تبدو طبيعيةً بالنسبة لنا؛ هي في الواقع مليئةٌ بالتناقضات ودواعي الحيرة، وربما قبول هذه الفوضى قد يقودنا إلى طريقةٍ أكثرَ وعيًا وذكاءً لِعَيْشِ حياتنا. بحلول الوقت الذي اعتاد فيه دريدا إلقاءَ محاضراته عن الصداقة، كان قد أضحى مُفْتَتِنًا بعبارةٍ نُسِبَت إلى أرسطو، “فيلوي أوديسفيلوس”، تلك العبارة التي غالبًا ما يتم ترجمتها إلى “يا أصدقائي، ليس هناك أصدقاء” .. تصريحٌ غريبٌ، فيما يُعَدُّ اعترافًا وإنكارًا في آنٍ واحد، وتُشيرُ بعض التَّكَهُّنات والتفسيرات إلى أن أرسطو كان يرمي إلى معنىً أبسط، أقرب إلى “كثيرُ الأصدقاءِ، لا أصدقاءَ له”. لكن دريدا كان ميّالًا إلى التناقض الظاهر في النسخة التي يُفَضِّلُها من التفسير. كان يؤمنُ أن التوصلَ إلى ما عناهُ أرسطو ربما يستطيع أن يُوصِلَنا إلى مستقبلٍ جديدٍ من التفسيرات والاحتمالات. سياسات الصداقة نشر دريدا محاضراتَهُ، في العام 1994 مطبوعةً داخل كتابٍ تحت عنوان “سياسات الصداقة”. يفتتح دريدا كل فصلٍ من فصولِهِ بقراءةٍ عن أرسطو أو مناقشةِ تأثيرِهِ على فلاسفةٍ آخرين، بما في ذلك نيتشه، كانط، والمُنظِّر السياسي “كارل شميت”. وكما هو الحال مع دريدا، فأهم ما يجب الحديث بشأنه، هو دعوته الدائمة إلى الشك في استقرار المفاهيم المتناقضة والتي نتخِذُها كأمورٍ مُسَلَّمٍ بها – الصديق والعدو، الحياة الخاصة والحياة العامة، الأحياء و”الأشباح”. يهتم دريدا في فصلٍ مُعَيَّنٍ في الكتاب بالتمييز بين الصداقة الفرديَّةِ والأخوَّةِ الجماعية، بينما يبحثُ فصلٌ آخَر الدورَ الذي تُنَمِّيهِ الأسرار في الصداقة والمجتمع. يقول واضِعو النظريات الفلسفية، إن الحياة الحديثة مليئةٌ بالأفراد المُجَزَّئين، الذين لا يَكُفّون عن البحث عن مراكزهم في الحياة، ويتساءلون عمّا قد يُحرِّكُ حياتَهم. من الناحية العملية، تبدو الصداقةُ أمرًا طوعيًّا وغامضًا، وهي علاقةٌ تنحدر بسهولةٍ لتسيرَ في خلفيَّةِ مُجرَياتِ أحداث الحياة. فبينما تبدو للبعض راسخةً ومتناغمةَ الإيقاع، فإنها تظلُّ للبعض الآخر مجردَ إعادةَ تواصُلٍ حميميٍّ تُسْتَأنَفُ فيه المحادثاتُ التي انقطعت لسنواتٍ مضت. لدينا أشخاصٌ لا يُمكِنُنا الحديثُ إليهم سوى بجدّيَّةٍ، بينما لا نستطيعُ التعاملَ مع آخرين إلا في ليالينا الثَّمِلَةِ المُفْعَمَةِ بالمرَح. يبدو أن بعض الأشخاص يُكَمِّلوننا، بينما يُعَقِّدُ من ذواتنا البعضُ الآخر. تكمُنُ العلاقةُ الحميمةُ للصداقة، كما كتب دريدا، في إحساس الشخص بنفسه في عيون الآخرين. نستمرُ في الإبقاءِ على صداقتنا بأشخاصٍ حتى إن لم يعودوا موجودين ليُبادِلونا نظراتنا. من اللحظة التي نبدأ فيها في تكوين صديقٍ، فإننا نُحضِّرُ أنفسَنا لاحتمالية أن يسبِقونا إلى الموت، أو أن نسبقهم نحن. لهذا فمن بين شديد الرغبات التي علينا أن نُعَلِّقَها بأهمية الصداقة، هي “أنه لا شيء حقًا يُضاهي هذا الأمل الذي لا مثيلَ له، هذه النشوة نحو علاقةٍ يتجاوز مستقبلُها فكرةَ الفناء والموت”. بيت مسكون تشتهر كتابة دريدا بكثافَتِها وامتلائها بالاستشهادات والإحالات والمصطلحات الغامضة، غير أن التأمل في تاريخ علاقاته الشخصية يميل إلى إعطاء تفكيرِهِ وكتاباتِهِ تقديرًا فوريًا وملاحظة نزعةِ اليأس فيها. يبدو كتاب “سياسات الصداقة” كبيتٍ مسكونٍ، ومن ذلك إصرار دريدا على أنَّ الصداقةَ تتطلَّبُ من الفرد أن يتفَكَّر ويكونَ مستَعِدًّا دائمًا لتجهيزِ خطبةِ تأبينٍ لصديقِهِ الراحل. يدفعُنا ذلك إلى الإشارة إلى مُؤلَّفِهِ الصادر تحت عنوان “الحِداد”، وهي مجموعةٌ من الرسائل التي نشرها دريدا تأبينًا وتقديرًا للأرامل وقد نُشِرَت عام 2001. يُظْهِر دريدا في مقطوعاته القصيرة تلك، فكرةَ أن التعامل مع أفكار الآخرين هو بالقطع أحد أفضل الطرق للتعبير عن الصداقة. يكافح دريدا في الكتاب لإظهار دور الشخص الراحل، وذلك لأن رسائلَ التأبين في العموم تتعاملُ بقدرٍ من التركيز مع الناجي الحيّ وحزنه على الراحلين. كتب دريدا في أعقاب وفاة “جان فرانسوا ليوتارد”، وتساءَلَ “كيف نترُكُهُ وحدَهُ دون أن يُصبِحَ فعلُنا ذاك تخلّيًا عنه؟!” بحلول العام الذي نَشَرَ فيه “سياسات الصداقة”، كان دريدا قد وصل إلى منتصف عمره، وقد عاش أكثر من العديد من أقرانه المثقفين. (تُوفِّي عام 2004، في عمر الرابعة والسبعين) يستمر الكتاب في الحديث عن شخصٍ ينعي صديقَهُ الراحل، بينما قد تكون الكتابة في الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك، وهذا حينما يبدأ دريدا في مناقشة “إنتاج فكرة الخلود”، والبحث ما بين الخلود والوقتية – على سبيل المثال، يحتوي الكتابُ على لحظاتٍ مثاليةٍ تجمعُ ما بين الجمالِ والرعبِ الشديد. “أعيش في الحاضر بينما أتحدث إلى نفسي بلسان أصدقائي”، يقول دريدا، “يُمكنني بالفعل سماعُهُم يتحدثون على طرف مقبرتي … بالفعل، على الرغم من حقيقة كوني فانيًا في تلك اللحظة. كما لو أنني أتظاهر بإخبار نفسي، مستخدِمًا صوتي هذه المرّة: عُدْ للحياة”. جاذبية استغرَقَ الأمرُ منِّي سنواتٍ لقراءةِ “سياسات الصداقة”، وبينما كنت أشُقُّ طريقي عبرَهُ، أرسلَتْني سطورُهُ لاستطلاع كتابات “دريدا” الأخرى أو حفَّزَت عقلي لمطاردةِ بعض الذكرياتِ العشوائيةِ حولَ ما كتب. ركَّزتُ قراءتي على الأجزاء البسيطة، بينما حاولْتُ استشفافَ المعاني خلفَ الأجزاءِ التي بَدَتْ معقدةً تمامًا على فهمي. تكمُنُ جاذبيةُ الكتاب في الفرصةِ التي يُوَفِّرُها لمتابعة شخصٍ يُكافِحُ في الجدال حول فكرةٍ ومبدأٍ سريعِ الزوال في التجربة الإنسانية، ويُصبِحُ الأمرُ مؤثِّرًا أكثرَ فأكثرَ كلما أحرزْتُ تقدُّمًا ولو بطيئًا. يبدو الأمرُ في بعض الأحيان كما لو أن دريدا يشرحُ أحد أساليب الحياة الغابرة، والتي ترتبطُ بتقليلِ التوتر في علاقتنا مع البشر. تبدو فكرةُ الصداقةِ غريبةً تقريبًا، وربما معرَّضةً أصلًا للخطر، في ظل عصر التواصل الاجتماعي وقنوات التواصل والتبادل المتكاثرة. وفي مواجهةِ كلِّ تلك الروابط الكثيرة أو الهشَّة، تبدو فكرةُ تمييزِ الناس وفقًا لمنطقٍ أشدَّ صرامةً من الصداقةِ المُجَرَّدةِ أمرًا عظيمًا كما لم يكن من قبل. الشبح لا يموت في العام 1993، بعد أن أنهى دريدا محاضراتِهِ، ولكن قبل أن يتِمَّ جمعُها في كتابٍ، صدرَ لهُ كتابٌ آخر، “أطياف ماركس”، والذي يُشيرُ فيه دريدا إلى كون ماركس هو بمثابة نقطةِ تحولٍ في حياتِهِ المهنيَّةِ. يُجادِلُ الفيلسوف الفرنسي في كتابِهِ -مباشرةً- النظامَ السياسيَ بعد الحربِ الباردة، ويُحاوِلُ تبديدَ الهواء المُغبّر بالأفكارِ المُسَلَّمِ بها ثم يسيرُ مُناقِشًا قضايا الغرب. “المجتمعات الرأسمالية”، يكتب دريدا، “يُمكِنها أن تتنفَّسَ الصَّعَداء، مُخبرين أنفسهم أنَّ الشيوعيةَ قد انتهت بانهيارِ الشموليةِ في القرن العشرين، بل إنهم قد يقولون إنها لم تنتَهِ فقط، وإنما إنها كانت في الأصل شبحًا”، غير أنه يُضيفُ، “لكنَّ الشبحَ لا يموت، بل يبقى ويعود”، يتحدث دريدا هنا عن نوعٍ آخرَ من الأصواتِ العائدةِ من الموت، وربما كان هذا الصوتُ يعرِفُ طريقًا أفضلَ نحو الغد. يحكي كتاب “سياسات الصداقة” عن الروابط الاجتماعية، كما يُوحي عنوانُه، وتماشيًا مع ما يمكن أن نُطْلِقَ عليه، التحول السياسي في حياة دريدا. كما يتحدث عن قدرَتِنا على تصوُّرِ مستقبلٍ جماعيٍّ يتجاوزُ الإمكانياتِ الرهيبةِ للحاضر. يكتب “دريدا”، “ليس كافيًا أن نتعلم كيف نتحمَّلُ فاجعةَ تأبينِ الآخرين، ولكن على الإنسان أن يتعلم كيف يتعلَّقُ بالمستقبل”. نموذج للسياسة ربما يُمكِنُ للصداقةِ أن تُقَدِّمَ نموذجًا للسياسة، أو رؤيةً لما يُمكِنُ أن تُصبِحَ عليه. كأصدقاءٍ، نتطوعُ لمساعدة بعضنا البعض، نختارُ أن نحتَفِظَ بالأسرار، ربما الصداقةُ هي ما يجعلُ السياسةَ مُمْكِنَةً في المقام الأول. وإلا كيف يُمْكِنُنا أن نفهَمَ ما يعني أن ندعوَ شخصًا ما كعدوّ؟ لن تظهرَ احتماليةُ الصداقة، أو معناها إلا إذا كانت شخصيةُ العدوِّ قد دُعيَت إلى ميدانِ الحياةِ من قبل، مما يُشعِرُ الفردَ بالحاجةِ إلى الحصولِ على صديقٍ، والتساؤلِ باستفسارٍ مؤلمٍ، عن الجروح، يقول دريدا، “لا صديقَ بلا احتماليةٍ للمعاناةِ من أثرِ الجروح”، كما هو الحال مع الثنائيات في الطبيعة، فبينما يحملُ نصفها بَذرَةَ الآخر، لا يَعدَمُ أيضًا قُدْرَتَهُ على تدميرِ نفسِهِ. في عالمٍ بلا أعداء، سيفقِدُ أيّا كان ما نسميه بـ “السياسة” حدودَهُ وأهدافَهُ، كما يقول دريدا في نهاية الكتاب، ويخلُصُ إلى أن “الديمقراطية ما زالت في الطريق”- بل وربما لن تصِلَ أبدًا. يقترحُ دريدا أيضًا -بِداعٍ من أملٍ أعظم- أن شكلًا جذريًّا وعادلًا من الصداقة يُمكن أن يساعدَنا على تخيُّلِ “تجربةٍ جديدةٍ من الحرية والمساواة”، وأخيرًا؛ ينتهي بتعديل الاقتباس المنسوب إلى أرسطو بحيث تُصبِحُ شطرَتُهُ الأولى كالتالي: “أصدقائي الديمقراطيين”. في هذه المرحلة من الكتاب، شعرتُ أنني غيرُ قادرٍ على فَهْمِ ما تَعْنيهِ الكلماتُ تمامًا الآن، أو ربما ما قد كانت تعنيهِ قبل ثلاثين عامًا، وانحرَفَ عقلي نحو مزيدٍ من الأفكار المُبتَذَلَةِ، مثل التفكيرِ فيما إذا كانت السياسة الحديثة مشبوهةَ الأساسِ أو لا تَحْمِلُ أيًّا مما يربطُها بمفهومِ الصداقة، والارتباط بالآخرين الذي نفهَمُهُ كمواطنين. ثم تطرَّقَ فكري بعدَها إلى كل اللحظات الحميمة، التي تبادلتُها وأصدقائي ومِن حولنا السجائر والكحول، على طرف مقبرة، والتي حاولتُ ذاتَ مرَّةٍ أن أنساها مُتَعَمِّدًا. جروحٌ من نوعٍ آخرَ خَبَرْتُها، والنشوةُ من الشعورِ بأنك قد صِرتَ معروفًا لأحدهم يومًا ما.
* ترجمة خاصة لـ “منصة الاستقلال الثقافية، عن مقال نشر في “نيويوركر” في الثالث من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، كتبه: هوا هسو.