أيتام  مع وفرة آباء… وديع شامخ

شارك مع أصدقائك

Loading

أيتام  مع وفرة آباء

……

الحياة مسرح كبير ، ولكل كائن حيّ دور فيها عبر حاضنة الطبيعة  والنظام الكوني ، والدساتير  والقوى السياسية المتحكمة بأقدار  البشرية ، ضمن هذا المدى الفيزيقي القار، ولابد للكائنات من طريقة في التوالد والنشوء والارتقاء ، فكان لابد من وجود الآباء والأبناء ، ومنها تكونت العائلة نواة  المجتمع ، وكان رأسها الأب ، فهو الحامي والقائم  القدير على حراسة مملكة   العائلة مع وجود أنثى – أناث – أم وامهات ،  في مجتمع متعدد الزوجات ، او أحادية ، ومهما يكون وصف المجتمع  سيبقى الأب هو المانح لهوية العائلة ،  وسر بقائها وخلودها ،.

ومهما  تنوعت المجتمعات  في طريقتها الاجتماعية في التكائر ،  لا يوجد   آباء لفرد واحد ، الفطرة الانسانية تفترض وجود أب وأم يكونان  مرجعين بايولوجيا  للمولود، ذكرا أم انثى ، حين وفاة احدهما يصاب الكائن الانساني باليتم بفقدان احدهما ،  وعند موت الأثنين  سيكون الانسان  ”  يتيم الأبوين” .

……

الأبوة الثانية

هناك نوع من الأبوة والأمومة ايضا من طراز خاص ،تتمثل في روحانيتها ورمزيتها ، اجتماعيا  فلسفيا ،دينيا ، قوميا ،  طائفيا ، سياسيا ، وحتى فلسفياً.

ولكن تلك العلاقات لا تصل حد اليُتم  حين تصل العلاقة الى طريق مسدود بسبب الموت او التحول او لاي سبب كان ، لأنها ليست أبوة بايولوجية عائلية حميمة. .

 بفقدان احد هؤلاء الآباء بمختلف مستوياتهم ربما يصاب الإنسان بالصدمة ، الحزن الشديد ، النقمة ،  العزلة ، الكآبة ، .. الخ ، وحسب درجة التعلّق بين الطرفين .

ولعل  من ابرز المشاكل التي تعترض  هذا الفهم  في قصة الموت ،  هو أن الأب العائلي والأم لهما عمر محدود زمنيا ، وايمان العائلة بموتها حتمي مطلق ، لانه قدر الكائنات جميعا في كوكبنا الأرضي ، وما الخلود إلا  صفة أختص بها  الله – الآلهة –  منذ أول قلق انساني من الموت كما جاء في ملحمة جلجامش ،  اذ  صار الخلود  ديدن الانسان دون ان يصله ،  واكتفى بخلوده بطريقة انسانية تتمثل في أداء رسالته عبر تمثلات ابداعية متنوعة

…. .

الآباء الرمز.. السجن .

هذا نوع من الأبوة القاسية التي تفترض سطوتها في حياتها وبعد موتها ، وكلما  تعمقت الهوة بين مفهوم الأبوة  العائلي الحميم ، اصبح لهؤلاء الآباء سطوة جمعية ، ليس على المشاعر وحسب بل في التحكم في المنظومة الفكرية  حلما وواقعا ، وصار الرمز هو العصا والكائنات هي القطيع .

صار الأب هنا يحمل رمزية مركزية بوصفه قائدا وملهما ومخلصا ، ويصبح هذا الأب إلها  بديلاً ،  للخلاص وتحقيق الحلم الوجودي في  حقل ما ،  دينيا ، دنيويا .

……

منظومة العبودية

لايُمكّن هذا الترسيخ للأبوة المطلقة ، إلا عبر فضاء عبودية مطلقة  ، وغسيل  أدمغة شامل ، تقوم به أجهزة متخصّصة  تبدأ من  بناء الوهم  والتخيل لقيمة هؤلاء الأباء  نيابة عن الجميع لتحقيق الاحلام ، واسباغ صفات القداسة  والخلاصية  عليهم.

ومن اهم مصادر هذا الأجهزة  المُرسخة للعبودية هي ابعاد هذا القطيع بحسب ” فرويد ” عن الاسئلة ، وتوفير فضاء للأجوبة الذهبية التي تتعلق بمصيرهم   تجاه قضايا تشغلهم تماما عن قيمة وجودهم في الحياة بوصف الانسان ” اثمن راسمال في الحياة ” حسب ماركس ، أو بنوة روحية محبة لله على الطريقة العرفانية في جلّ  حقولها .

يبتكرون للأب الرمز مكانة لا تقل عن مقام الآلهة وستكون الرعية حطباً  لمواقد وبخور صلواتهم .. وسيكون الجميع ” المؤمنين ” مشاريع موت  وفناء اخلاصا  للآباء الذين سوف يحلون محلاً سامياً  وخطيراً ” مثل زعيم  الأمة حلم الأمة ،  أمام الأمة ، مخلص الأمة، سيد الأمة .. الخ  ،. ..”

وحين تتحول هذه المسميات الى فروض يومية يتحول الرعاع الى ببغاوات  تستمد وعي وجودها من لاوعي مُخدر ومغيب ،  وتكون هنا الفكرة متجسمة في شخص الأب ، الرمز  لتخلق عبودية منمطة ، تدافع عن وجودها المفترض   بضراوة عارمة .

العبودية والعلاقة مع الآخر

من هذه الحقائق الواقعية في  واقعنا ، تظهر نتائج شاذة في تعامل العبد مع محيطه غير المتمثل لقناعاته ، وسوف يكون هذا ” المؤمن – المُستلب الارداة ”  كائناً أحادي البعد ، لا يمكن ان يقتنع بوجهة  نظر الآخر المختلف ،  وهنا تبدأ التصفية والمصادرة الفكرية والجسدية معا ،  كلما توفر الظرف المناسب. “!!!

….

صناعة  الآباء ومازوشية القطيع

يقول الفيلسوف إيمانويل كانط:” كُتب على العقل البشري ان يكون مُثقلاً بأسئلة ترهقه، ولا يستطيع أن يصرف النظر عنها، لأنها مفروضة عليه بحكم طبيعة العقل نفسها، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع الإجابة عنها لأنها تجاوز كل ما يملك العقل البشري من قدرات، ويقع العقل البشري في هذه الحيرة بغير ذنب منه

والمثير في الأمر  ان هؤلاء الآباء يُصنعون في مختبرات  عقائد ايديولوجية غالبا ما تكون  خارج  حاضنات  ثقافة مجتمعاتهم الوطنية ، وهنا يتم اللعب بورقتهم من قبل  لاعبين كبار على طاولات خضراء  خارج  سقف كل توقع بيادق الشطرنج .

اذن العقل يُغيب بطريقة منُظمة بدلا  من ارهاقه باسئلة خارج مداره وطاقته في ادراك عالم الميتافيزيقا ،  يدخل الآباء الجدد عقل القطيع في حالة من الفوقية التي لا تليق الا بهم ، تيجان بارقة بالأمل والحلم بدلا من  قطيع خارج مدى الحلم والتفكير إلا بالنيابة ، وبهذا المصير المظلم  تولد كائنات بشرية مُدجنّة ، مروّضة ، مخدرة ، مغسولة الدماغ لا بسب  اسئلة ترهق العقل ، وانما بفرض قناعات قارّة في عقول القطيع بحيث يصلون الى درجة البيادق في رقعة ، ويتحركون وفقا ”  لريمونت ” جهاز  التحكم  عن بعد،  ليس بالمعني الواقعي ،  لان القادة الاباء اقرب اليهم من حبل الوريد ، يسكنون حيثما يرعى القطيع ، ولكن عن بعد  أولي الأمر من آبائهم ورموزهم ،.

هكذا يكون معنى اليُتم بوجود وفرة من الآباء

……

الأبوة الروحية وحرية الكائن والمجتمع  

. هناك نمط من الأداء العلاقتي بين الناس ليس في علاقاتهم الأفقية مع محيطهم الاجتماعي ، ولا في  علاقتهم الأفقية بالآباء إذ  يأتي نمط العلاقات من موجهات بحجم التصور اليومي لها ،  من معطياتها الاولى الى مخرجاتها. .

هناك نوع آخر من العلاقة الروحانية التي تفترض عقدأً لا يخضع الى احكام  الأبوة الدنيوية تماما ، عقد شخصي محض ، يرتبط  مباشرة  مع الأب الذي تختاره بحرية وفيرة ، وتجربة روحية باذخة وعملية ، عقد تكافل وتوكل ، وليس عقد عبودية وتكاسل .. عقد ارادة وحرية .. وهناك أمثلة وفيرة  في تاريخ البشرية على مثل هذه العقود  الأفقية الحرة مع الأب  المعلم ، الفيلسوف ، الثائر ، الزاهد ،  الحكيم ، الرائي ، الأمثلة  كثيرة لا تبدأ  من سقراط ولا تتوقف عند آباء اليوتوبيات ، والثوار العظام  ، ولكني سوف اوجز هذه العلاقة  الحرة الخالية من العبودية والبراغماتية بمثالين  لسقراط  والمسيح ،  اعتقد  انهما تلخيصا لتلك العلاقة القلقة بين الإنسان والآباء

يصنف سقراط الناس الى  ثلاث فئات  في  فهم  الآخر ” الأب ، الفكرة ..” بقوله  الناس من الصنف الأول يناقشون الأفكار ، والناس من الصنف المتوسط يناقشون الأحداث والظواهر ،  والناس من الصنف الهابط يناقشون الأشخاص ” وبهذا التقسيم نخلص  الى ان سقراط كان يريد للانسان أن  يتسامى عن عبودية الشخص و” الشخصنة ”  والانطلاق الى محاور سامية لمناقشة الافكار اولا ،  وكما ..

يقول المسيح

أنا لا أدعوكُم عَبـيدًا بَعدَ الآنَ، لأنّ العَبدَ لا يَعرِفُ ما يَعمَلُ سيّدُهُ، بل أدعوكُم أحِبّائي، ….”.

 ويقول ايضا ”  هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي.” .

ستكون هذا القلائد الذهبية على جيد وعقل الانسان مفتاحاً  لاختصار الجهد البشري لمعنى التحرر  من سطوة الآباء وانتاج معنى جديد  في الشراكة الانسانية للعلاقة الأفقية المجتمعية والأسئلة الكونية مع الآخر عموديا   بوصفه ” الها ، مهلما، معلما ، حكيما ، ثائرا ، فيلسوفا   بطلا ،  رمزا،  هوية ،  ” 

 

 

شارك مع أصدقائك