هل تكتب الحرب نفسها؟

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

لحظة الغفلة أم نقص في ثقافة السلام
نُذر الحرب التي تجوب الشرق الأوسط ويتصاعد دخانها على هيئة حروب صغيرة وكبيرة، تبدو غير قادرة على وضع فاصلة استراحة واحدة في حياة شعوب المنطقة، فهي عبارة عن صراعات وتنافس بين الدول المسيطرة عسكريا في المنطقة وأذرعها القوية على هيئة مليشيات وكلها تستخدم القضية الفلسطينية لتصعيد ثقافة الحرب. ولعل أكبر ضحية لهذا الخطاب الشعب الفلسطيني l.
وفي استعادة الماضي باختصار، ما يساعدنا على استيعاب تجربة الثقافة العراقية والعربية عموما وديباجاتها عن الحرب والسلام. ..
خلال الحرب العراقية الايرانية، كتب الأدباء العراقيون والإيرانيون الروايات والأشعار، ونسخوا الأشرطة السينمائية وقدموا العروض المسرحية، ونظموا اللقاءات والندوات لتبرير هذه الحرب أو تفسير منطقها كلٍّ على طريقته الخاصة. منهم من مدح موتاها وأطنب في إبراز محاسن قادتها، ومنهم من رثى شعوبها وذرف الدمع على الأموال والأرواح المهدورة، غير أنهم إلى اليوم لم يتوصلوا إبداعياً إلى تمثّل ما يمكن أن نسميه الصفاقة والعدوانية التي دعت الداعي إلى اتخاذ قرار الحرب. تقصيّ الأديب أو الفنان أو الباحث هذا الأمر، لا يأتي في باب الترف الفكري أو الجدل العقيم، بعد أن انتهت تلك الحروب، وتولت حروب أخرى الإنابة عنها، بل تظهر أهمية ذلك الرصد في وضع لبنات فكر وأدب يستطيع تحقيق فائدة من تعامله مع التاريخ قبل أن يصبح مجرد ماضٍ لا قيمة له. ولعل الفائدة الأعظم تأتي من أهمية تسليط الضوء على تقاليد الشعوب وليس الحكام فقط، في احترام قيمة الحياة، وتقاليد الأدب والأدباء في شجب حروب مثل هذه، واعتبارها الجرائم الأبشع بحق الشعوب.
هذه اللحظة حين يتجاهلها الأدب يغدو أدباً ناقصاً، فالأدب الذي لا يستطيع الكشف عن النوازع التي ترعرعت بين أحضانها عوامل العنف والدمار والتخريب في مجتمعه، لا يملك رهافة التقاط مغزى الإبداع الإنساني. وليس من باب التبسيط القول بأن قيمة التجربة الإبداعية لكل مجموعة بشرية تتحدد في قدرتها على التأثير الفاعل في الوعي الجمعي، وخلق ضمير إنساني يستشرفه إلهام الكاتب. ولا يعني هذا أن على الأديب واجب تهذيب الشعوب والحكّام أو تقديم الدروس الأخلاقية، بل أن الثقافة بما يكمن خلفها من رغبة الاجتهاد والكدّ العلمي، تُجنب المشتغل فيها الانغمار في النوازع العاطفية السائدة بين الناس بحكم العادة أو بالنشاطات الإعلامية التعبوية التي تتولاها المنابر بعد انتشارها كالفطر في حياة الناس. بمقدور المثقف في الأقل، ألا يمضي مع الدهماء في تفسير مفهوم المواطنة على نحو يحوله إلى انتماء قبليّ ساذج.
هل الغفلة وحدها مسؤولة عن صمت الطليعة الأدبية في الوقوف ضد جنرالات الحرب أو أصوات الرعاع التي تغذي نار الأحقاد والضغائن في الشوارع الخلفية، وفي وقت تبدو الآداب والفنون على الضفتين متورطة بمشكلة الاشتباكات والنزاعات الطائفية والعرقية، أي أن قضية السلام ليست من بين همومها الأساسية.
ربما يدفعنا الأمر إلى مراجعة أنفسنا قبل أن نسأل الآخر عن درجة وعي الأديب بمسؤوليته في الظروف الحرجة، وعدم تهاونه في قضية خطيرة مثل قضية الحرب.
والحال أن وقائع الحرب العراقية الإيرانية والكثير من نتائجها بقيت طي الكتمام، فقد غطت طقوس الفرحة بالموت على كل ما عداها، وشهدت مرابد العراق الأدبية وفوداً من كل دنيا العرب، عمدّت أقامتها في بلاد ألف ليلة وليلة بالأفراح والليالي الملاح وتهليلات الحماس الموجهة إلى تلك الحرب التي لا يمكن أن توصف إلاّ بالسفاهة. وعلى الجبهات كان الدم العراقي ومثله الإيراني يهدر رخيصاً، لأن الثقافة العربية ومثلها الثقافة الإيرانية لم تتشبع سوى بقيم الموت وطقوسه.
في ذلك الوقت كان وزير الإعلام والثقافة لطيف نصيّف الجاسم الذي يتناقل العراقيون الطرائف والنكات عن أميته وجهله، كان يخطف أبصار أدباء وأديبات العرب بزيه العسكري وخطبه الرنانة عن انتصارات العراق على العدو المجوسي. لم يستطع الشاعر محمود درويش أن يمسك نفسه إعجاباً بهذا الوزير الخطير فأطلق عليه أمام مربد من المرابد المشهودة لقب ” وزير الشعر والشعراء”. شُطبت تلك الحرب من ذاكرة العرب الأدبية، فالكلمات الكبيرة دائماً قابلة لأن تُترك على المقاعد دون حساب لا لمصائر البشر ولا لقيمة المواقف. لم يبق من تلك الحرب سوى ترجيعاتها عند من عايشها من الأدباء والفنانين العراقيين من الجيل الذي شارك بعضهم جنوداً على الجبهات. ويلوح لقارئ رواياتهم أن أصحابها تحولوا روائيين بعد ذلك الهول الذي عاشوه، كما نجد تسجيلات وذكريات تنشر عن تلك الحروب التي تناسلت حتى غص بها العراق، وتعدّ تلك المذكرات والروايات بمثابة وثائق مهمة عن فظاظة ووحشية وقباحة الحرب. إنها شهادة على زمن تغيرت فيها الخارطة النفسية والاجتماعية للعراق بأكمله، حتى استوى على ما هو عليه من دمار روحي قبل أن يشمله دمار البيئة والعمران والتعليم والأخلاق وكل ما مسته هذه النار الشيطانية.
فهل لنا أن نطالب الأديب اليوم بثقافة تحترم الحياة، لعل هذا المطلب من أصعب المطالب…
شارك مع أصدقائك