حوار  مع الكاتبة  السورية ابتسام تريسي

شارك مع أصدقائك

Loading

 حاورها

احمد طايل

مصر

هي كاتبة سوريه تعيش حاليا بالكويت، لم تنسلخ مطلقا عن وطنها بل هو وطن يعيش بها وتعيش به وله، لها العديد من الأعمال الإبداعية وايضا العديد من المقالات التي تندرج تحت مسميات فكرية ورؤى حياتية متعددة الزوايا، هي متميزة بكل محتواها الأدبي والفكري، كان هذا الحوار . مع الكاتبة  السورية ابتسام تريسي

* إذا أردنا التجول داخل أروقتك الحياتية والعملية والابداعية، ماذا لديك عنها؟

على صعيد الحياة لا يمكن اختصار الجواب في أسطر. إن كان بإمكاني تقديم شيء فهو تعريف بسيط بنفسي جاء في مقدمة الحوار، يمكن أن أضيف إليه، أنّي ولدت في أسرة مثقفة. والدي محامٍ وأمّي معلّمة -رحمهما الله-متزوجة من كاتب وروائي وناقد كنا صديقين أيام الدراسة الجامعية-عبد الرحمن حلاق-. أم لأولاد أفتخر بهم وبإنجازاتهم. الشاب خريج كلية الترجمة، اعتقل لمدة سنتين في بداية الثورة السورية. الابنة الكبرى حاصلة على ماجستير في الهندسة من لندن، وتعمل الآن في منظمة الأمم المتحدة “هيومن رايتس” الصغرى درست الأدب الإنكليزي ولها رواية باللغة الإنكليزية.

عشت سنتين تحت القصف، شاهدت العديد من المجازر، انتظرت ابني سنتين، وآمنت بعودته وكتبت روايتين قبل أن أعرف أنّه ما زال على قيد الحياة “مدن اليمام” “لمار” طبعتا في الدار المصرية.

نزحت في بداية الثورة، ولا أستطيع العودة إلى سوريا؛ لأنّي مطلوبة لفرع الأمن السياسي والعسكري في مناطق النظام، وأيضًا لا أستطيع دخول الشمال السوري المحرّر حيث بلدي وبيتي بسبب مواقفي الصريحة من الفصائل الإسلامية المسلحة، وحكومة الجولاني، والتي لم أكتفِ بروايتين عنها وهما -لعنة الكادميوم-ليلاف الثلج الجاف، بل كتبت الكثير من مقالات الرأي في موقع الجزيرة مباشر.

لست موظفة، فقد منعت من التدريس في سوريا لأسباب سياسية بعد تخرجي من الجامعة.

كما منعت من التدريس في الكويت.

بالنسبة لأعمالي الإبداعية لا أجيد الحديث عنها، وأترك ذلك للنقاد والقرّاء.

* أرى أن حكايات الجدة رحمها الله كانت هى اللبنات الأولى لشغفك الكتابي، حدثينا عن حكايات الجدة ومدى تأثيرها عليك؟

كانت جدتي تنسج حكايات موغلة في التعقيد، وأنا هنا أستخدم لفظ “تنسج”؛ لأنّها كانت بارعة في الحياكة، والخياطة، والتطريز كبراعتها في اختراع قصص معظمها يدور في عالم الماورائيات، عوالم يسودها الغموض، وتتحكّم بها قوىً خفية.

وكانت تمتلك القدر الكافي من موهبة التمثيل. حين كانت تحرّك يديها أو تلوّن صوتها تعبيرًا عن حالة الشخصية التي تروي حكايتها، كنت أحبس أنفاسي، وتتسارع دقات قلبي حين تُنهي جدتي الحكاية بنهاية سعيدة تتبعها بابتسامة، وتطلب منا النوم. وقتها أتنفّس الصّعداء لكنّ النوم يهرب مني. الخوفُ من أشباح الحكايات يلاحقني في الفراش على شكل كوابيس تلاحقني فيها الجنيات، وتقيّد يديّ، وتجرّني في أرض خلاء. أستيقظ مفزوعة، فأجد يديّ تيبستا تمامًا.

* البيئة والمناخ الأسري، مدى تأثيرهم على تكوينك الفكري؟

بالتأكيد لهما الأثر الأعمق في صقل أسلوبي الكتابي، وتوجهي إلى نمط معين من الكتابة. فالكاتب ابن بيئته لا يستطيع التخلي عنها مهما حاول التمرد عليها. وظهر ذلك في عملي المطبوع الأوّل “جبل السمّاق” الذي أرّخت فيه لثورة الشمال أيام الاحتلال الفرنسي، كما جمعتُ الحكايات الصغيرة الخاصة بالبيئة المحلية، فالمكان، والناس، والأزقة، والجبال شاركت الناس البسطاء البطولة في الرواية.

المحيط الأسري الصغير كان له دور أيضًا في الرواية، ففيها السيرة الذاتية لوالدي عندما كان طفلًا، ولأسرته.

كما حضرت السيرة الذاتية لوالدي في الجزء الثاني من جبل السمّاق “الخروج إلى التيه” والذي تناول الفترة التاريخية من الاستقلال وحتى نكسة حزيران عام 1967.

في المجمل أنا ابنة هذا البلد “أريحا” المدينة التاريخية التي دمّرها زلزال، وقامت من رمادها. وما تزال تحتفظ بآثار الرومان ومن جاء بعدهم حتّى الآن. وقد ميّزها “ياقوت الحموي” عن مدينة أريحا الفلسطينية بأن أطلق عليها اسم “ريحاء”. والعوام عندنا يلفظون اسمها “ريحا”.

* ماذا عن كتابتك الأولى وعلى من تلوتيها، وما رد الفعل عليك، وعلى أسرتك؟ وهل مازلت تحافظين بهذا النص؟

وكانت أولى محاولاتي كتابة قصة وأنا في الصفّ الرابع “ابتدائي” أعطيتها لأبي وأنا خائفة من رأيه.

لم يقل أبي شيئًا، أعادها لي من دون تعليق مما زاد ارتباكي وخوفي حدّ شعوري أنّي فشلت في الكتابة، وأنّها لم تعجبه. لكنّ المفاجأة كانت عصر ذلك اليوم عندما جاء أصدقاء والدي لزيارتنا. وهي عادة أسبوعية، كانوا يجتمعون في الحديقة حول أحواض الزرع ومساكب الخضار التي يزرعها والدي “الخس والبقدونس والبندورة، والبصل، وعبّاد الشمس، والفول. كان أبي يسقي الزرع عصرًا، ويرش الزهور بالماء، ويحضّر الكراسي والطاولة للجلسة. ويأتي أساتذة الثانوية تباعًا.

مدرسو الثانوية في بلدنا كانوا من دمشق يؤدون ما يسمى عندنا “بخدمة الريف”. الثانوية كانت مقابل بيتنا، ولم يكن لها سور خارجي. وكنت أعبر الشارع، وأدخل الحديقة، وأقف تحت نافذة أحد الصفوف لأستمع للأستاذ “عدنان كماشة” وهو مدرّس اللغة الانكليزية، وأمرُّ تحت نافذة صف آخر، أقف على رؤوس أصابعي كي أصل حافة النافذة وأستمع للأستاذ “سليمان كيكي” وكان أستاذ الجغرافيا. سليمان كان شخصية مرحة حاضر النكتة، ضحكته مميزة، وكنت أحبّ أحاديثه جدًا، وقد أهدى أبي “أطلس” حين زارنا أوّل مرّة. ذلك الأطلس كان بالنسبة لي أروع كتاب أتوه في خطوطه من دون أن أفهم منها شيئًا.

عصر ذلك اليوم ناداني أبي بعد أن أكتمل العدد، وكانوا جميعًا يشربون الشاي، والبعض يدخّن، وضحكاتهم تملأ الفضاء. قال لي أبي: “هاتي قصتك، وتعالي”. كان قلبي الصغير يخفق بشدّة.

جلبت الورقة، وناولتها له. قال: “لا، اقرئي القصة”. كنت أرتجف، لا أعلم كيف خرج صوتي، وكيف قرأت. لكنّي أذكر أنّ دمعة غافلتني في النهاية، ونزلت من عيني. كانت القصة عن رجل فقير رأيته مرّة في السوق يتسول.

الجميع كانوا ينصتون إليّ. أوّل المتكلمين كان “أستاذ أبي وصديقه مدرّس اللغة العربية هاشم مجني” قال: “فرخ البط عوّام. هذه البنت لها مستقبل، ستكون وريثتك، ربّما تحقّقُ ما لم تحقّقه أنت”.

بالتأكيد لا أحتفظ بالقصّة التي كتبتها في ذلك الوقت، كما أنّي أتلفت كلّ ما كتبته قبل عام 2000 ربّما نجت بعض النصوص والمقالات المنشورة في الصحف السورية أيام المراهقة وبداية الشباب.

* ما تأثير المراحل التعليمية على اختلافها عليك إنسانيا وفكريا؟

ليس للمدرسة ذلك التأثير الكبير في حياتي. المراحل العمرية هي المؤثرة بما تحمله من صداقات عابرة ودائمة، وما تحمله من قراءات، وخبرات حياتية. الدراسة -حتّى الجامعية- لم يكن لها تأثير فكري عميق عليّ، ولم توجّهني إلى اختيارٍ يخصُّ مستقبلي، لكنّي استفدت منها في صقل اللغة باعتباري درست في قسم اللغة العربية بجامعة حلب، كما استفدت روائيًّا -فيما بعد- من خبرتي بدراسة اللغات القديمة والآثار بعد تخرجي من الجامعة.

استخدمت تلك الخبرة في كتابة رواية لم تنتهِ بعد.

على الصعيد الإنساني، العلاقات، أو الصداقات في المراحل الدراسية المختلفة هي التي تركت آثارها في حياتي الشخصية، وأيضًا الروائية. كلُّ معرفةٍ هي رافدٌ حكائي، وكلُّ صداقة تفتح أفقًا خاصًا في حياة الإنسان، والتأثير يكون متبادلًا.

حكائيًّا حوّلت الكثير من تجارب صديقاتي إلى أعمال أدبية أهمها “الصراع مع مرض السرطان” في رواية “القمصان البيضاء” كانت تجارب حقيقية لثلاث نساء لم ينتهِ مشوارهنّ المؤلم بعد.

* من الذي آمن بك كتابيا؟ وهل مازال على إيمانه بك؟

أسرتي. في المقام الأوّل، والدي، وأمّي، وأخوتي. في المدرسة الإعدادية صادرت معلمة الرياضيات دفتري الذي كنت أكتب فيه خواطري. لم أكن طالبة مميزة في هذه المادّة، بل على العكس كنت أكره الرياضيات ولا أفهمها؛ لأجل ذلك أنشغل أثناء الدرس بكتابة أشياء أخرى. يومها انتبهت المعلمة أني أكتب شيئًا لا يخص ما تقوله؛ لأنّي أضع الدفتر على ركبتي تحت المقعد. جاءت بهدوء، وسحبت الدفتر مني. كنت في الصفّ الثاني الإعدادي. وقع قلبي من الرعب، مع أنّ المعلمة عادت إلى السبورة من دون أن تقول لي كلمة واحدة، أكملت الحصة والدفتر في يدها. وعندما انتهت الحصة خرجت ودفتري معها. الرعب الذي ذقته وقتها كان سببه أنّي كتبت في دفتري عن كلّ المدرسين والمعلمات الذين يدرّسوننا، ولم يكن ما كتبته عنها جيّدًا. عند انتهاء الدوام أرسلت لي خبرًا أن أزورها في البيت لآخذ دفتري.

معلمة الرياضيات قرأت على المدرّسات في غرفة الإدارة معظم ما كتبته، وأخفت البعض. ولم تتضايق مما كتبته عنها. حين ذهبت إليها في البيت، أكرمتني بالضيافة، وصنعت لي قهوة بيدها -وكانت معلمة غريبة عن بلدنا، درّست عندنا سنتين فقط فيما يعرف بخدمة الريف للخريجين الجدد- أعادت لي الدفتر، وقالت لي: “ستصبحين يومًا كاتبة كبيرة”. أنتِ تسيرين عل خطى المازني في الكتابة الساخرة.

لا أنكر أنّي استغربت أن تكون معلمتي مثقفة بعيدًا عن الحساب والأرقام. وبقي هذا الدعم الذي قدّمته لي في مواجهة من حاولوا تحطيم أشرعتي والسخرية من موهبتي، وجعلني أكثر ثقة بنفسي، وعلّمتني أن لا آخذ آراء الآخرين على أنّها قطعية وصحيحة مئة بالمئة، فلكلّ شخص رأي يخصه، ويخضع لذائقته أولاً وربّما يخضع لحسابات أخرى كالغيرة مثلًا، أو الحسد، أو الرغبة في التحطيم لمجرد المتعة.

هذا الدرس المبكر ساعدني على الاستمرار في الكتابة رغم كلّ الصعوبات.

هؤلاء الذين آمنوا بموهبتي رحلوا عن الدنيا. لم يبقَ منهم أحد.

* النص الأول الذي ألقتيه على جمهور، أين كان ومردوده على المثقفين والنقاد؟

أوّل لقاء لي مع جمهور كان في المركز الثقافي في بلدي أريحا حين كنت طالبة في الصف الثاني الثانوي. هو النشاط الوحيد في تلك المرحلة الذي قرأت فيه قصصًا وناقشتها مع الحضور. حدثٌ ترك ضجة كبيرة في البلد فقد كنت أوّل فتاة تقوم بإلقاء شعر وقصص أمام الناس في بلد صغير ومحافظ. بعده أطلق عليّ أحد الصحفيين لقب “الخنساء الصغيرة” وكتب مقالًا مطولًا عني في جريدة الجماهير التي كانت تصدر في حلب في ذلك الوقت.

بعد ذلك اكتفيت بالكتابة للصحف والمجلات. في المرحلة الجامعية لم أشارك بأيّ نشاط أدبي. بعد تخرجي وزواجي تركت الكتابة نهائيا لمدة أربعة عشر عامًا. وأتلفت كلّ ما كتبته سابقًا. صرت أشعر بعدم جدوى ما أكتبه، وقطعت علاقتي بالكتب، وتفرّغت لتربية الأولاد. بعد وفاة والدي ومعلمي الأوّل حدثت الصدمة التي أعادتني للكتابة ثانية وشاركت وقتها بمسابقة سعاد الصباح بمجموعة قصصية كتبتها خلال شهرين متحدية نفسي والوقت ونلت الجائزة الأولى، وكان ذلك فقط لشعوري بألم لم يفارقني إلى الآن؛ لأنّي لم أجعل أبي يرى حلمه حقيقة وهو على قيد الحياة.

* حدثينا عن قراءاتك الأولى والكتاب والكاتبات الذين كنتِ تقرأين لهم بشغف كبير؟

كان أبي محاميًا وهو الذي وجّهني للقراءة منذ صغري فكان يحضر لي كلّ خميس مجلات “أسامة، سمير، ميكي” من حلب. كنت أقرأ تلك المجلات مرّات قبل أن يأتي العدد الجديد منها. وأختلس النظر بسرعة تتناسب مع الظرف إلى المجلات التي يشتريها له “المصور، آخر ساعة، العربي، الأسبوع العربي”.

علاقتي بالكتب علاقة بعالم شديد الخصوصية، فبالرغم من انفتاحه على الآخر، ومنحه لي فرصة اللقاء بحضارات، وثقافات، وفلسفات متنوعة، وبأناس يختلفون في ملامحهم، وطباعهم، وشخصياتهم، وتنوع بيئاتهم. إلاّ أنّ ذلك كلّه يكون حين أريد أنا جزءًا مني بشكلٍ أو بآخر؛ لأنّ المتلقي أو القارئ يشارك في كتابة العمل الذي يقرؤه وإخراجه بشكل يختلف عمّا أراده الكاتب لحظة كتابة العمل. تلك المشاركة تخلق الخصوصية، وتمنحني عالمًا يخصّني، أعيشه بعيدًا عن العالم الخارجي، هذا لا يعني أنّ كلّ قارئ يمكنه أن يكون كاتبًا، فهناك متلقٍ سلبي، يفضّل أن يقرأ العمل كما هو من دون أن يتدخل خياله في إعادة إنتاج ما يقرأ.

مكتبتي لها خصوصية، أستطيع التّعرف على ملامح كتبي الأولى، التي أهديت لي، والتي اشتريتها كتابًا، كتابا. هي اختياراتي العزيزة، والأثيرة، تحمل في طياتها الأيام، وروائح الفصول، والأماكن التي قُرئت فيها. رافقتني في حلي وترحالي، وفي فرحي وحزني.

كنت حريصة عليها أعتني بها، وكأنّها تملك روحًا، وهي تملك روح أصحابها بالفعل.

مكتبتي نتيجة اتحاد مكتبتين، وذلك منحها غنى واتساعًا، كما منح حياتي، فلا شكّ أنّ ارتباطي بكاتب، كان له الأثر الأكبر في عمق رؤيتي للحياة، وتنوعها، فلديّ رافد ثقافي حي، يعيش معي، يحاورني، وأحاوره، فينتج من وجهتي نظرنا وجهة نظر ثالثة أعمق، وأشمل، من دون صدام أو اختلاف.

أوّل لبنة في مكتبتي ديوان محمود درويش / الأيام طه حسين/ خان الخليلي نجيب محفوظ/ محمد عبد الحليم عبد الله / جبران / المنفلوطي / ميخائيل نعيمة/ هدية من أبي حين انتقلت من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية.

محمد ديب / ثلاثية /النول الحريق الدار الكبيرة / في الثاني إعدادي أهدتني إياها إحدى صديقاتي. أدخلتني عالمًا جديدًا، وعرّفتني على أجواء مختلفة عمّا قرأته سابقًا.

الأعمال الروسية المترجمة روائع الترجمات التي قام بها سامي الدروبي.

وقرأت ترجمات أخرى لم تكن بتلك الجودة اللغوية، لكنها في تلك المرحلة حقّقت لي الاطلاع على الآداب الغربية الفرنسية والانكليزية / شارل ديكنز / فولتير / ديستويفسكي / آغاتا كريستي / ألكسندر دوماس/ شارلوت واميلي برونتي / مرغريت ميتشل/ فيكتور هيجو/ إرنست همنغواي.

أهدتني صديقة أخرى في المرحلة الإعدادية أعمال غادة السّمان / لا بحر في بيروت / حب / عيناك قدري / رحيل المرافئ القديمة/ وكانت نقطة تحول في قراءاتي ونقطة تحول في أسلوب كتابتي.

إحدى صديقاتي أهدتني ديوان لنزار قباني قرأته في الفرصة، وأعدته إليها، فقد كانت أشعار نزار قباني وروايات إحسان عبد القدوس من المحظورات التي وضعها أبي في خطة القراءة. في الأول ثانوي سجّلت دورة تعليم آلة كاتبة في الاتحاد النسائي وكان هدفي الأول استعارة كتب مكتبة الاتحاد وقراءتها. روايات إحسان عبد القدوس كاملة. روايات نجيب محفوظ كانت من الأعمال المسموح لي قراءتها فلم اضطر لاستعارتها من المكتبة.

* حالما تكتبين ما الأهداف والمعايير التي تضعينها أمام عينيك؟

لكلّ عمل أدبي رسالة خاصة به، على الرغم من أنّي أعتبر الكتابة “عملًا” أقوم به بشكلٍ منتظم، إلّا أنّي لا أستطيع وضع معايير وأسس مسبقة له، يمكن القول إنّي أضع مخططًا، وأدرس الشخصيات، وأندمج بعالمها قبل البدء في الكتابة. عملية الكتابة تفرض طقوسها، ومعاييرها الخاصة أثناء الكتابة، وأحيانًا لا يمكنني التدخل فيها، فهي تأتي عفو الخاطر.

* نصك الاول المنشور هل كان سببًا وحافزًا كبيرًا للاستمرار في اعتراك الكتابة؟

بالتأكيد النص الأوّل المنشور له أهمية كبيرة في حياة الكاتب، فهو الخطوة الأولى في الألف ميل! ويبقى محافظًا على وهجه زمنًا طويلًا. وهو أيضًا المعيار الذي يقيس الكاتب به مدى تطور أسلوبه في الكتابة، وتمكّنه منها. لكن دوره يتلاشى حين يمتلك الكاتب أدوات الكتابة. ويصبح كاتبًا معترفًا بموهبته من القرّاء والنقاد.

* لمن تكتبين، لك او للآخر أم عن الآخر؟

أكتب لكلّ الذي ذكرتهم.

لي؛ كي أستطيع الاستمرار في الحياة.

للآخرين؛ لأنّه لا يوجد أدب من دون قارئ!

عنه؛ لأنّ الناس والحياة هما المادّة الأساسية لصناعة عمل أدبي، فلولا حكاياتهم وواقعهم المعيش لن تكفي المخيلة لكتابة عمل أدبي متكامل. فالرواية ليست محض حكاية ترويها الجدات قبل النوم، بل فيها الحياة بكلّ تفاصيلها المؤلمة والمفرحة، وتكاد تلك الحكايات تكون بعدد البشر في هذا الكون، فكلّ إنسان رواية!

* كيف ترين المشهد الثقافي العربي حاليًا وما أسباب الفجوة الكبيرة بينه وبين الثقافات الغربية، وكيفية حدوث تقارب بينهم؟

عندنا أولا أزمة قارئ وهي غير موجودة في الغرب. ترفدها أزمات أخرى معظمها تتعلّق بالتسويق والإعلام ودور النشر. الأزمة أثرت على الكتّاب الذين يقدّمون أدبًا جادًا، ولا يجدون قارئًا، ولا ناقدًا يهتم بما يكتبون.

البعض يميل إلى مراضاة الجمهور فيكتب بمقاسات مسبقة تفرضها دور النشر، أو الجوائز، أو الترجمة.

سدّ الفجوة يحتاج إلى مناخ سياسي حرّ أولا، وإلى قارئ “شبعان” بمعنى أنّ تفكيره لا ينحصر بلقمة العيش. كيف يستطيع القراءة من يبحث عن الرغيف، ومن لا يملك حريّة التعبير عمّا يفكّر به!

* ما مدى تأثير المشهد السياسي على الثقافة من وجهه نظرك؟ ومن يقود الآخر السياسة أم الثقافة وتأثير كل منهما على الآخر؟

في عصرنا كلّ شيء خاضع للسياسة، وليس من باب التشاؤم أن أرى أنّ الثقافة لا تؤثر على السياسة، بل هو واقع الدول العربية التي تحكمها أنظمة عسكرية، وأخرى ملكية هشة وخاضعة لقوى أكبر منها؛ لذا لا يوجد توازن ولا أطراف تتبادل التأثير، هناك قوة حاكمة وأخرى مخذولة. والمشهد الثقافي عمومًا يعيش وسط مناخ غير صحي بالمطلق.

* ما رأيك بالملتقيات الثقافية، والجوائز الأدبية؟

الملتقيات الأدبية في معظمها تجمّع لكتّاب تربطهم صلات صداقة، أو مودة، أو معرفة في أغلب الأحيان، فتصبح “جلسة” تبادل للمديح ورفع المعنويات. مما يجعلها بعيدة عن الهدف الأساسي من إنشائها. مع ذلك هناك بعض التجمعات التي تسعى لنشر الفكر أو الأدب، وتحفيز الجمهور على القراءة وهذا أضعف الإيمان.

بالنسبة للجوائز هي سلاح ذو حدين كونها تمنح الفائزين فرصة الشهرة، والثقة بالنفس، وتحفزهم على الاستمرار في الكتابة، وفي الوقت ذاته تكرّس في اختياراتها أنماطًا فكرية معينة، وتحدّد شكل الأدب ومقاييسه، وهي مقاييس خاصة بالجائزة نفسها.

كما أنّ بعضها يكرّس التفاهة ويقدّمها كنمط كتابي هو الأكثر مبيعًا!

* كيف ترين المشهد النقدي حاليًا؟

هل النقد موجود؟ في القرن العشرين كان النقد متقدمًا على الرواية، راصدًا لها ومتفوقًا عليها. في زمننا توجد أعمال أدبية هائلة لم يعد يواكبها النقد؛ لأنّه باختصار غير موجود. هناك مقالات، قراءات انطباعية، ملخصات للرواية المقروءة، لكن لا يوجد نقد حقيقي وجاد يفكك العمل الأدبي على طريقة النقّاد الأوائل. حتى الكتب النقدية صارت قليلة جدًا. ربّما يكون السبب تسيّد وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت بشكل كبير في انتشار الكتابات السهلة والقصيرة والسريعة وانتشار التفاهة بشكل كبير، وسهولة السرقات، أو كتابة أيّ كلام تافه ونسبه إلى قامات أدبية معروفة.

* هل للكاتب عمر افتراضي؟

العمر الافتراضي يكون للجسد، الكاتب يستخدم عقله ومخيلته، وهذان لا يشيخان أبدًا، ما دامت الحكاية هي ملعب الجدات أولًا والأمّهات ثانيًا ومن ثمّ الكتّاب. الكاتب باعتقادي الشخصي لا يستطيع شيء إيقافه عن الكتابة سوى الموت!

* ما مشروعك الإبداعي القادم؟

بين يديّ الآن رواية محورها “عبد الحليم حافظ”. لا توثق الرواية حياته الشخصية، بل تتجاوز ذلك إلى تأثيره العاطفي والروحي على جيل كامل -هو جيلي بالمناسبة- وعلى الرغم من بحثي الدؤوب والدقيق عن المعلومات التي أستخدمها في الرواية إلا أنّي أواجه الكثير من الصعوبات بسبب عدم تمكني من أخذ المعلومة من أشخاص تواجدوا في حياة حليم في السنوات التي ترصدها الرواية. لكنّي لن أتوقف عن البحث، فأنا على ثقة أنّي سأنجز العمل كما أتخيّله تمامًا.

* مشروع فكرى تتمنين أن تكتبينه؟

عدا عن المقالات السياسية ومقالات الرأي التي أكتبها لا أفكّر حاليًا بالكتابة الفكرية أو النقدية؛ لأنّ هناك الكثير من المشاريع الروائية التي أتمنّى أن يسعفني العمر لأنجزها. بعد ذلك من الممكن أن أفكّر بكتابة شيء آخر.

* الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى أمر لا وجود له بشكل يُعرِّف العالم بكتابتنا، من المسؤول عن هذا القصور؟

المسؤول الأوّل المؤسسات الثقافية! لكن المصيبة تكمن في أنّ تلك المؤسسات ابتعدت عن الأدب والمشاريع الجادة واكتفت بالتسويق لما هو تافه وترفيهي. وتلك خطّة الحكومات والسلطات لإغراق الشعوب بما هو غريزي، وإبعاده عن التفكير بالقضايا الكبرى.

أنت تفكّر إذن أنت حرّ، والحكومات العربية لا تريد شعبًا حرًّا؛ كي لا يثور عليها. ولا شعبًا مفكّرًا كي لا ينتقدها. تريد أن يبقى تفكير المواطن محصورًا بالحد الأدنى من متطلبات الحياة ألا وهو “لقمة العيش”؛ كي يتسنى لها قيادته والاطمئنان أنّه لن يشذّ عن القواعد الموضوعة له. في مثل هذا المناخ تنشأ بعض المبادرات الخاصة والشخصية لترجمة بعض الأعمال. لكنّها تبقى على نطاق ضيّق، وتهيمن عليها المحسوبيات أيضًا.

في المقابل تنشط الترجمات عن اللغات الأخرى إلى العربية، وترى الأعمال المترجمة هي الأكثر مبيعًا في الوطن العربي؛ لأنّ شعوبنا ما تزال تشعر بالنقص أمام المنجز الغربي متناسية أنّ معظم هؤلاء الذين يطبلون لهم قد أخذوا قصصهم عن “ألف ليلة وليلة”!

* رسائل إلى كلٍّ من.

* ابتسام تريسي.

ما زال هناك أمل.

* مسئولي الثقافة العربية.

أين أنتم من الوضع الثقافي لأمّة “اقرأ”

* * الإعلام الثقافي.

تغيير الحال من المحال! متى ستثورون على هذا الشعار؟

* * دور النشر.

أتمنّى “والأماني لا تتحقّق؛ لأنّها تدخل دائرة المستحيل” أن تنظروا إلى الأعمال الأدبية على أنّها “خلق، وعصارة فكر وروح الكاتب” وليست سلعة تحقق ربحًا ماديًا فقط.

* الكتاب والكاتبات.

لقد اخترتم أن تكونوا حطبًا للمحرقة، وعليكم أن تتحملوا نتيجة الاختيار الحرّ.

شارك مع أصدقائك