زعيم النصار…”ماء غريب” والبحث عن عشبة الوجود.

شارك مع أصدقائك

Loading

علي حسن الفواز

قصائد في العزلة أو في الطريق اليها للشاعر زعيم النصار، تدفع قارءها الى الاستفزاز، حيث تنزع اللغة ذاكرتها لتبدو عاريةً، طليقةً، تقتربُ من غموضِ تلك العزلة، وكأنها تدفعه الى ما يشبه طقس كتابتها، حيث التعرّف على شغفه ووجوده، وعلى المخفي من اسئلته الفارقة، إذ تتحول تلك الكتابة الى لعبة غاوية، تُحرّضه على اصطناع استعارات اللذة، ومجاراة جوّها ورموزها، لا يبدو فيها الشعر نرجسيا، لكنه يسعى الى تمثيل وجودها عبر ثنائيات المتعة والألم، والصحو والسكرة، والحضور والغياب، وبما يجعل عزلته تبدو وكأنها وجود مواز..
عنوان كتابه الشعري ” ماء غريب” الصادر عن دار اكاد/ بغداد/ 2022
ذو وظيفة استرجاعية، حيث يُحيل الى ثنائية فارقة بين “ماء غريب” بإحالاته الى عالم لطفولة، وبين فكرة “الماء” بمرجعياتها المثيولوجية، والصوفية، حتى يبدو الشاعر وكأنه يسعى الى تحويله الى استعارة مفتوحة تقوم على فكرة إيقاظ الغائب الباحث عن ارواءات لا تنتهي.
يكتب الشاعر في فضاء “ماء غريب” عن اشياء عالقة، أو غائبة، أو بعيدة، لكنه يتذكّرها، أو يستدعيها، حيث يحتفي بها، ليكشف من خلالها عن هواجسه يتغوى بين الاحتفاء والانكسار، إذ يجد في هذه المفارقة، تمثيلا لوجوده، وايهاما للاحتفاء بالتعالي كمزاج استعاري، وبما توحي به اللغة من ايحاءات، تُتوّجه رائيا لما يحتفي به العالم أو ما يضمره، قلقا، حالما، متعاليا، لا اوهام له سوى البحث عنها توقا لشهوة الاعتراف والخلاص، ولكل ما يجعله ينحو باتجاه اشباعه الرمزي، فتبدو الاستعارات وكأنها مجسّات، تتحرك عبرها اللغة باتجاه الإيهام والاشباع، والتشهي بما تصنعه لعبة “التمثيل اللغوي” من استدعاءٍ تتشظى عبره تلك الاستعارات..
صوت الشاعر ب”نبرته الخافتة” كتوصيف اطلقته فاطمة المحسن، يتحول الى صخب عميق، يستعيد به الطفولة، والوجع، حتى يبدو وكأنه كناية ماكرة عن ما يتشظى من ضجيجه الداخلي، ومن احتجاجه الصاخب، لذا يستدعي عبر شفرة “ماء غريب” وهو عنوان كتابه الشعري، الرمزي في الطفولة، والفاجع من التاريخ، كمحاولة لترميم عالمه، ولاصطناع ضدٍ استعاري للعالم الخارجي، ولمواجهة محنة وجوده الشخصي الذي يمور بالأسى والوجع والانتظار والمناجاة، فيكتب قصيدته وكأنه على وعدٍ باستدعاء ما يشبه بطولة ما، يتمثلها عبر احالاتها الرمزية والحسية، للتعويض، وللمكوث في ما تصنعه اللغة، حيث تتبدى لعبة الشاعر الاستعارية اكثر استغوارا، للكشف عن المخفي فيها، ولما يبدو متميزا بحزن شفيف، هو ذاته الحزن الجنوبي الذي يخاتل عبر الاستعارات والاقنعة.
*
الشاعر وهاجس المغامرة
دأب الشاعر النصار- منذ بواكيره- على التلبّس بهاجس المغامرة، فبقدر قربه من شعراء “السبعينات والثمانينات” الذين حاولوا تجاوز ما استتب من “اعراف شعرية” فكان يراود “لحظته الشعرية” بحثا عن تمثيل استعاري لحريته في مواجهة استبداد التاريخ والنمط والسلطة، واسئلة الذات المفجوعة بالفقد، والمسكونة بحمولات الذاكرة ومناخاتها المشغولة بانثيالات اليومي والاسطوري..
يكتب النصار عزلته، بوصفها عزلة متعالية، حيث تبدو فيها عناوين قصائده وكأنها عتبات أو نصوص موازية، ذات مزاج شخصي، نافر عن الذاكرة، يهجس من خلالها بقلقه الوجودي، أو ب”وعيه الشقي” بالتوصيف الهيغلي، ليس لأنسنة قلقه، وتحويل الوعي الى محاولة في التطهير او الخلاص فحسب، بل الى اعطاء لغته الشعرية مساحات ضافية لأسطرة تلك العزلة، حتى تبدو الأقرب الى ما يشبه العزلة الفلسفية، المسكونة بالتأمل وفكرة “الرثاء الوجودي” حيث يتناظر فيها الرثاء الشخصي مع رثاء العالم، فينكبُّ من خلالها على تمثيل هذا الرثاء بوصفه وجعا شخصيا، او اصطخابا يتشظى في يومياته، بوصفها يوميات غامرة بإشارات الصعلكة والسأم والتمرد والبحث، وعلى نحوٍ استثمر فيها لعبة النثر الشعري في اباحته وكثافته وقصديته، وفي احالاته، وفي مجازاته الشعرية:
” وحيداً مع لهبي،
ستتهجى حنجرتي وحدتها، حرفاً، حرفاً،
لتكشفَ الحكمةُ عن فقدانها لعمق جناحين،
لأمضي سائراً بعيداً عن أبناء
مدينتي،
سأصعد نحو حياتي صامتاً، أرسم الأنهار وهي تتلوى كالأفاعي بين الحقول،
أثقب ثمرة التين، أملأها بالحبر، فتسكر البلابل، اصغي للغةِ الطير،
أفكّر بحريةٍ هربتُ منها لأبتهج وحدي”
انحياز هذه اللغة الى تمثيل فكرة الوحدة، هو انحياز الى حياةٍ يجدها الشاعر أكثر بهجة رغم “غلظتها”، إذ تدفعه الى التطهير، التفريغ، كاشفة عن كثير من سرائر قلقه الوجودي، إزاء الغائب في الحب، ومن الأمكنة، والزمن والتاريخ، فيعدُّ لها توصيفات تتمحور حول ” الأنا” عبر “تاء الفاعل” التي تتحرك في زمن توصيفي دال على زمن نفسي، الذي هو الزمن وجودي للشاعر.
*
أسطرة المكان- أسطرة اللغة
بقدر ما ينحاز الشاعر الى التلذذ بشعرية عزلته، فإنه لا يُخفي عن ما يمور في داخلها من حزنٍ مشبوب بالقلق، حيث تحتشد شعريته بالاستعارات والمجازات، حتى تبدو تلك الشعرية وكأنها تضمر المخفي من وجوده، لتتبدى عبر ما تفضحه اللغة من تعويض ايهامي، فأمكنة الشاعر الجنوبية- اوروك، لارسا، نهر الغراف، قلعة سكر” تنسحب من التاريخ الى ما يشبه الأسطرة، فيتسع سحرها ليمسّ ما عميق في يوميات الشاعر، وفي فضاء استعاراته، حيث تُصيبها بعدوى الأسطرة، كاشفة عن ذلك القلق الذي كثيرا ما يتسرّب، أو ينفرُ، متماهيا عبر صورٍ، تتمثل وجوده الذي يبدو شائها أمام قسوة التحوّل، والاغتراب والحزن، فبقدر ما يجعل لغته شرهة عبر تمثيلها التعويضي/ الاستعاري، فإنه يعمد الى جعلها تنزع الى التجريب، بوصفه مغامرة في وعي الكتابة، وفي استدعاء رموزه الشعرية، فاضل العزاوي، فوزي كريم، سعدي يوسف، زاهر الجيزاني، عبد الزهرة زكي، إذ يحتشد قاموسه الشعري بما هو متوارٍ من استعاراتهم، ليؤسس ما يمكن أنْ نُسمّيه ب” الأثر” في ملاحقة الرمز، وشعرية الحكاية” في تقصي سيرة الشاعر، بدءا من سيرة الطفولة الى توهجات “لحظته الشعرية” وما تحفل به من تحولات فارقة، ومن هواجس واحلام واسئلة، لها تمثيلها الشعري، ولها هوسها الاشباعي، عبر التقنّع بظلال المغامرين الذين يشبهون رامبو وبودلير، الذين أدركوا العالم عبر التحوّل، وعبر اكتشاف الوجود في لحظته الحسية المتعالية، وعبر استدعاء الجسد في انكساره واغترابه، وفي لعبته القاسية داخل ذلك الوجود، فلا يجد الشاعر سوى الانخراط في لعبة مفتوحة، على دالات التسمية، وعلى ما تصنعه من استعارات مفتوحة، تتبدى من خلال احالاتها للزمن، أو ل” المجهول البعيد” أو ل” المرأة الغامضة” أو للأسطورة السومرية وما تهجس به من شفرات للخلق والاسفار وشهوة تحوّل الكائن، إذ وظّفها الشاعر للتصريح ب”اصواته الداخلية” وبلعبته الغاوية في الاستدعاء، حيث الشغف بالإشباع، والتطهير، وبقداس الاسطرة، فتتحوّل “الأمثلة السومرية” في عديد القصائد الى موجّهات، أو الى عتبات تقود الى قراءة لما هو غائر في عوالمه الشعرية.
*
النصار وشهوة النثر
لعبة الشاعر في اجتراح هوية نثرية لقصائده حملت معها نوعا من التحدّي، ليس لأن الشاعر يحمل وزر شعراء النثر “الثمانيين” كما هو متداول في الأجندة النقدية، بل لأنه وجد في “قصيدة النثر” سعةً لكتابة “قصيدته الحرّة” الشخصية، والمثيرة، التي تُبيح عبر نثريتها شغفا بتحدي التاريخ والذاكرة، واستدعاء لهواجس الشاعر الحالم، المتمرد، الصاخب، الباحث عن ذاته وسط عالم يضيق ب” الشعراء المغامرين” الباحثين عن وجود آخر عبر اللغة كما يقول هولدرين، إذ تصطنع اللغة فردوسا استعاريا، ومكوثا متعاليا، ومدنا شائهة، وتقانات “اسلوبية” تُعطي للقصيدة جدّتها وسحرها وغموضها واشراقها، وتُعطي للشاعر “فسحة” لرؤيا العالم عبر شعريتها، إذ يستدعي المثيولوجيا والسحر والماء والسيرة الشعبية وامكنة الطفولة، وعلى نحوٍ يكون فيه “ماء غريب” ترياق الطفولة، معادلا لــــ”ماء الغراف” ترياق وعيه، ويكون “كلكامش السومري الملحمي” الباحث عن عشبة خلوده: نظيرا لـــــ”الشاعر” الباحث عن عتبة وجوده، وتكون “الجملة النثرية” مقابلا لـــــــ” الفكرة الشعرية” التي تتكثف، وتتوهج، تتوتر، وكأنها تقوم على قصدية وعي الاشتباك بينهما، حيث ” تتعظم حاجته إلى اختراعٍ متواصل للغةٍ تُحيط به، ترافقُ جريه، تلتقطُ فكره الهائل التشوش والنظام معا. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي” كما يقول أنسي الحاج:
“أيتها المدينة،
يا حقيبة أيامي،
لوكان بوسعي أن أموت،
لما عبرت نهركِ نحو المنافي،
لم أكن بعيداً عن عطركِ،
أحصي بمروره المنازل،
خطوة، خطوة، حتى أنني أهرب من هذه الذكريات
التي تجعل من معطفكِ، معطفَ الخيال،
أهربُ
لأسير عارياً
كأنني وصلتُ من غابة انكيدو إليك”
من الصعب ترسيم حدود قصائد هذا الكتاب الشعري، لكن من السهل معرفة ما ينماز به من احالات، ومن اشارات، وحتى من خصوصية، فزعيم النصار اراد أن ينحاز الى ما تصنعه اللغة، والى ما يتبدى من قصيدته الشخصية، قصيدة الأنا المُعذّبة، لكنها الرائية لعذابها، والشاهدة على عالم يستدعي الطفولة لكي لا يشيخ، أو يستدعي الماء لكي لا يجفّ، ويستدعي الأسطورة لكي لا يتحسس الموت/ الفقد/ الألم الا بوصفه وجودا متعاليا..
كتابة قصيدة “الأنا” ليس تأسّيا لها، بل أجدها الأقرب الى تمثيل فكرة التطهير، التي تحضر بوصفها استعارة كبرى للإيهام بما يشبه الخلاص، فيبدو من خلالها الشاعر وكأنه يتملس وجوده، من خلال تمثله لإشارات اليومي والحسي، والاستعادي، وهذا ما يجعل قصيدة النصار، تتجاوز “نبرته الخافتة، الى خطاب حاد، مجاهرا بسيرة تلك “الأنا” المعذبة التي هربت من الواقع الى المنفى، ومن السياسي الى الاسطوري، ومن التاريخي الى الاستعاري، ومن الخوف الى المرأة، ومن الوجود الى اللغة..
شارك مع أصدقائك