حوار  مع  الشاعر المغترب  وديع شامخ

شارك مع أصدقائك

Loading

 حاوره  / عبد السادة البصري

 

  الشاعر المغترب  وديع شامخ  ل( الاتحاد الثقافي):

*كافأني الشعر خيرا ، لأني سقيته بماء روحي وخلاصة تجربتي الحياتية والفكرية ، ولم اتكئ على الموهبة وحدها

*- روايتي  ” العودة الى البيت ” كانت  الجنس الأخصب  لتحقيق حلم الشاعر .. وحكايتي مع  الكتابة في التاريخ  كانت مصادفة جميلة  حين كنتَ  في عمان.

*-لا اعاني غربة بل  ” منأى ”  جغرافي فقط ، الغربة العاطفية يمكن ان تتكفل دموع اللحظة  بفك قيودها .. وكتبي الحوارية  نتاج نزوعي الحواري في الحياة  أولا، ورغبتي في قراءة الآخر الند.

*-لا يمكن ان تكون  فروض سوزان  برنار ”  كتاباً مقدسا” او خارطة طريق لكتابة النص  الشعري .. وأنا في حالة صيرورة دائمة وإمتلاء يومي ،في التزود بخبرات وتجارب قرائية وسماعية وبصرية جمالية وحياتية

وهو يرتّب ( العودة الى البيت ) كان يقول ؛ ( سائراً بتمائمي صوب العرش ) جئت حاملاً ( دفتر الماء )لأؤكد ( ما يقوله التاج للهدهد ) عن ( مراتب الوهم ) التي سجّلها بعدسته ( مصور شمسي ) كاتباً فوقها ( لا وارث لي ) وليعلن عبر ( صافرة إنذار لوجود شاحب ) عن الفتى الذي خرج من البصرة ذات ليلة ممطرة قد أكمل مشوار رحلته عبر البحار والمحيطات ليستقرّ في قارة بعيدة تسمى ( استراليا ) ومنها سيبعث بتأشيرات دخول السفن المحمّلة بالإبداع صوب مراسي الطفولة والصبا والشباب ..عن كلّ هذا السعي والإنتاج الإبداعي افترشنا مساحة البريد الالكتروني لتمتدّ روحانا محلّقة معاً في حوار أعددنا له المائدة والكؤوس على سطح مياه المحيط مع المبدع العراقي المغترب الشاعر والإعلامي وديع شامخ فكان هذا الحوار ..

*ابتدأتَ بــ ( سائراً بتمائمي صوب العرش ) لتعبر سفينتُك بحاراً كثيرة وصولاً الى (صافرة إنذار لوجود شاحب ) ، كيف استقيت تجاربك عبر هذه الرحلة وقد مررت بمفازات ومخاضات متعددة ؟

– رحلة الشعر ليست نزهة ولا نزوة عابرة ، بل قدر روحي  وخيار جمالي وانساني ، ونزيف  الروح  ساعة المواجهة، وخصوصا عندما تكون المحطة والشرارة الأولى من مدينة عظيمة مثل البصرة ، مدينة الابداع شعرا وسردا  وفكراً وجمالا، ان تدعي الشعر في البصرة هو مغامرة لابد أن تكون محسوبة ،  لوجود قامات  أثرت التجديد الشعري، منذ  العصر العباسي على يد بشار بن برد وابي نواس وسلم الخاسر حتى ثورة الشعر الحديث على  يد السياب ورفاقه ،وبوجود قامات سامقة  مثل محمود البريكان وسعدي يوسف ومن استلم شعلة  الأولمب الشعري بعدهم ،لذا كان الاعلان عن بوحي الأول في مجموعة ” سائرا بتمائمي صوب العرش  1995- دار الحكمة – جامعة البصرة ”  صرخة وجودية للإعلان  عن ولادة الطفل الشاعر المخبوء تحت هواجسي وقلقي وطموحي الجامح  .

نعم تحملت وزر المغامرة ، وقد كافأني الشعر خيرا ، لأني سقيته بماء روحي وخلاصة تجربتي الحياتية والفكرية ، ولم اتكئ على الموهبة وحدها ، التي كانت بالنسبة لي  خط الشروع الأول ، ومن مفارقات  ولادة هذه المجموعة انها ولدت بنسختين فقط ، وتناسلت بالاستنساخ لاحقا وكتب عنها الناقد ريسان الخزعلي مقالة مهمة بعنوان ” النور في قصيدة الظل ” وهو الناقد الذي واكب تجربتي  اللاحقة  بكل محبة ، وهي ايضا تجربة في ثقافة الاستنساخ  التسعينية في السرد والشعر والفكر لاحقا في  الحياة الثقافية العراقية خارج مساطر الرقيب والسلطة .

وبعدها كان الرحيل الأول نحو  بغداد ، ” الهجرة الأولى ” ، وفيها خضت تجربة مغايرة ، إذ أجبرني الأصدقاء الذين آمنوا بموهبتي أن أخلع رداء ” الخجل البْصِري”   وأشهر بضاعتي الشعرية للآخرين خارج شفاهية الحضور بعد أن جئت الى بغداد وانا متحصن  فكرياُ  من خطورة المدن والاضواء وثقافة الإشاعة  ونموذج الادب السلطوي السائد  رسميا  ، فولدت مجموعة ” دفتر الماء.. بغداد  2000.. دار مدى ، بعد أن كتبها بخط يده الجميل  الشاعر والناقد ريسان  الخزعلي ، وحمل النسخة الروائي الدكتور طه الشبيب  الى وزارة الثقافة للحصول على الموافقة الرسمية لطبعها ، ومن حسن الحظ ان التقيت الراحل سامي محمد الذي اخبرني بأنه  قرأ مجموعتي وأجازها  دون حذف حرف منها بوصفه الخبير الفاحص  لمجموعتي آنذاك “دفتر الماء ” 2000، وبها تعمقت رؤيتي للشعر ليس بوصفه مجموعة أغراض مقننّه ، ولا الشاعر بكائن عاطفي يعتمد  على رد فعل للكتابة ، الكتابة الشعرية غور عميق ، وقد كانت  قراءاتي للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار  تحديدا وغيره من المؤثرات الجمالية ، حافزا لإنتاجي لدفتر الماء .وفي عام 2001 كانت ” الهجرة الثانية  ” ، اذ غادرت العراق  الى الأردن ،وهناك انفتحت لي آفاق لاثراء تجربتي  بكامل الحرية ، وابرزها الخروج من  النمط السلطوي والتفكير الآحادي  والوصول الى المصادر  بلا أقنعة وعناء ، مثلما كان يحصل في العراق آنذاك .

كنت كل يوم  في عمان أعيد  السؤال  في  نظرتي لوظيفة الشعر ، أعيش المكان بعشق  كي أطوّر قدراتي الايجابية لانتاج الجمال ، وحين جاءت لحظة ” الهجرة الخاتمة ” الى استراليا   12-2007 ، واصلت   الحفر والتنقيب والتجريب للوصل بكل مجموعة الى تجربة شعرية منفصلة موضوعاتيا وحتى اسلوبيا، فكانت سلسلة المجاميع التالية ” ما يقوله التاج للهدهد، دمشق 2008 دار ينابيع ، مراتب الوهم ، دمشق الينابيع 2010، مصور شمسي ، دار ميزوبوتاميا  2014، قل ولا تقل ، 2017  منشورات اتحاد الادباء والكتاب في البصرة ،  لا وارث لي ، 2022 منشورات اتحاد الادباء والكتاب – بغداد ، صافرة إنذار ٍ لوجود شاحب ، 2024، دار العنقاء للنشر ..

بهذا النتاج الشعري ، لم أكن  أصدر هذه المجاميع بشكل تراكمي إطلاقا ، فكل مجموعة تجربة واختمار ، قلق وسؤال ، ومناخ  شعري بطعم ولون ورؤيا خاصة بها.. لأني أكتب الشعر بوهج الدفقة الأولى ، ولكنها ليست لحظة عابرة ، بل هي حبلى بكل تجربة حياتية ، كتابية ، قرائية ، سمعية ، بصرية ، وطوال ابحاري الشعري  لم أكتب نصاً مناسباتياً ، ولا لبّيت دعوة جهة أو شخص، ولا ارضيت غرور أحد ، أكتب الشعر كما أتنفس حياتي بأوكسجين مداف بكل الاشعاعات الملوثة، وأخرج منه رؤيا جمالية وإنسانية . لكني لم أولد  كنبات فطري بلا  مراجع ، لقد سكنتْ فيّ أرواح شعراء وكتّاب وفلاسفة ومفكرين وموسيقيين ومطربين وعاهرات  ، وممثلين ، وباعة وصيارفة ،  ولصوص ومجرمين ، عاشقين وعاشقات مدن ، طبيعة ، بحر ومحيطات ،  سجالات مع نظراء أنداد ، معلمي اليقظة والسؤال ، لقد هضمت كل خراف  مرجعياتي لأكتب نصاً يتماهى مع أسد ” فاليري” ، الشعر معلمي الأول ، وسأبقى طفلاً في حضرة الجمال.

حظيت تجربتي  بحبور التلقي من قبل نخبة من النقاد والمؤولين عراقيين وعرب ، وجمهور جمالي أشبع حواسي في الفرح  والقلق الجمالي .

*تنوّعت اشتغالاتك بين الشعر والنقد والرواية والتاريخ إضافة الى الحوارات الجادة ، كيف استطعت التوفيق بينها ، وكل جنس منها يحتاج الى تجارب وسبر أغوار عديدة ؟

– الشاعر لم يعد  رايةً لقبيلة ، ولا ناطقا رسميا بإسم جهة او حكومة او حزب ، الشاعر ابن عصره ، يتنفس بهواجسه الجمالية ولواقطه الرؤيوية  فيما يدور حوله ، ليكون فاعلاً ، لا منفعلا، باثاً  لا مُستقِبلاً  فقط ، اي أنه لا يترهبن  في دير  الشعر،  وصومعة  الذات ، لما تقتضيه المرحلة من التواصل خارج حدود النص الشعري لمن له الموهبة والقيمة والمشروع ، وهذا ليس فرضاً  ولا قاعدة ، فقد يكتفي الشاعر الرائي بحلمه وحسب .

ذهبت الى الرواية عبر ” العودة الى البيت “لأني كنت في مشروع للرصد المجتمعي للعراق ، ليس  بحثا اجتماعيا ـ ولا نفسيا ، ولا سياسيا ، بل كنت في حالة الاحلال والابدال  لشكل ابداعي يحتمل هذه الفضاءات ،  فكانت الرواية  هي الأخصب جنساً  لتحقيق حلم الشاعر ، فكان المخاض والتحدي ، كيف اكتب رواية مستوفية لشروط حقلها، وكان نصب عيني شعراء كتبوا روايتهم الواحدة وخرجوا بلا وفاق ، ومنهم الشاعر سعدي يوسف في روايته ” مثلث الدائرة “، وعكسه السارد الكبير محمد خضير في روايته الوحيدة ” كراسة كانون ” ، كان علي أن أدخل للرواية متلحفاً بردائي ، فقد ابعدتها عن غروري الشعري  ولم البسها  جبة سرد مترهلة ، كما نأيت بها عن محفل السير الذاتية والمذكرات،  وفخاخ المؤرخين، كما اني لا انتقل بين حقول الاشتغال وفقا لقاعدة أو مزاج أو طلب ، بل أن مايسوقني الى التنوع هو مشروعي ورؤيتي الكلية عن دور الكائن الفاعل في الحياة .

لم أتطفل على حقل السرد ، جئتُ من الشعر  محمّلا  بسرهِ الدرامي  وخزينٍ كبير من الحكاياتِ  الشفاهية  على سطوح  الطين في محلة الجمهورية /  البصرة حيث ولدت بعد   الحكم  الجمهوري بثلاث سنوات !!!. الجمهورية” الفيصيلة سابقا ”  .. لاحظت  نسق التحولات في الحياة العراقية .. المدينة الشعبية  التي  أمدتني بشيطان القص وأرواح عوالمه السرية ..  أتذكر الآن بوضوح  يداني زرقة  سماء  البصرة في تموز  القائظ حين نذهب للسطح الطيني  عصرا ونرشه بالماء  ريثما يرحمنا بلمسة من نسائمه،    هناك نرتقي  السلم  الحجري  الملتوي ونحن نحمل  ” دواشك القطن  ومخدات الريش ،  وشراشف  للغطاء” ونبدأ  رحلة الحلم  والقص والتمني ،   نصعد  السلم ببراءة  عالية وفرح  غامر حيث  نتّحد بالطين ورائحة تبخر الماء  وريح الشرجي البصرية ، انا واخي سلام  .. ثم أنتقل الى  جانب آخر من المؤثرات  العالمية  والروائيين العالميين وصولا الى  السرد العربي   ” تاج من  الحكائيين وجبال من الخيال  .. ورثت  منهم  بيضة الحكاية   وحيمن  التخصيب ، أصدقائي  العالميين ” دستوفسكي ، تولستوي ، ريمارك ، جورج أورويل ،ماركيز ، همنغوي ، باولو كويلو ، هيرمان هيسه ، الخ ، ومن العرب  ” الطيب صالح، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم ، عبد الرحمن منيف ، صنع الله ابراهيم ،  الطاهر وطار ، محمد شكري .. والعراقيين . فؤاد التكرلي ، غائب طعمة فرمان ،  لطفية الدليمي ، علي بدر ،  عبد الكريم العبيدي  نصيف فلك  / خضير  الزيدي /   والكثير .. الكثير .، وكان  لشطحات المتصوفة  والعرفانية  الروحية  رافدا مهما في  إذكاء نار  الحلم  في  تكويني  الشخصي  كمؤلف للحلم  ، بعد أن كنت حالما وحسب”.

أما عن حكايتي مع التاريخ ، فقد كانت مصادفة جميلة ، حين كنتَ  في عمان ، وكنت على علاقة عمل مع   الأهلية للنشر والتوزيع  لصاحبها أحمد ابو طوق ،  في موضوعات تصحيح وإعادة صياغة كتب قديمة ، ويبدو انه تلمس فيّ وعيّا في التاريخ العربي  والإسلامي  في البحث عن تاريخ  الامبراطورية  العثمانية ،  فكان العرض مغرياً فكريا ومادياً  في وقته عام 2003 ، فانغمرت في البحث في مكتبات عمان العامة ومكتبة شومان  ومكتبة الجامعة الاردنية  وطوال فترة سنة كاملة  اعتبرها إضافة نوعية  لفهمي للتاريخ الإسلامي  العثماني ، وكانت الحصيلة كتاب  “تاريخ الإمبراطورية العثمانية من التأسيس  الى السقوط .. 2003 ” وقد حقق الكتاب نجاحا مهما ،  أعاد طبعه ابو طوق مرتين وكل مرة 5000 نسخة ، ثم كانت التجربة الثانية مع التاريخ الاسلامي في الأندلس ، فكانت الثمرة كتابي الثاني ” تاريخ الأندلس ..  من الفتح  الإسلامي حتى سقوط الخلافة في قرطبة 2005 ” ، وقدمت في الكتابين فهمي الخاص لدراسة التاريخ  بوصفه وقائع تكتب مرتين ، مرّة من قبل المنتصر ، وأخرى من قبل المهزوم ، فذهبت الى الأخبار الضعيفة أو التي تم ”  تضعيفها وتهميشها من قبل الطرفين انتصاراً  لمجد أو تكريساً لمظلومية” .فكانت تجربة أثرت مخيلتي وقاموسي التاريخي وقد كتبت نصوصا شعرية كثيرة من خلال  استعادة الأثر التاريخي وتوظيفها شعرياً او سردياً.

كتبي الحوارية ، هي نتاج نزوعي الحواري في الحياة  أولا،  وثقافتي المتنوعة المصادر ، ورغبتي في قراءة الآخر الند ،  وتأثري في كتب حوارية ومحاورين  مهمين  عالمياً وعربياً  ، بدأت في حوارية مبتكرة مع أمير السرد محمد خضير  حين تناولت كتابه ” حديقة  الوجوه ” وانتجت عليه كتابا ” نزهة في حدائق الوجوه . محمد خضير وبستانيو العالم .. كتاب على كتاب ” طبع مرتين  وفي دارين مختلفتين ، 2018 من دار ضفاف ، واعيد طباعته عام 2021 عن  دار السامر ، وهو قراءة على  قراءة ، فكانت حوارية متون ،  وهي تجربة أظنها  جديدة على المشهد الحواري العراقي والعربي . ثم كانت الحوارية المباشرة مع الناقد والمترجم  سعيد الغانمي ، امتدت لمدة عامين  ، وانتجنا كتاباً حواريا  بعنوان ”  القراءة  بكافة الحواس .. حوار مع سعيد الغانمي .. 2023 دار الدراويش – بلغاريا ، ألمانيا” ..،  وهناك  كتاب اصدره الشاعر باسم فرات  بعنوان ” باسم فرات في  المرايا

عن دار التكوين ، دمشق ، 2009″  كانت لنا حوارية انا وفرات قدّم لها الناقد الدكتور  حاتم الصكر ”

هذه  النماذج  الحوارية أضافت  لتجربتي الإبداعية روافد جديدة في الكشف استعنت بها  في انتاج نصوصي .

بهذا  الفهم الكلي  قد تنوع مدار حلمي ، ووجدت له أسرّة للبوح ، وأجنحة للطيران ،ونوافذ  للخلاص  .

*عملك في الصحافة و الإعلام منذ  خروجك من العراق وحتى  ترأسك لتحرير  مجلّتي ” النجوم ، ألف ياء”  ارتأيت له أن يكون ثقافياً وتحديداً أدبياً في أغلب الأحيان ،هل هذا يعني أنك لا تريد مغادرة هذه الخاصيّة الأدبية ، ولماذا ؟

– لا استطيع النفاذ من جلدي وجبتي  وقدري ، في كل حقول اشتغالي ، ومنها  الصحافة والإعلام ، فقد بدأت علاقتي به منتجاً  في عمان  عام 2001،  بعد خروجي من العراق ، لقد وفر فضاء الحرية  آنذاك فضاءً جديدا لخدمة تجربتي الشعرية والفكرية الثقافية ،  إذا انني لم انخرط في العمل السياسي المعارض للنظام، ولم أدعِ  البطولة ،  كنت ضحية ، استطعت ان اعبر بقلمي  عما يمليه عليّ ضميري الوطني والجمالي ،  فكانت رحلتي مع الصحافة في صحف ومجلات ونشريات ومواقع عراقية وعربية ، استثمرتها كمنصات لنشر رسالتي وتجربتي شعرا ، فكرا ، نثرا، من خلال مقالات وأعمدة صحفية  وحوارات .،  ثم حانت الفرصة للعمل المهني كمحرر وسكرتير تحرير ومدير تحرير في مجلة ”  المغطس”  حتى مغادرتي الأردن عام 2007 ،  ووصولي الى استراليا لأتابع عملي الصحفي والإعلامي رئيسا لتحرير   ” مجلة النجوم ”  اللبنانية لمدة سبع سنوات ، حتى أستقر المقام بي  في تأسيس مشروعي  الإعلامي  الشخصي عبر إطلاق مجلة وموقع ” ألف ياء ”  في حفل كبير عام 2021 .كل هذه الإشتغالات  هي محطات وأجنحة لتجربتي في الحياة والجمال.

وهنا لابد من  الإشارة على اصراري  للتمسك بمشروعي الجمالي العام ،  بمقالة منسوبة لطه حسين ، وهو يقول ”  ان الصحافة تأكل من جرف الكاتب او الأديب ” ، انا لم اجد هذا ابداً فقد كان حقل الإعلام  جناحاّ  للتواصل مع التجربة  الإنسانية في ظل الثورة المعلوماتية والإتصالية عبر كل مواقع التواصل الاجتماعي ، التي أصبحت  نافذة شاهقة ، بكل متاهاتها ، للاستثمار الجاد من قبل الفاعلين الحقيقيين.

لقد تجرأت في كتابة ” مقدمة ” للرواية ، وهذا انحراف على الأدب الروائي برمته كما اعلم ، وخلافا  لعرف المقدمات التي تُكتب من آخرين على الأغلب ؟

أولا  لابد لي أن اشرح بسطر واحد طريقتي في المعالجة السردية،  فقد أخترت طريق المفارقة  في السردية الروائية ، من خلال ابتكار حيّلة سردية قوامها ” المونتير ” ، الذي ينوب عني في مهمة كسر الوصف الطويل الذي لا اجيده ، فقدمت روايتي على شكل مقاطع قصيرة ، تتماثل مع لقطات سينمائية استخدمت فيها  مساحة متوازنة بين اللغة الفصحى والعامية . ، وهذا ما تنبّه له الكثيرون من النقاد وهنا لا بد أن استشهد بما قاله الدكتور الناقد حاتم الصكر  .. “تثير رواية “العودة إلى البيت” للكاتب والشاعر العراقي المغترب وديع شامخ كثيراً من الأسئلة المتصلة بشعرية السرد الروائي، كالحدود الممكنة بين الرواية والسيرة الذاتية، ولغة الخطاب السردي ومدى توظيف العامية ليس في الحوار فحسب بل في مناطق الوصف والحدث أحيانا، والعلاقة بين الواقعي والفانتازي، والخيالي والوثائقي، والبعد عن الموضوع زمنيا؛ باسترجاع الوقائع عبر الذاكرة، ومكانيا لأن الكاتب مبتعد عن البصرة المكان الاول الذي تدور فيه الأحداث وافعال السرد.، كما تؤكد رواية وديع شامخ باحتدام تفاصيلها وانعكاسها على الشخصيات بانتمائها لقص ما بعد الحداثة في حاضر السرد ورصده للحظة عراقية استثنائية الالتباس، بالتحرر من الرسميات المؤطرة للسرد وشخصياته ولغته، وبالمزج الحر بين الرواية وما يجاورها من فنون”، و هناك  شهادة  شعرية عميقة من  الشاعر المبدع  كاظم الحجاج  يخاطبني وبخط  يده الجميل  “البصراوي جدا .. وديع شامخ، عودتك الرائعة الى البيت أعادتني إليه بمتعة ، مع أنني  لم أفارقه ، نصيف فلك  وعبدالكريم العبيدي ووديع شامخ هم أعمدة الرواية العراقية الجديدة”  ..وعودة  على سؤالكَ ، أجيب: الجرأة عدّة الإبداع  وسر نفاذه ،  الجرأة الواثقة وليس الوقاحة  والمجانية ،  أو انحراف ،  ولا  أعتقد اني كتبت مقدمة بمعنى الاحتفاء ، أو التقديم  كما  هو سائد  كتقليد  في تقديم  الآخر لعملك ، أولا انا قدمت الفيلسوف  برتراند  رسل ليقوم بمهمة تقديم المتن ، استعرت منه عبارة ”  إن  السبب في إضطراب العالم اليوم،  هو أن الأحمق واثق أكثر مما ينبغي ،  والعاقل يكتنفه الشك ” ،  ثم جعلتً  خاتمة الرواية   رؤيتي لكتابة الرواية  بطريقتي عبر اعترافي  بعنوان ” خارج المتن” لتشكل نهاية  المتن الروائي بطريقة مبتكرة .فهي ليست  جرأة أو مقدمة ، بقدر ما هي فهم مغاير لمهمة  مفارقة  لمفهوم  المقدمة .

*للغربة تأثير كبير في حياة أي انسان ، فكيف اذا كان شاعراً وأديبا ؟ ، ما مدى تأثيرها في نتاجاتك بشكل عام ، وهل لها تأثيرات خاصة في مجالات محددة ؟

– لنعيد  تعريف مفهوم الغربة  أولا ، فهل كنّا في الوطن غير غرباء ، لا ملامح  لنا ،  صوتنا مبحوح ،  نوافذنا مشمعة  بلواقط العسس ، السنتنا معقوفة لسؤال مقدّد  بالخوف ،  موائدنا خالية من الشبع ، بيوتنا  تعوي بالألم ،  منذ  ان نشب الحريق في سعار  ” الدكتا.. ثور ” حتى صار  القضاء على حلم التعايش المجتمعي السياسي  في بناء عراق ديمقراطي عبر جبهة وطنية تمثل الحد الأدنى في الشروع ، هدف تدميري ، ختمه  بحربين ضروسين ،  فكنا غرباء حقا ،  نتلمس هويتنا اللاانسانية في السر،  والوطنية عبر حناجر صائتة لخدمة مفهوم الوطن ،  كحضيرة خراف لقائد  مديد ..

بالنسبة لي  أنا لا اعاني غربة بهذا المفهوم ، هي  ” منأى ”  جغرافي فقط ، الغربة العاطفية يمكن ان تتكفل دموع اللحظة  بفك قيودها ، أو عن طريق نقل المهاجرين لطقوسهم  و ثقافتهم وتفاصيلها الدقيقة  لخلق كرنفال هناك ، حين إذ تصبح الغربة دموعا مالحة على جدار الذاكرة فقط .

شخصياً ،إنتصبت قامتي ، وانجزت اكثر من 90% من  نتاجي الشعري والروائي والتاريخي والنقدي والتحقيق  في ”  المنآي ” الجغرافي . وانا لست منقطعا مع المشهد العراقي الإبداعي العراقي  والعربي .

كنت حريصا ً  على تجاوز ”  النوستالجيا ، الحنين ” وعمقت علاقتي مع كل الفواعل  في العراق   اجتماعيا ، ثقافيا ، ابداعيا ،  ولقد حصدت  أكثر من كتاب شعري وسردي ونقدي ، انجزته بالتعاون مع  مؤسسات عراقية رصينة ودور نشر مهمة .. ولكي لا اتجاوز سؤالك في حساسية الشاعر في مغادرة المكان ،  الجذور ،سأعترف أنني أعالج هذا الوجع بالبكاء كطفل .،  واستعادة الأثر نصوصاً.

*روايتك ( العودة الى البيت ) تؤكد على عمق التصاقك بمدينتك الأم البصرة حيث شاركتك العيش في سيدني ،وأعطت دليلاً واضحاً على أن الذكريات ما تزال تسكنك أنّى ولّيت الوجه في غربتك ، وتعيش معك ، ما تفسيرك لهذه الحالة عليك ، وعلى الآخرين ؟

لقد تحدثت في جواب سابق عن الرواية ، وفضحت كل مرجعياتي في الكتابة والمقدمة ، وهنا اعود  لجواب قصير ،  البصرة مركز كون المساحة الروائية ، ولكنها  ليست رواية مناطقية !

العودة الى البيت ، رواية المصير العراقي  المأسور بالحروب والنهايات الطافية على مدار كوني أرعن .

تفسيري النفسي  القادم من أعماق  البصرة ، ان هذه المدينة لها سحرها  و”  حوبتها ”  وخصوصيتها في الخصب ، هي مدينة خالية من أوكسيد  المدن ، هي التي  كتبت لها  نصاً طويلاً صدر في كتاب الشاعر البصري علي الأمارة ..” البصرة العنقاء في عيون الشعراء .”

*ماذا تعني الشهادات التقديرية والجوائز للمبدع في مسيرته ، وهل تراها ثقلاً كبيراً ومسؤولية عليك أن تتجاوزها إبداعياً بشكل أكثر رقياً وتطوّراً ؟

– منذ  أن خلق الله الإنسان اعطاه جائزة الجمال  بقوله “نَعْمَلُ الانْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا”،  ”  وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم ” .. وهذا امتياز كبير ليكون الإنسان خالقاً ايضا ،  ومن هذه   القاعدة نفحص  الجوائز وقامتها  ، من يعطي ومن يأخذ،  من نوبل الى الأوسكار ، الى جوائز ومحطات  للتكريم  والإحتفاء ،  وجدنا طرفين ،  المانح  والمستفيد ، والقيمة الجمالية والروحية والمادية ، للطرفين .

هنا نستعيد الجذر القيمي في التقييم ، ونفحص الجوائز عبر سقوف عالية السمو ، وليس  على لعاب  المحرومين  بطرفي  غواية الترغيب والترهيب . المبدع يستحق كل الأكاليل ، الجوائز ، المنصات …  بوصفها استحقاق  وليس شحاذة .

يفترض ان  يكون التقدير والتكريم  خارجا من اغراض ” لا  ابداعية ”  ،  وهذا لا يصل  الى الذين أوتوا حظا عظيماً .

عموما  انا لا اقرن الابداع  بالمكافأة  بكل تعدد مصادرها وسمو قدرها ،  فقد  رفض  سارتر ” جائزة نوبل ”  ، لذا كل جائزة لابد ان تكون في حقلها ومضمارها وشروطها الأكاديمية والإبداعية الصرفة  .

*ما رؤيتك للمشهد الثقافي في العراق ، وأنت تنظر إليه من نافذتك الاسترالية ؟

– لابد من تقسيم الجواب الى مستويين ، الرسمي  والإبداعي ،  فالتمثيل  الرسمي للثقافة هي وزارة   الثقافة والآثار والمديريات التابعة لها ، ومن المخجل ان تصنف هذه الوزارة برأي الساسة بانها ”  تافهة  وغير سيادية ”  والمفارقة الثانية ان هذه الوزارة  الخطيرة تكون من حصة  جهة سياسية دينية طائفية ، وهذا يعني إعادة الفزع في  قول وزير دعاية  هتلر ” غوبلس ”  ”  عندما اسمع بكلمة مثقف أتحسس مسدسي ” ، نعم المثقف الحقيقي  العضوي حسب غرامشي ، فهو مرعب حقا للسلطات  السياسية الفاسدة ، المتخلفة ، التي لا مرجعية  وطنية لها في الغالب ، وهذا ما يعكس  اداءها السلبي تجاه المبدعين  ونتاجهم وحياتهم المادية ومستواهم المهني . أما على مستوى الحقل الابداعي الثقافي  والفاعلين منهم ، لي نافذة و مسبار كوني ، ارى فيه المشهد العراقي بكل محبة، خصوصاً  بعد سقوط النظام الصدامي الديكتاتوري ، لم يعد  المقياس الواحد صالحاً للتقييم ، الحياة العراقية قد  أشرقت لفضاء التنوع ،  والمدارات ،  ولم تعد  الرؤية أحادية . أنا لا انظر للعراق  من ثقب  جحيم ”  باربوس :  ولا قلب : يوسف الصائغ  المثقوب  ” المشهد  غني بالتنوع ،  لقد خرج المبدعون من سطوة  الجيل في الشعر،  ومجانية  الوقار في التشكيل ،  وآباء الرواية والسرد  في الوصايا ، والهروب بالأغنية الى اقصى تمثلها  لهواجس العراقي الجديد ، والموسيقى خارج رتابة  الحروب وايقاع الخسارات وتنفس المسرح عافية البوح .

نعم  أن المشهد الثقافي العراقي يصاب بزكام الواقع ،  لكنه يتماثل للشفاء ،  ينهض ، رغم كل السواد ،  وهذا ليس جديدا  على المشهد العالمي والعربي في يقظة الحلم رغم كل التحديات .، ولكن جلّ ما أخشاه أن يقع الفاعل الابداعي العراقي بعدوى أمراض الطبقة السياسية  الطائفية والمذهبية والدينية والقومية خطاباً  أو مواقف  وتصريحات ، المبدع الحقيقي كائن حر له عيون صقرية لمشاهدة المشهد بالكامل بكل تجرد وليس من  باب الفوقية والترفع ، بل حتى يكون بلا معاطف ووصايا  ، وله لسان وقلم  وكاميرا وفرشاة،  بها  لا يخاف  في الحق لومة لائم ، وله مع الجمال قدراً ورسالة .. من المخجل ان نرى البعض وهم يتلوثون  بخطاب وقاموس سياسي محاصصي طائفي  مناطقي مقيت ..

* ما رأيك  في النصوص التي  لا تميل الى الايجاز ولا الى اللاّغرضية كما تصنف قصيدة النثر حسب سوزان برنار .. بل تميل الى السرد وفي اماكن كثيرة الى الايضاح وايصال فكرة او معلومة بمعنى الكتابة لغرض القصدية .. الاّ تجد ان ذلك النوع من الكتابة يمكن ان يفقد القصيدة بعدها الرؤيوي؟

– لا يمكن ان تكون فروض سوزان  برنار ”  كتاباً مقدسا” او خارطة طريق لكتابة النص  الشعري ،  وهذا ما تنبه على شروطها شعراء كسروا  هذا ”  الكوجتو ، التابو ”  ،ولقد  قدمت نماذج من مشروعي  الشعري الذي تخطى الغرض  وشروطها   معا ، لا غرض  لنصي سوى رسالته الجمالية والانسانية .. أما عن القصدية فهي مختلفة تماما عن الغرضية ، وبهذا وضعت الخلط بين النص الرؤيوي شرطا لها ..  النص  الشعري لا يبحث عن توصيفات خارج شعريته  الخالصة ، الشعرية  بمفهوم  غاستون باشلار بوصفها ” لحظة ميتافيزقية ”  لحظة العريّ الشامل من المعارف ، كوهج  موقد .. الشعرية هي كيمياء الروح  حسب فاليري ، لا يكتب الشعر وفقا لكتب ووصايا مقدسة..

*اللغة في قصيدة وديع شامخ تعتمد احيانا على الجمل الطويلة المحملة بمناخ شعرية الاشياء والتفاصيل   تجمعها مع بعضها وتشدها ادوات الربط، لكن هذا  يفقر النص  الى القطع والانتقال السريع لأنها غير معنية بشعرية  العوالم  .. الا تجد معي ان ذلك اجراء تبيسطيا  في كتابة الشعر ؟

– لغتي هي أبجديتي ، خلاصة خبرتي ، وقلقي ، وكل نص يجترح اسلوبه في المعنى والمبنى ،  فلا معنى هنا  لطول او قصر الجمل بمقياس او منهج  لصحة او فساد  الجملة الشعرية ، وهذا تكنيك فقط ، لا يتطابق مثلا مع بنية القصيدة المدورة ، او النص المفتوح ،.. القطع  السريع ينتمي الى المشهد السينمائي ، وكل سؤالك هو مناخ اجرائي فقط ،  وما التبسيط أو العمق هو فرض  فقط . كتابة الشعر  لا تتنمط  وفق اقتراحاتك، وارجو أن  تتفق معي ان خصائص قصيدة النثر هي خصائص تكتيكية بالأساس .. وان بوصلة نجاحها هو الميل في  قدرتها على جمع واصهار الفنون الاخرى بما فيها السينما .

ما جديدك في المجالات كافة ؟

أنا في حالة صيرورة دائمة وإمتلاء يومي ، لأني  أؤمن أن المبدع عليه التزود بخبرات وتجارب قرائية وسماعية وبصرية جمالية وحياتية  بشكل دائم ،كي لا يقع في دائرة التكرار، والاستنساخ ..

 

شارك مع أصدقائك