أورهان باموق ومرثية الحداثةالتركية

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة  المحسن

في الأعالي حيث تقبع الجدة فاطمة، كان زوجها يصنع طبيخ الحداثة التركية في قدور الموسوعات، وعندما أحرقت هذه الجدة مخطوطات الزوج وكتبه، كانت بالكاد تجهز على هذا التاريخ الذي يقف بين الزيف والحقيقة، التهريج والجدّ الصارم، العدم والوجود، الرواية المفترضة لتاريخ غير مؤكد لا يستطيع ان يصنعها الروائيون وحدهم، بل هي تتنقل في منطقة غامضة من الذاكرات والحيوات ومصائر الناس، وبينهم كَتَبة القوانين والأحداثيات، هذا ما يريد قوله باموق في عدد من رواياته وبينها “استنبول “و “البيت الصامت” .

تركيا المتغيرة يبحث عنها القارئ في مآل السياسة والاجتماع، في عسكرها الصارم وأغنيات الحب عند متصوفتها، أو في أدبها الذي رفع باموق إلى مرتبة المستحق جائزة نوبل. ولكن تركيا العثمانية الساكنة حجرات الذاكرة العربية، لها اعتبار آخر، هي المرايا المتعاكسة لحال العرب، حيث تبادل الاثنان غزواً بغزو، وفيما انتهت إليه من استقرار بفضل مجتمعها الأهلي الذي غادر أصله القبلي دون عودة..
لذا نجد في روايات باموق معنى المدينة المطلة على بحر الغرب، قراءة روايات باموق تضعنا في المنطقة الوسطية للفن الروائي بين أن يكون غربياً، أو هو صناعة الأساطير الوطنية لكل شعوب الأرض، فالرواية حسبما صنفّها النقّاد نتاج العصر الرأسمالي، منتزعين من الشرق إلهامات السرديات الأولى التي اخترعها، باموق يتتبع المدينة الشرقية التي تغربنت منذ قرنين أو يزيد، حيث غادرت الريف وطقوس الأجداد..
طبقات تصعد وأخرى تنحدر في كل رواياته، ومن خلالها يتابع الأفراد في محاولتهم تفكيك النسيج المترابط للعائلة التركية، هي تورية بين توريات كثيرة لأسلبة الواقع، شخصية تركيا الناهضة التي أشادها العسكر والتنويريون الجدد، تبحث عن نفسها بين ما تبقّى من ارستقراطية تودع ماضيها بثرثرات النفس عن تلك الايام السعيدة. تأبى العجوز الموت، وتحتجز قزماً كي يرعاها رغم فظاظة خَرَفها..
عبر الشخصيات نكتشف مآل التحديث، فالقزم هو الولد المشوه لزواج رواد النهضة الثانية بنساء الطبقة المعدمة، بعد خروجهم من صرامة النظام الملي. اقترابهم من الحياة ومشاريعهم المجهضة، ومحاولتهم محاكاة أفكار عصر التنوير الغربي، الجيل الثاني، الأبناء الشرعيون، يسيرون على درب الآباء، فالابن الوحيد يصبح سكيراً مثل أبيه الباحث عن خلاص تركيا عبر انسلاخها عن ماضيها وارتباطها بالغرب. يمتزج مشروعه ببخار الخمر وتهويمات الصحو واليقظة، ولكن للجيل الثالث الذي يتابعه باموق، امتدادات وتشعبات، ما بين ضياع وسط صخب الحضارة الغربية والتزام بالمعرفة، الفتاة الشيوعية تقتل على يد صبي من القوميين المتطرفين، ويمضي أخواها في فراغ الحياة الجديدة، سواء كانت عابثة أو جادة، فالأول يبحث عن حلم السفر إلى أميركا، والثاني ينقب في أرشيفات المحاكم عما تبقى من قوانينها الملية بعد النهضة، هناك وعندما تكون إشارات الرواية على هذه الدرجة من الوضوح، تصبح مهمة الروائي وضع المقولات على هيئة شخصيات وأفعال. الطريقة الأسهل لكتابة تاريخ الحياة اليومية لتركيا المتغيرة، تركيا الحديثة ما بعد منتصف القرن العشرين، أفضل ما في رواياته أن صاحبها لا يبدو على اعتقاد بصحة الآراء والأفكار الحديثة منها والقديمة، ولا يصبح الحدث سواء كان عن الماضي أو الحاضر عبرة أو تذكرة لأحد، فكل شخصية تكشف عبر منلوجها عن روايتها الخاصة، ولا يحتاج القارئ كبير جهد كي يمسك الترابط بين المنلوجات، هنا سنجد فوكنر في (الصخب والعنف) يطل برأسه، كخيار فني لقراءة التاريخ وهو يدب في مصائر الأفراد، ولكن لابد أنْ نجد في التنظيم الصارم للرواية أي معمارها، بعض تحجيم للشخصيات باعتبارها ناطقة باسم فكرة معينة أو ممثلة لعنصر اجتماعي فاعل ومؤثر، فالبيت القديم وسيدته العجوز، يقدم لنا مصير فكرة التنوير التي انبثقت في رؤوس الجيل الذي ولد نهاية القرن التاسع عشر وانتهى في أربعينيات العشرين، أما الجيل الثاني الذي ولد مطلع العشرين ومات نهاية الستينيات، فلم يترك أثراً يوازي أثر الجيل الأول الثائر على التقاليد، فمر ممثله القائمقام ضوغان دارون أوغلو، مثل طيف في خضم تناحر بين المتخاصمين على المناصب. اما اولاده، فقد حلت بهم لعنة الجدّ والأب: الصغير ينغمر بحياة اللهو التي يتقرب فيها من أبناء الطبقة المتبطرة التي تحاكي حياة الشباب الغربي العابثة، والأخ الكبير الذي يرث ولع الأب والجد بالخمر مع نزعة البحث في سجلات الماضي عن تاريخ جديد يكتبه. تُقتَلْ الأخت الشيوعية بطعنة ولد يعشقها، ولسببين: خيبته في التقرب منها وتحريض عصابات الحزب القومي الفاشي الذي ينتمي إليه.
يضع المؤلف ثقله في صوت الجدة أي الماضي المخيم على الحاضر، وكل منلوج لها تقدم فيه صورة زوجها المتحركة بين جدران البيت ومختبره العلمي حيث يعدها وهي نصف أمية بموسوعة علمية تغير وجه تركيا وتنتزعها من أوهام الشرق وخرافاته. الجدة التي تسخر منه ومن مشاريعه تبدو وكأنها تمسك بالحاضر على نحو يختلف عنه، فمشاريعه التي تذهب في مهب الريح، تبدو أضحوكة وثرثرة أغبياء..
نظريات العلم التي حاول الرواد إدخالها على الحياة، كانت مجرد طبيخ فاسد في هواء الغرف المغلقة، في حين تجري الحياة خارج كل التوقعات.
عند هذا تصبح رواية باموق، مجرد سرد لتاريخ اجتماعي، وهي على كل ما فيها من أسلبة وعوالم خيالية تقتضيها الصنعة، تبدو وكأنها تتحرك في مجرة لا تريد مغادرة قانونها السوسيولوجي.
كم يذكرنا باموق، بنجيب محفوظ حتى يخيل إلينا أنه فاز بنوبل للأسباب ذاتها التي فاز فيها محفوظ، لا الأسباب السياسية كما تداولت الصحافة عن الاثنين، بل لأن القرابة بين التاريخ والرواية على رغم كل ما طرأ عليها من توترات، بقيت شبه ثابتة.
شارك مع أصدقائك