حديث الشخصية وأسئلة الاجتماع العراقي
علي حسن الفواز
قد يبدو حديث الشخصية العراقية مثارا للجدل والسجال والاختلاف، وحتى التخيّل، لكن المقاربة العلمية اجتماعيا وسياسيا وإنثربولوجيا، ستفنّد كثيرا من الاحكام ذات الحمولات الايديولوجية والعصابية، والتي ما انفكّت تترى على مستوى النزوع والقصدية في تحليل تلك الشخصية، أو على مستوى تأطيرها في سرديات ومرويات وحتى مثيولوجيات من الصعب الركون اليها.
ولعل أطروحات الدكتور على الوردي كانت بمثابة الشحنة التي اسهمت بتغويل تلك المقاربات وإثارة الجدل فيها عليها، ووضع الشخصية العراقية تحت المراقبة والمعاينة، حيث اختلط فيها المنهجي والشعبوي بالعصابي والايديولوجي، وكأن هذه الشخصية براديغم اشكالي للحديث عن الشخصية الأضحوية، إذ تحمّلت كلّ اسقاطات الطغيان السياسي والعنف الاجتماعي والصراع الاهلي، والاحتلالات الكبرى، ولتبدو حاضرة في المخيال الشعبي أكثر من حضورها في الواقع، وعبر توصيفات وتمثيلات وسرديات جعلتها الأقرب للشخصية الصراعية، المتحولة، المتناشزة.
هذه الأحكام والتوصيفات تحتاج الى مراجعة تاريخية وعلمية وانثربولوجية بعيدا عن الشطط والتغويل والتهويم والتهويل، وعلى أسس تنزع عنها التعويمات التي صنعها “العقل الشعبي” والحاكميات التاريخية، والطائفية، وانماط الاستبداد السلطوي والطائفي الذي ظل قرينا بتداولية العلاقة مع مفاهيم السلطة والفقه والحقوق والحريات..
الدكتور علي الوردي صاحب الحضور العتيد والباحث في مظان الاجتماع والتاريخ العراقيين، والعالم العارف بطبائع الشخصية، وبوجودها التمثيلي والسيري في التاريخ، حاول أن يقترح مشروعا لقراءة تلك الشخصية، عبر فرضيات ثلاث، تخص علاقة الشخصية بالاجتماع العراقي، وتأشير ازدواجيتها عبر تمثيل اجتماعي وليس نفسيا، وكذلك فرضية البداوة والحضارة، وتمثله في ذلك عبر اطروحات ابن خلدون، وما يخصّ موضوعات العصبية والقبلية والثأر، والفرضية الثالثة تُعنى بموضوع التناشز الاجتماعي، وعلاقته بالتغيرات التي عاشها المجتمع العراقي مابعد الحرب العالمية الثانية، والتي تمظهرت عبر مجموعة من الصراعات بين المجددين والمحافظين..
هذه الفرضيات ليست جزءا من نظرية علمية، ورغم أن الوردي قد تأثر باطروحات علماء اجتماع اميركان مثل روبرت تاكيف، ووليم اجبرن، إلّا كان يدرك طبيعة التحولات التي عاشها المجتمع والشخصية، في سياق تعرضهما لصدمات التاريخ وأثره، لاسيما في مرحلة الاحتلالات المغولية والعثمانية، حيث اسهمت في تغذية العصابات الجماعوية والطائفية..
الوردي واشكالية القراءة
قد يكون الوردي من اوائل الذين ادركوا اهمية قراءة الاجتماع العراقي، بوصفه مجالا صراعيا، لكنه ايضا كان ايضا من علماء الاجتماع الاوائل الذين تناولوا محنة الشخصية داخل هذا الصراع، وفي النظر اليها في سياقها كمفهوم فلسفي، له صور ذهنية متعددة، فكشف عن التعقيدات في تداولية ذلك المفهوم، مثلما كشف دورها الاستثاني كفاعلية اجتماعية، عبر حضورها، وعبر أثرها في مجرى التاريخ وفي التعبير النسقي عن طبائع الصراع، وفي التعبير عن علاقة ذلك بمفاهيم مجاورة، تخصّ علم الاجتماع وعلم النفس والانثربولوجيا من جانب.
مرجعيات الوردي الثقافية والاكاديمية، وحتى البيئية لعبت دورا في تشكيل عدته “النقدية” ونظرته للشخصية والاجتماع، فقد تأثر بدءًا ب” مقدمة بن خلدون” حول العمران، والاجتماع، والعصبية، ووجود في هذه الثيمة مجالا لتمثيل افكاره عن الصراع بين البداوة التي تجاور المدن/ الحضارة، فنشأت عن هذا الصراع قيم وافكار جديدة، انعكست على هوية المكان، وعلى هوية الشخصية، مثلما أن الوردي، وإن بدا ساخطا على المثال الافلاطوني، فإنه كان اكثر سخطا على المنطق الارسطي القائم على الثبات، إذ كان يؤمن بأن الانسان ” ابن عوائده” كما يقول ابن خلدون، وهذا ما يجعله اكثر تمثيلا للمتغيرات التي تحدث في العمران والبيئة وفي تغيّر الاحوال والظروف، فضلا عن تأثره بأطروحات سيجموند فرويد وعلاقة افكاره بالدوافع النفسية والجنسية والغرائز اللاعقلانية، والتي انعكست على طبائع الشخصية في لاوعيها، وفي سلوكها، وفي الكشف عن تلك الدوافع التي تقف وراءها. وكذلك تأثره بأطروحات عالم الاجتماع كارل مانهايم ونظرته لمفهوم الاجتماع القائم على التنافذ مابين الواقع الاجتماعي وبين الفكر وتمثيل الشخصية، وانعكاس ذلك على صناعة السمات والسلوكيات والمواقف.
تأثّرات علي الوردي بدت أكثر خطورة من خلال قراءاته لأطروحات جون ديوي ونظرته ل” العقل البرغماتي” ومعالجته لأزمات التربية والاجتماع والديمقراطية، ولأطروحات وليم جيمس، فكان كتاباه “خوارق اللاشعور” و” مهزلة العقل البشري” حافلين بتلك المؤثرات، إذ كشف من خلالهما عن القائض والصراعات، وعن تأثير ذلك على -البيئة- العائلة، المدرسة، المجتمع- وعلى صياغة سلوك الشخصية وتحريرها من الاوهام والخرافات، وهي جوهر ما اراد الوردي الاشتغال به، لكن محنتي ذلك الواقع، وتلك الشخصية لم تنحصرا في طبيعة التحولات التي اخترقت السياق الاجتماعي والتربوي لوحده، بل بسبب طبيعة الضغوط التي جاءت مع الاحتلال الانكليزي، وبعد نشوء الدولة العراقية، لاسيما بعد صياغة عقد سياسي محكوم بمركزيات لم يألفه العراقيون، والذي انعكس على مفاهيم الهوية، والمواطنة، والانتماء، مثلما انعكس على نظام المعيش والعادات والقيم، فضلا عن طبيعة تأثير الاستبداد الطبقي والسياسي، والتي انعكست بشكلٍ أو بآخر على البنى التي عاشتها تمثيلها الشخصية العراقية.
الوردي والنقد الثقافي
رمزية الوردي ارتبطت بشخصيته الناقدة، وبفاعليته النقدية في الحديث والمشاركة والكتابة، وهذا ماجعل حضور كتاباته قرينا بالتحولات العاصفة التي عاشها العراق منذ اواسط الاربعينات من القرن الماضي، إذ عدّه البعض من العلماء والنقاد مؤسسا فاعلا لعلم الاجتماع العراقي، وأن نقوده لها حيوية النفاذ الى توصيف الشخصية والاجتماع والنظام، مثلما عدّه بعض آخر من أوائل الذين قعّدوا لما يسمى ب”النقد الثقافي” بوصفه النقد الذي يقارب الأنساق المضمرة، وعلاقة الفاعل الاجتماعي والثقافي بصياغة النص والفكر وفي نظرته لتداول الادب، ولعل كتابه المميز “اسطورة الأدب الرفيع” يعدّ الأنموذج الرائد في هذا المجال، تأسيسا على فهم مايحمله الأدب من علامات، وما يضمره من أنساق خبيئة تكشف في جوهرها عن سمات الجمال والقبح، وأن الانسراح الفني فيها هو وجه خارجي لا يكشف عن القيمة الداخلية التي تتمثلها شخصية الانسان في سياقها النفسي والاجتماعي والطبقي.
استعادة الدكتور الوردي مسؤولية تاريخية وثقافية، وأن مقاربة سيرته ومنجزه الابداعي تعكس مدى أهمية درسه الثقافي والاجتماعي من جانب، والمعرفي من جانب آخر، فضلا عن ضرورته في البحث عن الصلات المنقطعة في تاريخ الثقافة العراقية، وعلاقتها بكل تمظهرات الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي عاشتها منذ نهايات القرن التاسع عشر وليس انتهاء بالنظام الجمهوري بمظاهر عنفه وعسكرته واستبداده، وإنعكاس ذلك على الشخصية والاجتماع والهوية، لاسيما وأن العراق من اكثر المجتمعات التي عانت من مكاره الانقطاعات، بوصفها احداثا لها علاقة بالعنف والتسلط والاقصاء، وهو ما اسهم الى حد كبير في تجسيد مظاهر للازدواج الشخصانيفي السياق الاجتماعي، وللتناشز القرين بعوامل حضارية وثقافية وسياسية وطبقية..
الاقتراب من عالم الوردي هو اقترن حضورها في الاشكاليات الكبرى التي واجهت تلك الشخصية، ليس على مستوى دالة المكان، والصراع، والثنائيات الملتبسة، بل على مستوى طبيعة الجهد الاستثنائي الذي قام الوردي عبر اشتغالاته العلمية والبحثية ومتون درسه الاجتماعي، والتي تحولت الى ظاهرة عابرة للمؤسسة الاكاديمية، حيث فضاءات المعرفة الواسعة، وحيث الاقتراب من خفايا الصراع الذي صنعته السلطات بتنوع مشاربها، عبر الطرد، والتأطير، وعبر العزل الثقافي والطبقي، وعبر المغالاة في ادلجة الاجتماع والدين والتحزب، وعلى نحوٍ اسهم في صناعة ديكتاتوريات عصابية صغيرة لها حواضن وارادات في المجتمع العراقي.
وبقدر ارتباط اشتغالات الوردي بأزمة المنهجية للشخصية العراقية، كمدخل مهم للحديث عن المجتمع العراقي، إلا أنه عمد الى تمثيل العقل النقدي عبر اصطناع مواجهات “ساخرة” لكثير من الظواهر، والصراعات، فكشف عبر كتابه طلمحات اجتماعية” عن علاقة تلك الأزمات في التاريخ، لكن ذلك لم يغب عن تأشيره لنقد السلطة، في سياقها التاريخي، والصراعي، وما تركته من أثر، رغم مبالغته الكبيرة في الحديث عن الثنائيات الاشكالية بين البداوة والحضر، او بين القرية والمدينة، او بين السلطة والمواطن، إذ تحولت هذه الثنائيات عن مجال نسقي للكشف عن ازمات الشخصية والمجتمع، مثلما تحولت الى مجال او اداة لمعاينة المأزق التاريخي، وتمثيل هذا المأزق للصراعات التي عاشتها تلك الشخصية، بوصفها شخصية أضحوية من جانب، أو شخصية اغترابية إزاء الواقع، أو إزاء المدينة السياسية أو المدينة التجارية، أو إزاء التمثيلات الايديولوجية للخطاب الديني.
تظل عوالم الوردي مفتوحة على قراءات واسعة، على مستوى القضايا الكبرى التي ناقشها، أو على مستوى محاولة في تأطير ذلك علميا، فضلا عن ما حفلت به سيرته الشخصية من ملامح وسمات مثيرة، تمثلتها شخصيته الاكاديمية والنفسية، وطبيعة خطابه الساخر، في الدرس، أو قراءته لظواهر المدينة والعلاقة مع الآخر، ولمقاربته للصراعات والمفارقات التي قرأها في التاريخ العربي الاسلامي، أو التي عاشها واستنبط منها كثيرا من أحكامه، لكن مسؤوليته العلمية لعبت دورا في تأطير تلك الأحكام، وفي وضع الأسس العملياتية لعلم اجتماع الشخصية الذي يدين بالكثير لطروحات الوردي وتأسيساته الرائدة.
كره الوردي للسياسة والعمل الحزبي، ليس لأسباب شخصية، ولا لأنه اراد عزلها عن منهجه الاجتماعي، بل لأنها مسؤولية قهرية في جانبها الإجرائي، وفي تأزيم علاقة الشخصية بالواقع، وهذا ماجعله يقترح خطابا فاعلا للتواصل مع الجمهور في الدرس الجامعي، أو في الكتابة، أو عبر المنصة الاعلامية، فكانت موضوعيته وعلميته قرينة بالبساطة، وباللغة الواضحة والسلسة، والمُطعّمة بالعبارات الشعبية اللاذعة في سخريتها وفي نقدها، وهذا ما جعل بعض السياسيين يكرهونه، حيث قال له نوري السعيد رئيس الوزراء آنذاك: هل تريد نشر الغسيل؟
فأجابه الوردي بطريقته اللاذعة والساخرة: الناس الطيبون يحبون الغسيل المنشور..
الوردي – رغم حديثه الساخر، والشعبوي احيانا عن ازدواج الشحصية وتناشزها- وهي جزء من اشتغاله المنهجي، إلا أنه كان يثق بأن المجتمع العراق قادر على أن يصنع حضارة، وعلى أسسٍ يكون الانسان الحر هو بطلها وجوهرها وقوتها الفاعلة، وهذا ما دفع المؤسسات الاكاديمية والسياسية في نظام صدام الى المجاهرة بكراهيته، وعزله عن الدرس الجامعي والاعلامي، وعن التأليف ومنع الترويج لكتبه التي تكشف في مظانها عن علاقة ازمة الشخصية بالظلم والاقصاء والاستبداد والتجهيل، وعن رفض الانسان التطويع والخوف والتعمية والعزل والاخضاع، والتي يعدّها الوردي اسبابا جوهرية في تشكيل الشخصية المضطربة والمشوهة، وفي تمثيل اعراضها الهروبية، حيث تعيش القلق والازدواج والتناشز والتقنّع بالاستعارات والمجازات التي تبعدها عن الوضوح والمجاهرة، والتي صنعت الكثير من شفرات قاموسها الايديولوجي السلطة والتاريخ والاجتماع السياسي والطبقي..