رغيد النحّاس
استحضرُ بمحبّة يوم الجمعة 7/3/2003 حين دعاني الشاعر شوقي مسلماني لإلقاء كلمة بمناسبة صدور كتابه “حيث الذئب” آنذاك. وهو مجموعة قمت مع الأستاذ نويل عبد الأحد بترجمتها إلى الإنكليزيّة التي صدرت عن دار “كلمات” في سيدني عام 2004.
ويسعدني أن يفسح لي الشاعر وديع شامخ في المجال أن أستحضرها هنا على صفحات “ألف ياء”.
والكلمة كما يلي:
يختتم مسلماني كتابه بعبارة: “ولا يدري الراوي متى يكون هو الرواية وكيف.”
أوافق تمامًا، وكلمتي الليلة من وحي هذه المقولة.
أنا الليلة ذئب أكون، “حيث الذئب” يكون. سأكشر عن أنياب أنانيّتي، وأستل مخلبي المسنون. فريستي قطرات ندى جاد بها ديوان شعر اسمه شوقي. فمسلماني هو بحق ديواني، ولن أكتفي بأن أنتظر الطائر الذي لم يعد. ولكن هل أملك الخيار؟
فالآلاء التي يدلي بها مسلماني تجدها أبدًا معرّجة على أكتاف السموات بشطحات صوفيّة ترقد قاب قوسين أو أدنى من عتبة الملكوت، لكنّها مع ذلك تستأثر بمشاعر ذئب مرميّ على جبل ينشغل بأساسيّات غريزته. وهنا قوة كنه ما يتعاطى به مسلماني: مزيج متلاحم من المادّة والروح. ارتقاء إلى العلياء يتزامن مع انغماس في أصول الغريزة ليجد الصياد جَمالًا في فريسته وغذاء. لعلها معضلة الوجود التي تجعلنا أسرى غريزة ورثناها عن أسلافنا في عملية تطوّر حياتيّة طويلة، في الوقت نفسه الذي نعاني منه من آثار تلك الصدمة الجيّاشة التي خلفتنا فيها قبلة الآلهة الأولى. فهل هذا ما يجعله “يرسم إطارًا لغيابه؟” أهي حالة الشتات، أم ما أسمّيه الغربة السرمديّة التي تصيب المرء، لا لأنّه مهاجر من وطنه الجغرافيّ إلى وطن آخر، بل لأنّه منتزع من جلده: من وطنه الأرضيّ إلى أثير الماورائي لأنّه، في حالة مسلماني، لا يعرف نفسه إلاّ من خلال معرفة الكون كوحدة تشترك معه في صفاء الذات، أو تبعثرها في عملية انشعاث مضى عليها بلايين السنين، ويبدو أنّها مستمرّة إلى حين.
يتساءل في مطلع “دخان”: “الأفق؟ / أم أنا البعيد؟” وليس أروع من تعبير عن هذه الوحدانية في الحال مما جاء في “خلل”:
إنه الطقس
يمشي على عكّازين
يتنفس بمنخارين
أوكسجين
وثاني أكسيد الكربون.
الطقس صار بشراً والبشر صار طقساً، لكن من قال إن هناك فرقًا؟ لعلنا بحاجة لعبقرية مسلماني ونظرته الثاقبة لتضعانا في هذه الصورة، بل يجب أن أقول هذه الحالة التي نعبر في خللها كل يوم لكننا نأخذها بحكم المسلمات.
وتعابير مسلماني كلها لوحات فنّية ترتكز على عنصر التركيز في دلالتها، فتأتي كأنها ومضات برق سريع تترنّح في الضمير هنيهة ثم تستقر في الفكر متأججة إلى حين. هذه مثلًا قصيدة شجرة:
عارية
إلاّ من باشق
يقف على أعلى مشهد الوحشة.
هذا الترنّح والإلحاح يميّز أسلوب مسلماني في هزّه للمشاعر. هو بارع في الإمساك بأوتارها الأساسيّة، واللعب عليها بترانيم ضميريّة ساحرة. يستعمل مثلًا كلمة “أيضًا” عنوانًا لقصيدة تقول: “الصقيع يكسر البحر / لا مطر الليلة / أيضًا.” تذكروا حين يصيبنا السأم، أو يطول بنا الألم فلا تنتهي مشكلاتنا ونتساءل إلى متى؟ ألا يكفي؟ أيضًا؟
ولعل من أبلغ صور المعاناة ما يذكره في “ثقب” إذ يقول بعد وصف من هو في حالة نوع من الاغتراب:
ما ذا يفعل
إن لم يتلهَّ
بثقب قلبه؟
ألا تكفي تلك الجدران المائلة والهياكل المطفأة والبلاد البعيدة والارتجافات على الرمل؟ أولا يكفي طول “الليل” ليزيد المرء وحشة وأسى فتراه حين
نهض
ألقى نظرة على الوحشة المتدلية من عينيه
ولم يساوره شك
أنّه الليل.
وفي “رجاء” نرى أنه يريد الراحة بعد أن “مخرت سفنٌ طويلًا رأسه”. والساحرة في “رقص”، “تشك شهوة في الدمية”. وفي “العابر”، “تحقن الشرايين باليباس”. ياله من عالم يتم التعبير عنه بالعبور، مع كل المدلولات الجنسيّة والفيزيائيّة والحسيّة والمجازيّة لهذه العمليّة الصارخة صورة وتنفيذًا.
وتأخذ الصنعة الكلامية بعدًا متألّقًا في تعابير مسلماني، وليس أدلّ على ذلك أكثر مما جاء في “رمل”، فنقرأ: “رائحة مألوفة / في الغريب”، و “في السماء غيمة / مع ذلك لن تمطر هذه اللوحة”. وفي القطعة نفسها ننتقل من هذه المفارقات إلى تأكيدات خلّاقة على الرغم من واقعها الصارخ فنقرأ: “حمار يتواطأ مع فرس / لافتعال بغل.” وإلى مفارقات من نوع آخر حين نقرأ: “القرش في المدينة / كما في البحر.”
ويخصّص قصيدة عن “المدينة” فيها زخات من سخريته الثاقبة خصوصًا حين ينزل البعض من جباله إلى المدينة ليجد ما اقترفته المدينة بحق الطبيعة: “… سمعوا في قلوبهم تكرّ حجارة بيوت / كانت في الجبال.” وشبيه بهذا قوله “الشوارع تعضّ قدميَّ” في قصيدة “لون الزجاج”، الذي هو في الواقع لون دمه حين يفترسه ذئب غربته في عاصفة تشرّده الدائم. أما في “عصفور في المدينة”، فالعصفور “حيّ لأنه يغني.”
وكذلك نرى أنه في بعض الحالات يركز تركيزًا واضحًا على كدّ الإنسان وعذابه. يقول في “فحم”:
لأن خبزه قليل
دلقوا تعبًا على وجهه
ولأنه يحب الشمس والشجر
من ساقيه
علق.
مدلولات العنوان “فحم” واضحة بمغزاها اللونيّ والاقتصاديّ والطبقيّ، لكن لاحظوا اختياره لـ “دلقوا” واستعمالها مع “تعبًا” وسكبهما فورًا على الوجه. هنالك حركيّة خارقة في هذا التعبير، مع مدلولات ماديّة ومعنويّة عميقة، معززة باستعماله “خبزه”، وكلّ جريمة هذا المسكين أنه كان محبًا للشمس والشجر. وهنا أيضًا كناية عن البراءة وحبّ الحرّية، لكن الثمن عقاب مجحف.
ولعل هذه القصيدة الصغيرة في حيّزها على الصفحة تختصر كونًا بكامله لتصبح من أطول القصائد التي حملتها أمواج فكري. وهذا يذكّرني بتعبير استعمله ماريو غرانده، في موضوع نشرناه له في “كلمات”، إذ قال عن أمر ما إنّه “أطول من دولاب”. طبعًا التعبير بالإنكليزية غير موجود، فالدولاب لا يقاس له طول، ولست أدري إن كان هذا تعبير أسبانيّ أم أنه تعبيره الخاص، لكنّي أبقيت عليه في تحريري لنص غرانده لما وجدت فيه من حركية وعمق الدلالة.
ونلاحظ عمق العلاقة مع الأماكن التي التصق بها الشاعر حين يُعبّر بكلمات بسيطة جدًا عن هواجسه فيقول في “أين؟”: “هل يجوز أن أسافر ويختفي الرصيف؟ / أين الرصيف؟” في هذا التساؤل لهفة ولوعة وحيرة تخترق أعماق الوحشة الإنسانيّة وكأنّها “إزميل يحفر في المعاني” كما قال الدكتور طلال الساحلي عن شعر مسلماني. و”الغريب” الذي كان يحمل فكرة “ترقص في رأسه لأوّل مرّة” في قصيدة “فكرة”، جعله مسلماني يحمل إزميلًا أيضًا، فكأنّي به يريد لهذه الأفكار أن تترسّخ أينما حلّت، أم ترى هل يلوم العالم لعدم تمتّعه بترسّخ مثل هذه الأفكار؟
لكنّ مسلماني يسافر حتّى من نفسه ليلقى نفسه، فما تحطيمه تلك المرآة سوى سفر إلى المجهول المعلوم، أو بعبارة صديقنا الدكتور بول طبر: “قصائده تقتحم عالمًا محفوفًا بالمخاطر.” يقول مسلماني في “رؤية”: “أحطم المرآة / لأراك.” وهنا تحضرني فورًا مركبة “الدكتور هو” الفضائيّة، وأخال شوقي يركبها، أو أحسن منها، ويروّضها منعتقًا في طريقه إلى سبر أسباب الكون ودهاليزه الفكريّة والماديّة. أولم يقل في “أطياف”: “أعمارهم عموديّة / يصنعون أفقًا لرموشهم / وينزلقون / إلى أطيافهم؟” لكنّ جموحها يحيره وهو الفارس المخْلص، الموشح ببياض القلب والسريرة. وحين يتوقّف ضجيج المحرّكات، وتسبح المُهرة بين أمواج الأثير الساكنة في أعلى الطبقات الصوفيّة مكتسية ثوب إحرامها الأبيض، ويأتي نقر الدفوف خفيضًا متزامنًا مع موشّحات الكواكب الزهيّة، يأخذ تحطيم المرآة معناه الأجلّ. وشوقي سابح في عرض الكون أمنية ليس للذئب سوى الأمل في أن يلتقط بعضًا منها حيث تهبط.
الذئب حيث أنا.