قصة” مرآة “

شارك مع أصدقائك

Loading

آيار عبد الكريم

شجرة باهتة ذابلة

ضوءٌ خافت

وجه امرأة عجوز

ترى تالين هذه الكلمات في حُلمٍ يُراودها كل ليلة، عندما تخلد إلى النوم و تغرق في سبات عميق؛ و كأنها تتحرك أمام عينيها الصغيرتيْن وتسرق منهما الراحة ولذة النوم.

تتراقص الكلمات أمام عينيها، تتحاور و الكلمات سويا، تتخيلها أشخاصا تعرفهم ،و تتودد إليهم بحوارات فلسفية تصل في نهاية المطاف إلى استنتاجات و اثباتات دون جدال وصراع مع ذاتها التائهة في فضاء عريض.

تنظر إلى الشجرة الذابلة فتقول لها: لماذا ذبلت أوراقكِ الخضراء هكذا، وصرتِ صفراءَ باهتة اللون، فلم يأتِ فصل الخريف بعد، من الذي فعل ذلك بأوراقكِ المثمرة؟

تجيبها والدموع مغرورقة بعينيها الحزينتين: لقد هجرني حبيبي و توأم روحي، عشقي الوحيد، هجر أحلامنا و ذكرياتنا و أيامنا الجميلة، فلا أقوى على فراقه وهجره القاسي.

تتعجب تالين من جوابها المستكين، و بكائها على هذا العاشق الخائن، تقول لذاتها ولها: لماذا تحبينه و تُبدين له كل هذا الشوق واللهفة، وهو الذي هجركِ وترككِ وحيدةً في عالمكِ هذا؟

تستشيط غضبا من بكائها؛ فتجد ذاتها دون تفكيرٍ عميق تنصحها قائلةً: إذا كان لا يدرك مقدار حبكِ و أشواقكِ هذه، فتنحي عنه جانباً، و انسي هذا الحب الذي لا  يجلب إلا الهموم و الأحزان- افتحي صفحة حب تانية- بمقدوركِ البحث عن عاشق جديد يكنُّ لكِ كل الأشواق الملتهبة و العشق الأبدي؛ فأنتِ قوية، حقاً قوية، بجذوركِ المغروسة في باطن الأرض، و بساقكِ المستقيمة التي لا تُذَلّ لأحد، و أوراقكِ الخضراء التي حباكِ الله إياها؛ أنت شجرة فريدة مميزة استثنائية، فأنتِ من تصنع غذاءها ،قوت يومها بمفردها؛ إذا أنت شخصية مستقلة ، لستِ امعة.

ترمق بعينيها الضوء الخافت الحزين، الذي لم يعد مُطلاّ بنوره المتوهج اللامع كسابق عهده؛ فتتخيله طفلاً صغيراً ينظر إليها نظرة برجفة و رعشة، باستعطافٍ فيقول لها: أنا لا أريد أن أنير هذا العالم المُعتم المجرد من الحب ، و النقاء، و الأشواق الحية؛ فهذه الشجرة الباهتة خير دليلٍ على كلامي، هجرها حبيبها وعشيقها دون وداعٍ، وتركها ذابلة تعاني وتتذوق طعم المرارة و الألم.

فالروح والقلب النقي هما عُنواني كضوءٍ ينير الطريق لأناس أسوياء تعرف قيمة الحب وتقدره، و تعمل على نشره وتقوية روابطه، حسناً سأدخر نوري لعالم آخر ممتلىء بالحب ، والخير، الحق والجمال. تندهش تالين وتتتعجب من ردوده المنطقية الفلسفية.

تتمتم وتتنهد قائلةً: أنتَ تريد المدينة الفاضلة لأفلاطون، إذا أنتَ فيلسوف حي، أيها الضوء الضال هُويّته، وهل يقدر العالم الآن على صنع هذه المدينة بكل صراعاته، وحروبه النفسية، و البيولوجيّة و صراعاته الإنسانية؟

تقول الأسطورة الخالدة لأفلاطون: إنّ هذه المدينة كانت مُخصّصة لحكم الفلاسفة أمثالكَ؛ اعتقاداً منهم أن حكمتهم سوف تجعل كل شيء معياريا ، وبناءً عليه ستحظى بلقب فاضلة.

هي مدينة يجد فيها الإنسان ذاته، سواء كان حاكما، محكوما، امرأة،  رجل. في كل مكان نجد المثالية، الرقي، وسمات الحب تتجسد في كل حين و بأرقى صورها.

لكن هي حياتكَ، فلترضى بواقعكَ، و تستعيض عن أحلامك المثالية هذه بأنوار ساطعة تُضفي عليك وعلى اضاءتك للعالم الرضا و القبول بأقدار الله.

وفجأة، ودون سابق إنذارٍ، وجدتْ أمامها امرأةً عجوزاً حزينةً، تبدو عليها علامات الهرم ، تجلس بجانب تلك الشجرة الحزينة، تتحدث إلى ذاتها فتقول: أنا امرأة عجوز، خارت قواي، ولم أعد أستطيع مواصلة حياتي، لقد ملأت وجهي  التجاعيد اللعينة، ولم أعد أتحمل النظر إلى صورتي في المرآة.

تتعجب تالين من رفضها لهذه التجاعيد، تقول لها: أمي تقول لي دائما و مازالت؛ إنّ قلب المرأة المعمور بالإيمان والخير والحب ينعكس على وجهها الظاهر ، ويضفي عليه جاذبيةً وجمالاً حتى لو كانت امرأة عجوز مثلك؛ هذه التجاعيد هي ذكرياتكِ، و أحلامكِ، وكل تفاصيل حياتكِ.

أتذكر مشهد بين سوسن بدر ووفاء الطوخي، في مسلسل أبو العروسة، حين قالتْ لها وفاء، ليه مش بتعملي فيلر ،و بوتوكس؟

فأجابتْ قائلة: انتي عاوزاني أخفي التجاعيد دي، دي حياتي، ذكرياتي، أحلامي،  آمالي و أيامي الجميلة، أنا وعبده.

يدور حوار بين تالين وذاتها في هذه اللحظة لبعض الوقت، هل ستكون وجهة نظرها كذلك بعد فترة، مقت ورفض التجاعيد أم ستتقبلها بصدرٍ رحبٍ دون ضجر وخوف.

تستيقظ بفزع على صوتها وهي تردد هذه الكلمات الغريبة

شجرة باهتة

ضوء خافت

وجه امرأة عجوز

تنتظر على سريرها، تمسك بهاتفها؛ كي تحاول البحث عن تفسير تلك الكلمات.

عندما وجدت تفسير رؤية الشجرة الذابلة أوراقها في المنام يعني الهموم و الأحزان، والشجرة الخضراء تعني الأخبار السارة وبركة الحياة؛ انقبض قلبها و ارتعدت من الخوف المسيطر عليها.

لم تستطع أن تفسر الكلمة الثانية، وعندما حاولت تفسير وجه المرأة العجوز، ابتسمت قليلاً كي تشعر ذاتها ببعض الأمل والتفاؤل.

وفي هذه اللحظة،  دخلت ابنتها لارا الغرفة لتوقظها، قالت لها: قومي ياماما، بقينا الضهر، اتاخرتي أوي.

استيقظت ، قبلتها ابنتها الصغيرة و احتضنتها برقة وحنان غامريْن؛ في هذه اللحظة شعرتْ تالين فقط بالراحة و الاطمئنان والحب الحقيقي؛ لتجدَ ذاتها تتحدث قائلةً: لم هذا الخوف كله؟

كل هذه الكلمات

الشجرة، الضوء، وجه المرأة العجوز، عنوان للحياة أياً كانت بسعادتها أو شقاءها ، و طالما يحيا الإنسان، سيظل على خيط رفيع بين السعادة والشقاء.

…………………….

هذه القصة من مجموعتي القصصية ” الحنّونة ” الصادرة عن دار نشر كتبنا، kotobna.

صحافية مستقلة في مواقع مصرية وعربية

تحت الطبع:

المجموعة القصصية ” سيناريو.. لم أتقمّصه “

ورواية” لُعبة الانتظار”

 

شارك مع أصدقائك