صورة المتنبي كما قدّمها خصمٌ مأجور

شارك مع أصدقائك

Loading

عبد الزهرة زكي 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

واحد من أكثر الآثار (النقدية) التي خلّفها التراث والتي تطعن بالمتنبي وشعره هو (الرسالة الحاتمية) التي كتبها أبو علي الحاتمي. والرسالة الحاتمية هي كناية اختصارعن كتاب أبي علي المعنون بـ (الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره).
لكن هذا الكتاب الذي (أهداه) الحاتمي إلى الوزير المهلبي يظل أمره هو الأشد غرابةً بين مجمل ما كُتب ضد المتنبي حيث كان مؤلفه رازحاً تحت وطأة مشاعر الكراهية حيناً ومحكوماً حيناً آخر بالأجر الذي تقاضاه ثمناً لتأليفه.
في مستهل الكتاب يؤكد المؤلف إنه ما وضع هذا الكتاب إلا بناءً على رغبة الوزير يزيد بن محمد المهلبي (903 ــ 963) الذي استوزره عضد الدولة البويهي. وكان الوزير المهلبي قد عرض على المتنبي وظيفةً مقابل أن يمدحه، فرفض أبو الطيب العرضَ والطلب، مما حزّ في نفس الوزير وأوغر صدره بالكراهية ضد الشاعر، فانتدب أبا علي الحاتمي لمهمة نقد شعر المتنبي وتبيان مساوئه.
يقول الحاتمي في مقدمة الرسالة الحاتمية:” فإنه (أي الوزير المهلبي) كان ــ نصرَ اللهُ وجهَه ــ لمّا تثاقل أبو الطيب عن خدمته، ولم يوفَّق لاستمطار كفّه، وكانت كفُّه واكفةَ البنان (شديدة الهطول)، منهلةً باللجين والعقيان (الذهب الخالص)، سامني هتك حريمه، وتمزيق أديمه، ووكلني بتتبع عواره، وتصفّح أشعاره، وإحواجه إلى مفارقة العراق”.
***
يبدأ الكتاب بحكاية يرويها أو ينسجها المؤلف، وهو راويها الوحيد، لكنها حكاية تسفّه فكرة الكتاب وموضوعه وصاحبه منذ الصفحات الأولى التي تتصدره.
إنها حكاية يلتقي فيها أبو علي الحاتمي بالشاعر المتنبي في مجلس للمتنبي اتخذه بمدينة السلام، بغداد، حينما مرّ بها، وأراد المكوث فيها فلم يطل له المقام بها.
بموجب حكاية الحاتمي فإنه ذهب براحلته إلى بيت الشاعر، وإلى مجلسه، واتّخذ موضعاً له جنب الشاعر، وبدأ هناك بـ (محاكمة) المتنبي في أغرب محاكمة نقدية يكون فيها الشاعر المتَّهم (أبو الطيب)، كما تصفه الحكاية، أخرسَ عاجزاً عن الرد والتبرير ويكون فيها الحاكم الناقد المتحدث السليط الوحيد، مدججاً بعشرات الحجج التي جاء بها من شعر المتنبي نفسه فيما المتنبي تعييه الحيلة، كما يدّعي الحاتمي، فيستسلم لناقده ويذعن للحكم. إنها رواية يريد منا أبو علي الحاتمي الأخذ بها كحقيقة لا غبار عليها.
لكن الحاتمي نفسه يبدأ الكتاب بتوضيح دافعه الذي جاء بموجبه إلى مجلس المتنبي، إن كان هذا قد حصل فعلاً، وأقام فيه محاكمة الشعر نقدياً، ووضع، من ثم، كتابه (الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي و ساقط شعره) بمقتضى ما حصل في تلك الجلسة العاصفة. هذا الكتاب يتحدّث عن واقعة لم يشر إليها أحدٌ سواه، وهو نفسه لم يذكر بكتابه شاهداً واحداً على ما حصل.
***
كان نقد الشاعر، بموجب هذه الشهادة، وسيلة من الوزير لإرغام (إحواج) الشاعر على مفارقة بغداد والعراق بعدما بات الشاعر في موضع يترفع فيه عن مديح الوزير.
كان المهلبي، وقد رفض المتنبي عرضه، يريد من يمتلك الحجة والبيان لمحاججة الشاعر بما يحرجه، وبما يلجئه لمغادرة المدينة فوجد الوزير في الحاتمي ضالته. يؤكد الحاتمي هذه الرغبة في المقدمة نفسها إذ يقول:” وتخيل أبو محمد المهلبي أن أحداً لا يقدر على مساجلته (أي المتنبي) ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معز الدولة أن يرد عن حضرة عدوه رجلٌ فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته، ويساويه في منزلته”.
ومن الواضح بموجب هذه العبارة أن المتنبي، وهو ببغداد، كان يتمتع بوضع اعتباري استثنائي، بحيث تعيي الحيلةُ الوزيرَ ومن ثم السلطان البويهي عن إمكانية التخلص منه بغير هذا الأسلوب. تؤكد (الرسالة الحاتمية) نفسها مثل هذا الوضع والقيمة الرمزية لأبي الطيب في بغداد، فهو يتمتع بمجلس يؤمُّه رجالٌ وشبان لطلب شعره، أو للمساعدة في شرحه، وتؤكد ترفعَ المتنبي وكبرياءَه المعهودة وحتى تعاليه. يقول الحاتمي:” قصدت موضعه وتحتي بغلة سفواء، وبين يدي عدّة من الغلمان، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئاً من شعره، فحين أوذن بحضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض عن مجلسه مسرعاً إلى بيت بإزائه، وأعجلتُه نازلاً عن البغلة، وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفه، ودخلتُ فأعظمت الجماعة قدري وأجلسوني في مجلسه، وإذا تحته عباءة بالية قد أكلها الدهر فهي رسوم خالية. فلما جلست أقبل، وعليه سبعة أقبية، كلّ منها بلونٍ في أشد ما يكون من الحسن، يحفّها فضل اللباس والوقت أحر أيام الصيف، فنهضت فوفّيته حقَّ السلام غير مشاح له في القيام مع علمي أنه لم يدخل المخدع إلا لئلا ينهض عند موافاتي”.
يمعن أبو الطيب، بموجب شهادة (الرسالة الحاتمية) بازدراء وإهمال الحاتمي الوافد إلى مجلسه، فتواصل الرسالة تقديمها صورة المتنبي كما هو، أو كما يراه عدوه، فتقول رسالة الحاتمي:” فجلستُ، وجلس، وأعرض عني ساعة. لا يعيرني فيها طرفه، ولا يسألني عما قصدت له. فكدت أتميز غيظاً، ولمت نفسي على قصده، واستخففت رأيي في زيارة مثله، وهو مقبل على جماعة يقرؤون عليه أشياءً من شعره، وكل منهم يوقظه ويغمزه ويومي إليه بما يجب عليه أن يفعله ويعرفه من مكاني وهو يأبي الا ازورارا ونفارا، ثم ثنى بصره إلي فوالله ما زادني على أن قال:
ــ أيش خبرك؟
فقلت:ــ خير لولا ما جنيتُ على نفسي من قصدك وكلفت قدمي في المصير إلى مثلك”.
هذه صورة يقدمها الحاتمي عن الشاعر، ولم يتردد في أن يهين بها نفسه ويذلها.
من الواضح معها أن الحاتمي يريد بها تكريس انطباع سيئ عن سلوك المتنبي. الرسالة وروايتها بمجملهما موضوعتان من أجل هذا الهدف. لم يعزّ على الناقد الحاتمي حتى أن يقدّم نفسه بهذا الوضع المذل والمزري، المهم هو هدف الرسالة.
كان الحاتمي بهذا يقدم صورة الشاعر المتنبي كما هي مرتسمة في داخله، صورة الشاعر المتعالي الرفيع، لكن هدف الرسالة تقديم الرفعة على أنها منقصة في تكوين الشاعر. لنلاحظ هذه العبارة من الرسالة نفسها. لنلاحظ كيف أن التعريض بالشاعر غير ممكن لعدوه إلا بالنيل مما هو أرفع ما فيه. مذمة الناقد للشاعر تستحيل إلى ثناء على شخص الشاعر. تقول عبارة الحاتمي وهو يخاطب فيها المتنبي كما يدعي:” فقلت يا هذا! إن جاءك شريف في نسبه تجاهلت نسبه أو عظيم في أدبه صغرت أدبه أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟”. قبل هذا كان الحاتمي قد سأل أبا الطيب، وأيضاً حسب إفادته هو كما جاءت في الرسالة:” مم تيهك وخيلاؤك وعجبك، وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبر والتنمر؟”.
لا ينتهي الحاتمي من تحقيره لذاته بقصد إدانة الآخر، الشاعر، إلا بهذه العبارة الأشد ابتذالاً في معرض حواره مع المتنبي:” يا هذا ألم استأذن عليك باسمي ونسبي؟ أما في هذه الجماعة من يعرّفك بي لو كنت جهلتني؟ وهبْ أن ذلك كذلك، ألم ترني ممتطياً بغلة رائعة وبين يديَّ غلمان عدة؟ أما شاهدت لباسي؟ أما شممت نشري؟ أما راعك من أمري ما أتميز به عن غيري؟”.
المتنبي الذي يترفع على مديح الوزير سيد هذا الحاتمي، وبموجب رواية الحاتمي نفسه، يعجز عن الرد ويتوسل الصفح.
من محاسن مصادفات التاريخ أن يوكل نقد الشاعر لرجل مأجور مثل الحاتمي. هذا ما سمح لنا بمصادفة رواية بلهاء، لكنها شديدة التوضيح عن جانب من شخصية المتنبي كما يرويها عدوٌّ كاره ومأجور، جانب من شخصية الشاعر، من صورة المتنبي، كما انطبعت في خيال وفكر ناقدِهِ.
سأستعين من أجل خاتمة المقال برأي من أحد من معاصري الحاتمي، بكاتبٍ عربيٍّ كبير هو أبو حيان التوحيدي. يضع التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة) صورة مكثفة لأبي علي الحاتمي فيقول:” .. وأما الحاتمي فغليظ اللفظ، كثير العقد، يحبّ أن يكون بدوياً قحاً، وهو لم يتم حضرياً؛ غزير المحفوظ، جامعٌ بين النظم والنثر، على تشابهٍ بينهما في الجفوة وقلة السلاسة، والبعد من المسلوك، بادي العورة فيما يقول، لكأنما يبرز ما يخفي، ويكدر ما يصفي، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر وإذا خمر سدر؛ يتطاول شاخصاً، فيتضاءل متقاعساً؛ إذا صدق فهو مهين، وإذا كذب فهو مشين”.
شارك مع أصدقائك