محمد يونس محمد
يشكل نتاج الخيال الفطري انعدام أي وجود للحقيقة متسلسلة زمنيا، وهنا يفقد التاريخ ذلك التسلسل زمنيا، ويبقى ذلك محصورا في التدوينات العامة، ونظرية فوكو يا ما مقبولة في مجالها، أما نظرية توينبي فهي تعبير عن فقدان الحقيقة الحتمية، فتوينبي يرى أننا نمتلك تصورات عديدة للتاريخ، والبشرية في عكس لحظتها الآنية على التاريخ، هي تبطله، لكن في معتقدات ملتزمة بها عقليا تؤكده، ولا حق لبشر في التوغل أكثر مما يعرف يقينا، والبشرية في إطار العبودية التامة لله، تعول على المعتقد داخل أفق التسلسل الزمني للتاريخ،، لكن في تفسير الموقف يكون هناك ادعاء على اعتبار هناك حرية تامة في الاختيار، لكن ذلك ناجم من التسلسل الزمني للتاريخ وليس حسب الاختيار العقلي، الاختيار العقلي يتأكد في مخالفة التسلسل الزمني للاعتقاد، فالابن إذا يعيد إنتاج أبيه فهم ملتزم بالفكرة التاريخية المتوارثة، والتاريخ يترجم عبر ذلك التسلسل الزمني، كما تترجم المعتقدات الدينية، والدين في الإطار الفكري يفسره العقل صراحة، لكن تحولا التفسير عبر أسباب عدة إلى التاريخ، وهناك من يحيل ذلك إلى المنطق الجدلي للتاريخ، لكن على الرغم من وجود أفق جدلي، استمرت الفلسفة في تفسير الدين بالمعنى الأكثر بصيرة، وتجاوزت الفلسفة كل حدود الجدل، وقادتنا المعرفة الخلاقة إلى فهم معاصر، واستفادت الكنيسة من تلك الطروحات الليبرالية والتزمت بها، وإن كان ذلك دون إعلان البراءة من الماضي البشع.
صراحة المنهج الجدلي أوجدته عقليات التخلف وليس العقول الراقية ذات البصيرة والكشف المعرفي، والظاهرة العقلية ليست للرهان على وجود بصيرة وكشف معرفي، فيما العقل يترفع عن تلك المسميات ذات صفة الجدل، والعقل في الفلسفة ليس جدليا حتى لو فسر كذلك، أو وجدت تأويلا تسعى لفرض تلك الفكرة، وتاريخ الفلسفي نقي، ولا يحتمل ذلك الجدل الأيديولوجي، فالجدل أدنى من الخطاب الفلسفي، وأول إشارة لانعدام الجدل كان سقراط الموقف الابتدائي وصيرورة الخطاب الحر للفلسفة، ومن المغالطة تفسير موقف بالجدلي، فالمفهوم الجدلي للتاريخ يعني وجود تعارض بين جهة مبدأ خطاب وجهة أخرى، وهناك نفس صراع ما بين الجهة الأولى والثانية، وطبيعي يتطور الجل إلى المادي، وتلك أحد عوامل الحروب في التاريخ، والفلسفة لم ترفع راية يمين أو يسار بالمفهوم الأدق، وليست وجودا حتميا يرى نفسه، كما في نفس جهات الصراع الجدلي، والتاريخ المتواصل للفلسفة منذ أكثر من خمسة عشر قرنا أبرز أفكار لا تعد بسهولة، وفد استهل المنهج العلمي تاريخه من خلال النفس الفلسفي، حيث طرحت الفلسفة الرياضية مع فلسفة الشعر والسياسة والوجود بشكل تواز من بداية تاريخ الفلسفة، وتواصلت أفكار العلم والفلسفة في سيرورة احتملت تلك الجهات، وإذا كان تصور لسقراط سعى إلى فرض الفضيلة والبصيرة، وذلك من أجل المعنى البشري النبيل، وليس من أجل خطاب فلسفي، فإن أفلاطون بادر بعده دون مسميات في الجمهورية، وميز أفلاطون ما بين عالم العقل وعالم الحس.
لقد عرف البشر المتحضر الجدل، فصيرورة المجتمع ترتبط بها صيرورة الجدل، وبداية تشكل المجتمعات قبل أكثر من سبعة آلاف سنة في العاصمة الأولى باور لدولة سومر، بدأ معها بالتدريج الجدل والتمايز والتفاضل، وتلك هي مقومات اجتماعية في التأصل والكينونة، وبعد تشكل الخطاب في سومر المكتوب على الرقم الطينية، والذي تعرفنا عليه بعد الاكتشافات التي دلتنا على تلك الخطابات، والتي تمزج بين الأدب والفلسفة، لكن تاريخ صيرورة الفلسفة لا يختلف عليه أحد، ونحن منذ انطلاق الفلسفة القديمة منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وطاليس واقليديس وأرخميدس، ببداية مؤهلة للاستمرار في القرن السادس قبل الميلاد، بعدما كانت الفلسفة عالما فوقيا بلا أي تماس بالوجود البشري، وكان أرسطو في كتب – فن الشعر – وفن الخطابة – من خلال الفكر والخطاب يعتبر لحظة انبثاق الفكر الفلسفي والمعرفة الخلاقة في الفلسفة القديمة، ووضع أفلاطون النقاط على الحرف في تطرقه لتشكل الخطاب الفلسفي في لحظته الأولى بروج الجد والموقف الحازم، وقد اعتبر زينون الرواقي بعدي تجلي الفلسفة بشريا، واعتبار العامل الإنساني هو الجوهر المنشود، وقد اعتبر زينون الإنسان ابن الطبيعة وليس فوقها، وكذلك رأي هرقليطس الذي يرى بأن الحياة تتجدد باستمرار، وهذا ما يبعد الجدل عن الخطاب الفلسفي، والفلسفة ليست محطة للجدل معطلة عن التواصل والتجديد، بل هي نشاط متواصل تنتقل فيه الفلسفة الفكرة من منطقة الأعداد إلى منطقة التأهيل
من الطبيعي في التفسير الموضوعي بأن الجدل نتاج السياسة وليس الفلسفة أو المعرفة، فليس هناك قواعد بشرية للخطاب الفلسفي فيما هناك قواعد للخطاب السياسي، والفلسفة تتجدد فتتجاوز الجدل، فيما السياسة ثوابت فيتأصل بها الجدل، والسياسة ليست سوى ذلك موقف يهدف لعدم الانسحاب المباشر، وربما حتى غير المباشر، والعقل ليس بذلك الثبات بل يسعى دوما إلى التجديد، وفي إطار الخطاب نلمس بوضوح الفارق ما بين جنس اللغة في الخطاب الفلسفي وما بين الخطاب السياسي، فطبيعة الخطاب الفلسفي لمس التجديد إلى حد الماء وراء، أي بحث معرفي في الغيبيات الفلسفية ليست الفوقية، فيما نجد في الخطاب السياسي هناك توجه مباشر أما ضد خطاب مضاد، وربما يهدف الخطاب السياسي إلى الإحاطة كميتا موقف سياسي، ليهيمن على مجريات الواقع السياسي، والخطاب السياسي لا يهتم كثيرا بالمنطق السياسي، ويكون اهتمامه منصبا في التوصل إلى أحكام الأمور وتحديدها في الحدود التي يسعى إليها، فيما الفلسفة تهدف إلى بلوغ المنطق الموضوعي حتى إذا في منتصف الطريق، لتؤكد بلوغ أحد المقاصد التي طرحها جورج سانتيانا، وطبعا ذلك يتبع سلامة الفطرة الفلسفية وصحة ونقاء الجوهر وامتياز البصيرة، ولا تجد أو تلم الحكمة في الخطاب السياسي إلا في ما ندر، وصراحة انتهى الظرف الزمني الذي نلمس فيها هناك حكمة سياسية تقلل من أثر الحس الجدلي في المواقف والخطابات، وهنا ستوضح الفارق نسبيا ما بين الفلسفة في إطار الجدل وما بين السياسة.
نلمح عبر المعرفة اللسانية بوضوح ثمة فوارق عدة ما بين الكلام السياسي والموقف الفلسفي، فالفلسفة لا تقدم نفسها كسلطة فيما السياسة عبر الكلام تقوم بذلك بمقصد ثابت، وتشكل أهم المنطلقات في اللغة من وجهة نظر أولية أنها وسيلة للتفاهم، وهذا المبدأ اللغوي أقدم من كل وجهات النظر التي من المؤكد أن جاءت بعده، فاللغة الحية في تشكلها الأساس كانت هي وسيلة تفاهم بمشتركات بشرية تسبق الأمور الخاصة، وهنا كانت اللغة تمثل شكلا اجتماعيا عاما وليس خاصا، والجانب العام للغة هو يشكل أمثلة عامة للغة، وفي طبيعة اللغة الأساس تكون روح الجدل مختفية تماما، أو يكون اختفاؤها بنسب معينة، بعد تصعيدها في الكلام، ومثلما هناك فطرة لغوية، فيقابلها غايات ومقاصد في سقف الكلام، وسقف الكلام كلما توسع الجدل توسع، ونشير إلى جانب لساني، فاللغة ليست بذاته جدلية، فهي معرفة ولا تحتاج تعريفا، لكن الكلام يحتمل ذلك، وهنا أيضا نفرق ما بين النفس والعقل، فالعقل في أصله خارج أي توصيف جدلي، فيما النفس تحتمل ذلك الجدل وتؤكده أيضا، والجدل الناتج فيما بعد ليس أساسه المحمول اللغوي، بل التفسير أو التأويل، والتأويل من الممكن أ، يتطور ويتحول إلى أفق مضاد، ولا بد من الفصل ما بين اللغة والعقل والنفس والكلام، فتشكل جهة العقل واللغة في التمثيل المعايير الأصيلة، ذات الأفق الأخلاقي ومشاعر الفضيلة، والمعنى الإنساني أيضا في إطار الجدل لا تقنع المسببات على العقل بل على دوافع الفكرة، وبداية نشير بأن أصل العقل ليس يميل إلى اليمين ويتشبث بتلك القسوة، ولا هو يتوجه نحو اليسار لتأخذه نشوة الحرية المفرطة، والحس الذي يؤطر العقل عليه تقع المسؤولية والموقف، والجدل نتاج النفوس وليس نتاج العقول، وأعارض أي فكرة تحيل الجدل إلى العقل، الفعل ذلك النبل الذي تفشل الذوات في الوصول إليه، وفي أصول العقل يمثل منبعا للفضيلة، وكما يشكل العقل في الأصول ذلك التفكير السوي والحر بشكل تام، وما المعتقدات فترتبط فيما بعد بنوع الخطاب، ومن السذاجة تحميل العقل أمورا لا حقة، والتي لا يمكن أن تلمس إلا في الخطاب، والخطاب ليس العقل، بل نتاج منطقة من مناطق التفكير، وصراحة هناك مسميات لا تدخل أبدا في إي مستوى من مستويات الإقناع، فتسمية – العقل الجدلي – هي استعارة عن عدم لمس الخطاب بشكل تام، وليس العقل هو بحد ذاته قائم على الجدل في إطار التصنيف والتحديد، والعقل ظاهرة تفكير غير معينة ولا ملموسة، وأطر الوظائف تقع على عاتق على الدماغ اليمين والدماغ اليسار، وهنا أيضا ندفع فكرة الجدل إلى أبعد من منطقة الأشكال المعرفي، فالمنطق العلمي يرى في وظائف الدماغ اليمين المسؤولية عن حدود التنظيم وترتيب القضايا، والتفسير العضوي لا يكون إلا بعد تجلي الخطاب والملامسة العضوية في إطار القول، وهنا الفيصل في تحديد مفهوم الجدل، والجدل يأتي كرد فعل للخطاب في المبدأ الأساس.