فوز حمزة
سأبدأ الموضوع بسؤال قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين منا .. هل الأدب بخير؟!.
ومن رحم هذا السؤال .. يلد لنا سؤالًا آخر أكثر أهمية .. مَنْ هو الذي يملك حق الإجابة؟
إذًا لابد من التوقف طويلًا عند سؤال يطرحه الموقف .. مَنْ يملك الحق في تقييم أية تجربة أدبية لأي كاتب؟.
هل هو القارئ العادي الذي يُخضع النص دون أن يعي لذائقته الخاصة، وميوله الشخصية، أم القارئ المثقف، الذي سيحاول بالتأكيد وضع النص تحت مجهر دقيق لمقارنته مع نصوص أخرى لكتاب سابقين اختلفت ظروف تجربتهم مع التجربة الأدبية لصاحب النص!. أنتم معي أن حكم الاثنين لن يكون منصفًا لا للنص ولا لصاحبه لأن عملية التقييم لم تقم على أُسس ومعايير مُمنهجة ومهنية نستطيع الرجوع إليها كلما اقتضت الحاجة. إذن فنحن هنا بأمس الحاجة لشخص يضع النص على طاولة التشريح بحيادية تامة ويقيّم النص بموضوعية بحته مجردة من كل إهواءات دينية، أو سياسية، أو عرقية أو شخصية من شأنها التدخل لتغيير ما في النص لصالح تلك المعطيات. هنا تتجلى النزاهة الفكرية للناقد من خلال استخدامه أدوات التشريح المعقمة من النظرة الذاتية المنزوع منها كل ما هو شخصي، فبالتالي يتمكن من تتبع المعاني الخفية للكلمة والتواءاتها، وإزالة الغموض الذي يحيط بها، فينقل بأمانة انفعالات الكاتب لحظة ولادة العمل، والجدير بالذكر أن الناقد سيقوم بإخضاع النص ودراسته وفقًا للمدرسة النقدية التي يؤمن بها سواءً كانت نفسية أوتحليلية أو بنيوية وغيرها. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الناقد الأكاديمي كركن أساسي من أركان النص بعد ولادته هذا إذا عرفنا أن مصطلح النقد يعني ” الحكم ” إذن، الناقد المؤهل أكاديميًا هو فقط مَنْ يملك حق إصدار الحكم لأي عمل فني إبداعي. قد يقول قائل أن الكتابة فن إبداعي يتطلب من الأديب جهدًا نفسيًا وفكريًا، بينما عملية النقد عملية تقنية خالصة بمقدور أي إنسان تعلمها ودراستها. قد يبدو هذا الرأي منطقيًا خاصة حين نعلم أن فن الكتابة قد سبق عملية النقد بمراحل كثيرة ولولا الكتابة لما وجد النقد والنقاد، ولكن إذا علمنا أن النقد لا يقل شأنًا وإبداعًا عن الكتابة، بل ويزيد عنها بعدة نقاط في أن الناقد بالإضافة لامتلاكه القدرة على قراءة النص من عدة زوايا، وبالتالي فهو يمتلك النظرة الثاقبة التي تميز الجمال من القبيح والسلبي من الإيجابي ويضع يده على مواطن الضعف والقوة في أي نص يقرأه، وأيضًا له القدرة على تحليل هذا النص وفق ما يحتويه من مادة وتفكيكه ومحاولة إيجاد العلاقة بين مكوناته ومن ثم إعادة تشكيله من جديد ليضع أمام القارئ الأسئلة المستنبطة منه شكلًا ومضمونًا وهو بهذا يبين قيمة النص الأدبي ومدى فاعليته وإنسانيته ودوره في الحياة وكل هذا لا يتأتى إلا من خلال تتبعه للمشهد النقدي العالمي ورصد آخر تطوراته وقراءاته الكثيرة التي قد تفوق غالبًا قراءات الكاتب التي قد تقتصر على الجنس الذي يختص بكتابته. أما الدور الأخطر الذي يلعبه النقد هو تحقيق الانتشار للكاتب على المدى الواسع وتقديمه لجمهور القراء بالشكل الذي يستحقه وبالتالي يُسهم في إثراء المشهد الثقافي والأدبي، وهذه العملية ليست ملزمة بوقت محدد، فبعض الروايات وجدت طريقها للشهرة على يد النقاد بعد وفاة أصحابها؛ على سبيل المثال رواية (موبي ديك ) للكاتب الأميركي “رمان ملفيل ” التي نشرت عام 1851م ولم تلاقِ القبول بعد صدورها مما جعل كاتبها يشعر باليأس،وخيبة الأمل،فقضى بقية حياته موظفًا بسيطًا ليموت مجهولًا في نهاية القرن التاسع عشر!. في القرن العشرين بدأ النقاد،وأساتذة الجامعات يهتمون بهذه الرواية وصاروا يكتبون فيما بعد عن جمالياتها مما جعلها تحتل مكانة مرموقة بين الروايات العالمية. الأمثلة كثيرة ليس في وسعي تناولها جميعًا. نستطيع القول أن عملية الكتابة قد تنتهي بموت صاحبها أو توقفه لأي سبب كان بعكس عملية النقد التي من المؤكد أن لها القدرة على تناول أي عمل أدبي حتى بعد موت صاحبه. أن العمل الأدبي هو محاولة لنقل الحياة على الورق وتفسيرها من وجهة نظر الكاتب وفلسفته، أما النقد فهو تفسير لذلك التفسير ولصور الحياة التي وضعت.