قصّة قصيرة بقلم كينيدي أسطفان

شارك مع أصدقائك

Loading

ترجمها عن الإنكليزيّة الدكتور رغيد النحّاس، من كتاب “أربع وثلاثون حكاية – ترجمة لقصص أستراليّة قصيرة معاصرة”، منشورات كلمات، سيدني 2015.

 

وَعْد

“ذات يوم، سأصبح طبيبًا عظيمًا يا جدّي، وأعدك أنّك لن تموت أبدًا.”

كنت وقتها في التاسعة من عمري، لكنّ أحلامي كانت أحلام من كان في الخامسة، مليئة بأمل أنّني سأكون دائماً محاطًا بالناس الذين أحبّهم، أولئك الذين ملأوا حياتي حبورًا. وأراني معذورًا لعاطفتي الشديدة تجاه هذا العجوز الذي يزيد عن السبعين، وذاكرته مكتبة تختزن حكايا عن جنود أتراك ومصريّين وإفرنسيّين تعاقبوا على احتلال لبنان؛ حكايا النُبل والبطولة الإنسانيّة، يسبكها في لبوس من الكلمات السحريّة تجعل المستمعين صمًّا بكمًا عميًا عن العالم المحيط بهم، وأذهانهم مركّزة فقط على هذا الحكواتيّ الذي يرتدي السروال التقليديّ والقلنسوة الفخّاريّة اللون: “بوخليل”، جدّي.

أتذكّر جليًّا ذلك اليوم الذي مات فيه والدي، ابنه الأكبر، نتيجة لحادث سيّارة، والناس الذين حضروا بأزيائهم السود لتقديم العزاء لعائلة الفقيد، وتكريم التقاليد العتيقة. توقّعوا أنْ يجدوا بوخليل مترهلًا، منطويًا على نفسه، يرتدي حزنه وكأنّه صليب على صدره. لكنّهم شاهدوا رجلًا منتصب القامة، حزنه العميق يَظهر صفاءً يخيّم على أهل البيت، ويذهل الجميع بقوّته.

كنت أقصد القرية لأرى بوخليل أثناء عطلتي الصيفيّة. كانت أشجار التفاح المزروعة في صفوف متناسقة في الحقول هي الآثار الوحيدة للحياة المنتظمة هناك. ما عدا ذلك، القرية مليئة بالمتناقضات. أكثر ما يسترعي انتباهي برك الوحل الكثيرة، المفتوحة في الطرقات المعبّدة، التي يسلكها الرعاة بماشيتهم، والشبّان بسيّاراتهم الحديثة يتسارعون تباهيًا، فيدفع المارّة ضريبة المرور بما يصيبهم من لُطخ. تلك قرية يعيش فيها المثقّف مع القَبَليّ، المسالم مع المحارب، المتصوّف مع المتهوّر، تجمعهم صفة مشتركة واحدة، ألا وهي الشغف بتلك المرتفعات الجرداء التي تحيط بقريتهم؛ ببيوت الحَجَر، بالسقوف القرميديّة، وآلاف المخابئ الصغيرة التي كانت تُنسج فيها أحلام الطفولة، وبغابة الأرز القريبة، بعطر زيتها العتيق، وظلالها التي تترامى فيها أصداء قصص الكتاب المقدّس.

جمال القرية فتّان. جاذبيتها لا تقاوم. سحرتني!

ما أذكره من تلك الأيّام هو مُساعَدَتي لجدّي في جني محصول جديد من البطاطا. كان بوخليل يحني ظهره لساعات، قابضًا بيديه، اللتين تحملان نُدبًا خلّفتها سنين زراعة لا تنتهي، على مِذراة قديمة يحفر بها الأرض، فيطرح التربة جانبًا لتظهر الدرنات المخبّـأة. كان العجوز دؤوبًا مثابرًا، وكنت أنا الصبيّ أحاول مشاكلته، لكنّ هذا لم يكن بالأمر اليسير. وعلى الرغم من أنّ السنين زادت من عزيمة ساعديّ قليلًا وأضعفت ساعديه قليلًا، إلاّ أنّني لم أقدر أبدًا أنْ أماثل حماسه للأرض، وأنْ أماشي إيقاع مِذراته.

صادفنا مرّة شتلة بطاطا بزرية. كان لها لون داكن مميّز، وكانت لا زالت متعلّقة بالألياف التي خرجت منها الدرنات الجديدة.

“اُنْظُرْ كم هي جافّة وقديمة،” خرجت الكلمات مع أنفاسه.

“تكاد تكون فارغة،” كان جوابي وأنا أتحسّس بشرتها.

استقام، ومسح العرق عن وجهه. أشار بإصبعه المرتجف نحو النموّ الجديد وابتسم: “حياتها الآن في مكان آخر، أترى؟”

بعد انقضاء كلّ يوم من تلك الأيّام كنّا نجمع المحصول في أكياس خيش كبيرة، نحملها فوق ظهورنا، ونشقّ طريقنا عبر ممرّ ضيّق لم يكن أكثر من مجرّد صخور ونبات القرّاص اللاسع. أحيانًا، حين كان ضباب أيلول يزحف ببطء إلى أعلى الوادي ليلفّ القرية بكاملها بغطاء روحانيّ، والعالم من حولنا يتحول إلى الأبيض، وتفقد العين قدرتها على رؤية ما يقع على بُعد ذراعٍ ممدودة، كنت لا أستشعر من حضور بوخليل سوى تنفّسه المتواصل، وانسحاق التربة تحت جزمته. شعرت في ذلك الجوّ وكأنّني في حلم، أثب نحو المجهول، يقودني فقط إيماني بمن كان أمامي، يقود طريقي.

لم تدم تلك السنين الهادئة طويلًا. اندلعت الحرب الأهليّة حين كنت في الثالثة عشرة، وويلاتها التي اقتصرت في الشهور القليلة الأولى على المدن الساحليّة الرئيسة، سرعان ما امتدت إلى كلّ المناطق. جاء الغزاة إلى قريتنا وأحرقوها، أمّا من نجا من القرويّين، فلقد عمد الصليب الأحمر إلى نقله في قافلة من الباصات نحو بيروت، فهناك يمكن لديْرٍ أو قريب أو صديق أنْ يوفّر لهم المأوى ريثما يتمّ التوصّل إلى معادلة للسلام، معادلة كانت تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم.

محزنٌ أنْ يكبر المرء في ظلّ الحرب الأهليّة، لكنّ سخرية القدر هي أنْ يتعوّد على بشاعتها، على زئيرها، وحتّى رائحتها. تلك لعمري مأساة بحدّ ذاتها تهزأ بوجودنا كلّه. وحتّى أشدّ أهل المدينة عنادًا – أولئك الذين رفضوا لسنوات أنْ يؤمنوا أنّ الموت قاب قوسين أو أدنى، على بعد حارة واحدة، نَفَسٍ واحد – استسلموا أخيرًا لما لا يستطيعون تغييره، ولقبول تعريف الـ”حياة” الذي فرضه قاموس الحرب على بيروت.

لكنّ الصدمة كانت كبيرة بالنسبة للقرويّين. فجأةً تحوّل الهواء الذي اعتادوا على استنشاقه نقيًّا إلى وسط ملوّث بالبارود والغازات المنطلقة من عوادم السيّارات. والغيوم التي كانت حتّى الأمس بيض اللون نظيفة، صارت اليوم ترتدي ثيابًا مختلفة: رماديّة، داكنة، محترقة.

لأوّل مرّة أرى علامات الحزن على وجه العجوز. تدلّى خدّاه، ولم تعد نظّارته ذات الإطار الذهبيّ قادرة على إخفاء الجيبين الغائرين اللذين غرسا نفسيهما تحت عينيه الزرقاوين الدامعتين. عزل نفسه معظم الوقت، وصار يتناول من الطعام قليله حتّى تقلّص جسده إلى حزمة من الجلد والعظم، وبدأ ظهره بالانحناء، فكأنّ التطوّر يحدث منعكسًا، وكأنّ هذا آخر فصل من فصول كفّارته، واعترافه الأخير بالهزيمة. وجدّتي، التي كانت دائمًا مدفوعة بإحساسها بالواجب والتقاليد أكثر من إحساسها بحبّ واضح المعايير، قدّمت له عنايتها بحنان وعطف ما عهدتهما لديها. لكنّ هذا ما كان ليغيّر مجرى الأمور، أو يوقف المحتوم منها. توفّي بوخليل بعد ذلك ببرهة وجيزة.

جرت دموع سخيّة من عيون كلّ من عرف الحكواتي، على تلك الفاجعة. والعجيب في الأمر أنّني شخصيًا لم أقدر أنْ أذرف الدموع. غرقت في عالمٍ ساكت، أفكّر في الأرض، بمذراة بوخليل العتيقة، بتلك اللُّحمة الغامضة من الحبّ التي تربط بين الرجل وأرضه، وبين الأرض ورجلها. وكأنّ الأرض أبت أنْ تتخلّى عن بوخليل حين لم يكن له من خيار سوى التخلّي عنها. أبتْ الابتعاد عن الحبيب الذي تنشّق عطرها، ولامس رَحِمَها، لذا استدعته ليرتمي بين ذراعيها الحنونين بطريقة غامضة، لكنّها مألوفة.

والآن، بعد مرور سنين طويلة، وأنا أنظر عبر عدسة الزمن وأتفهّم ببطء تقلّبات الحياة، وتلك الحقيقة التي نولد فيها، أتعلّم الضحك من تلك الأحلام الكثيرة التي نسجتها لنفسي، والوعود التي ما تمالكت سوى الإخلال بها. ومع هذا فإنّني ضمنًا مرتاح لأنّني استطعت الوفاء بوعد واحد.

سواء أكانت روح بوخليل لا زالت تحوم حول تلك القطعة المهجورة من الأرض على بعد آلاف الأميال، تستخرج مزيدًا من البطاطا النفيسة، أو أنّها في حالة وجود أخرى، هذا بعدٌ ما عاد بإمكان ذهني أنْ يحدّده، ولكنّني أتنهّد بارتياح لأنّني وجدت الطريقة. ما احتجت إلى إكسيرٍ للحياة، ولا لدواء سحريّ. ورقة فقط، وقلم، وحماس ابن التاسعة الذي لا زال يساكن ذاتي، القادر على جعل المستحيل ممكنًا، والحلم حقيقة.

عزائي في الأدب! وفّيت بوعدي! جدّي لن يموت أبدًا …

شارك مع أصدقائك