رواية انتحار تكتيكي .. الفصل السادس

شارك مع أصدقائك

Loading

د.  تهاني  محمد

(30)

شتاء 2014م

(لعينيك..لون العشب الطري..بعد ليلة ماطرة)

 

إنه أولُ يومٍ لي في الوظيفة، بعد تخرّجي من كليةِ الهندسةِ، قسمُ العمارة، بتفوّقٍ، ومعدلٍ كبير، فحصلتُ على وظيفةِ معيدٍ في قسمِ العمارة نفسه، كان صباحاً بارداً، لكنَّ السماءَكانتْصافية، ترصَّعُ وجهَها بعضُالغيمات البيضاء المتناثرة مثل ندفٍ من القطن.

دخلتُ قاعةَ المحاضراتِ ووضعتُ أوراقي على المنضدة، وحاولتُ أن أبدو بمظهرِ الأستاذ المتمرسِ قدرَ استطاعتي، وقد أعطتني بذلتي السوداء، وأناقتي التي بالغتُ فيها، بعضاً من الثقةِ والراحة، وأنا أبدأ يومي الأول هذا.

كان أمامي حشدٌ من الطلبةِ والطالبات، يصطفّون في خطوطٍ أفقية، فوق مقاعدهم..ألقيتُ نظرةً فاحصةً، ثم خرجَ صوتي قويّاً مرحا:

صباح الخير..أعرفكم بنفسي، أنا الأستاذُ علي حسين، معيدٌ في قسمِ العمارة، سأشغلُ مكانَ الأستاذِ رمضان، الذي أنهوا خدماتَه بعد هجرتهِ خارج العراق، وسأحاول أن أكملَ معكم ما فاتكم من المحاضراتِ في غيابه.

كنتُ مبتسماً، بسيطاً، وقد بادلوني التحيةَ بمرحٍ كبير، وراحةٍ أكبر، أعتقدُ أنَّ أعمارنا المتقاربة، كانت سبباً في هذه الألفةِ التي تكوَّنتْ بيننا منذ اليوم الأول.

انتبهتُ إلى عددِ الطالبات، كان عددهنَّ قليلاً جداً، قياساً بالطلبةِ الذكور، وفي الصفِّ الأولِ كانت تجلس طالبتان مميزتان جداً، ورغم أنَّ الشمسَ كانت تدخلُ قاعةَ المحاضراتِ من جميعِ النوافذِ، وتضيء المكانَ، وتنشرُ فيه الدفء؛ إلا أنها لم تستطعْ أن تخفي النورَ الساطعَ لطالبتي كانتا تجلسان لصقَ بعضهما،تتهامسان بصوتٍ خافت، وتضحكان خلسة.

أحداهما كان لها شعرٌ أحمر نحاسي،وبشرةٌ بيضاء، يطرّز خديَّها بعضُ النمش، وتطوّقُ عنقها سلسلةً ذهبية، تحملُ في وسطها صليباً ذهبيا.

أما رفيقتها، فقد كانت تبدو مثلَ نجمةٍ هاربةٍ من عتمةِ الليلِ، جلستْ في وضحِ النهارِ أمامي،تتلألأ بوجهٍ ملائكيٍّ ناصعِ البياض، تزيّنه عينان خضراوان، تشبهان بخضرتهما، حجرَ الزمرّد النقي.

لم أرَ في حياتي وجهاً مثل وجهها! كان شعرهُا الكثيفُ حالكَ السواد، يغطّي كتفيها، وينسدلُ حتى خصرها الأهيف، لم يكن جمالُها فقط هو مالفتْانتباهي، ولا الصليبُ المعلقُ في رقبةِ رفيقتها، ذات الشعرِ الأحمر، لكن نظراتها التي تتجه نحوي، والتي لم تتركْني لحظةً واحدةً طيلة وجودي في القاعة..

عيناها كانت تخبرني بشيءٍ ما..شيءٍ يشبه ضوءَ شمعةٍ خفيف، في نهاية طريقٍ معتم.. شيءٍ له رائحةُ الترابِ المبللِ بعد يومٍ ممطر…

(31)

يبدو أن الأرقَ رفيقي هذه الليلة، فمنذ ساعةٍ وأنا أتقلَّبُ في فراشي، دون أن يقتربَ النعاسُ من جفني..لا أعتقدُ أنني على طبيعتي هذه الليلة، فأفكاري مشوشةٌ وتلك العينان لا تفارقان مخيَّلتي

ماهذا العبث ؟!

كيف أنجرُّ لمشاعرِ المراهقة، وأنا في العقد الثالث من عمري ! أمِنْ أجلِعينين خضراوين يجافي النوم مضجعي!

لكنها تربكني، وسؤالٌ يلحُّ في رأسي.. لِمَلَمْ تكنْ تعلق صليباً في رقبتها كرفيقتها، فشكلها وبياضها المرمري؛ يرجِّحُ أنها من الديانةِ المسيحية، مثل رفيقتها حمراء الشعر.. ثم ما سرُّ نظراتها تلك، فعيناها كانتا تتبعاني، وتحصي علي سكناتي وحركاتي طيلةَ الوقت.

أزعجتني أفكاري، فخرجتُ من غرفتي، واتجهتُ نحو غرفةِ الجلوسِ، حيث كان أبي يسهرمع قدحِ الشاي، وعلبةِ سجائره المرافقة له دوما. شاهدته مسترخياً مغمضَ العينين، يستمعُ لأغنيةٍ كل ليلة، أغنيةٍ عراقيةٍ لمطربٍجنوبي،صوتُهُ شجيٌّ مثل ناي..كان والدي يرددُ معه بصوتٍ يشبه الهمس:

“بس حبك قدري المكتوب ..المكتوب… تدريشكد حملني ذنوب.. ذنوب”

– آه يا أبي.. ما قصتك وهذه الكلمات! ألا تملُّمن سماعِها كل ليلة؟

التفتَ أبي ناحيتي، ثم قهقهَ بضحكةٍ قصيرةٍ ومقتضبة ومستعارة,فتلك العينان المجهدتان,عينا أبي اللتان عرفتهما، هكذا مذ أن رأيتُ النورَ أوّلَ مرةٍ في حياتي، لم يكن باستطاعتهما الفرحَ,فكان يزيّفُ الضحكَ والسعادة، ويستعيرُ الطمأنينة، ثم يغلّفُ بها محياهُ، مثل قناعٍ شفّافٍ يفضحُ دواخلهِ المشتعلة، ومُعتركَهُ مع الحياة.

– أهلا يا بني، أرى أنَّ النومَ جافاك هذه الليلة، تعال واجلسْ بجانبي.

– بالفعل يا أبي، لا أدري ما الذي يقلقني، قد يكون صوتُ الريحِ في الخارج، فهي تدوي بصوتٍ مزعج، ولا يمكنني النومَ بصحبةِ هذا القلق.

– لكنّها كانت تدوي بصوتٍ أقوى في الليلة الماضية، وقد نمتَ ملءَ جفنيك يا ولد.

وكالعادةِ أردفَ أبي كلامَه بتلك الضحكةِ المستعارةِ،ثم سألني:

– كيف كان يومك الأول في التدريس؟ حمامة، أم غراب

– بل صقرٌ شامخٌ يا أبا علي، كان يوماً رائعاً يا أبي.

– الحمد لله.. نجاحك يا علي، يزيح كلَّ تعبِ السنين عن كاهلي..

سأذهب لأنّامَ يا بني، قد تأخّر الوقتُ.. تصبح بخير.

– تصبح بخير يا أبي…

لا تنساني بالدعاء، عند استيقاظك  لصلاةِ الفجر.

لاحقتْ عيناي والدي، وهو يتجهُ صوبَ الرواقِ المنخفضِ الإضاءة، متجهاً نحو غرفةِ نومه، تأمّلتُ ساقه النحيلةَ المعاقة، وكتفيه المحدَودبتين، كأنَّ عقوداً كاملةً تتكئ بكل ثقلها على ظهره، حتى انحنى..أشعرُ أنَّ هذا الرجلَ يحمل تأريخاً كاملاً فوق كتفيه..تاريخاً لم أكنْ موجوداً فيه،وحتى أبي لم يعشْسوى جزءٍ منه، عهوداً لم أتعرّفْ عليها، سوى من الكتبِ وانحناءِ ظهرِ أبي، ودخانِ سجائره، عهداً ملكيّاً، انقلاباً عسكريا، إبادةً للعائلةِ المالكة، حكمَ العسكر، تبرعمَ نبتةِالانقلاباتِ العسكرية، رجالاً ببذلات عسكرية، يتولَّون الحكمَ؛ ثم يقتلهم رجالٌ آخرون، ببذلاتٍعسكريةٍ أيضاً، يتنازعُ الجميعُ على دفَّةِ الربّان.. حكمٌ جمهوري، ثم ديكتاتوري، سجونٌ تمتلئ، ثم تُجهَضُ، جثثٌ مجهولةُ الهوية، حربٌ، ثم حربٌ، ثم سقوطٌ، ثم خراب..كلُّ ذلك كنتُ أتحسسُ ثقلَ وزنهِ على كتفيّ أبي المحدودبتين، حتى اختفى ذلك الرجلُ اليافعُ، منتصبُ القامة، فارعُالطول، الذي أشاهده في الصور، نظرتُ لصورةِأبي المعلَّقةِ على جدارِ غرفةِ الجلوس، رجلٌ طويلٌ، منتصبُ الكتفين، يرتدي بذلةً، تنسابُ بأناقةٍ على قدِّهِ الرشيق، رغم نحافةِ ساقهِ المعاقة، الظاهرةِ من خلف قماشِ بنطاله السميك.

نظراتُه يملؤها العناد، تشعُّ من عينين واسعتين،بلونٍ عسلي براق..كانت صورةُ عرسهما؛ تظهر أمي بجانبه، تمسكُ بذراعهِ، مرتديةً فستانَ زفافها الطويل، وهي تبتسمُ بخجل،وضفيرتها الشقراء، تتدلَّى على كتفها الصغيرة.

فكرتُ.. كم يحملُ أبي من الهموم،حتى صار كأنه جد، ذلك الشاب في صورة عرسه..

كنت أشعرُ دوما أنَّ هناك شيئاً ناقصاً في علاقةِ أبي وأمي، شيئاً لم أستطعْ أن أقبضَ عليه، لكنني متأكدٌ من وجوده، كان شيءٌ يُشبهُ غيابَ الطعمِ اللاذعِ من الطعام، وكأنك تقضي حياتك تتناول طعاماً باهتاً، باردا.. لا نشوةً فيه.

تلك النشوةُ التي يبعثها فينا تذوّقُ الطعمِ اللاذع، حين تشعرُ أنَّ حرارةً تنبعثُ من جوفك، وتتدفقُ في وجهك، وأوصالك تمدُّك بالطاقةِ، والنشاطِ، والجنون.. كان هذا ما تفتقرُ له علاقتهما..

كانا لا يشتعلان.. كانا منطفئين؛ بل كانا رماداًفوقَ جمرٍ بارد.

أشعر أحياناًأنَّ في داخل أبي جزءٌ ميتٌ,لا بل أجزاءٌ، قد ماتتِالواحدُ تلو الآخر، بتسلسلٍ رقمي منضبط ,إنها تتسع,تحتلُّ روحَأبي بالكامل،أو أقل بقليل,فحين أتأمَّلُ ظهرَهُ المحدودب، وتجاعيدَ وجههِ، التي تغرقُ في أخاديدها الدموعُ خفيةً؛ يتملّكني أحساسٌ أنَّ موتاً قديماً يحتلُّ روحَ والدي,موتاً مُعتَّقاً، كلما تعاقبتْ عليه السنون؛ تضوعُ منه رائحةُ الكبرياء. يذكرني موتُه بالنبيذِ المعتَّق، رغم أنني لم أذقْ يوماً طعمَ النبيذ، لكنني سمعتُأنَّ النبيذَ المختنقَ في قنانيهِ الزجاجية المغلقة لعشراتِ الأعوام؛ يطلقون عليه اسمَ النبيذ المعتق، وهو أجودُ، وأغلى أنواعِ النبيذ.

ياترى، ماالذي خسره أبي، ليموت هكذا بالتجزئة!

في مرّاتٍ كثيرة، أُصابُ بالهلع، حين أفكرُ باليوم الذي سيموت فيه آخرُ برعمٍ أخضر في شجرةِ روحِ والدي الجافة,يُخيّلُإليَّإن مات والدي؛ سيموتُآخرُ رجلٍ يحملُ طائرَ الحرية بين أضلعه,قد يرحلُ برحيلهِآخرُ رجلٍ نطقَ بكلمةِ ” لا” قبالةَ زبانية الجحيم,آخرُالأحرارِ في زمنِ العبيد، والمتملقين، لاعقي الأحذية والأقدام.

دخلَ والدي غرفتَهُ، لينامَ وبقيتُ وحيداً، أسترجعُ في مخيّلتي أحداثَ الصباح، وصوتُ الريحِ يدوّي في الخارج،وصريرٌ مزعجٌ يُسمَعُ من الأبواب الخشبية، والنوافذ التي تضربها الرياح الغاضبة. نظرتُ إلى الساعةِ المصلوبة على الجدار، فوجدتُها قد شارفتِ الثانيةَ بعد منتصف الليل.

دخلتُ غرفتي، ووضعتُ وسادةً على رأسي، وغرقتُ تحتها في ظلمةٍ عميقة,علَّي أطردُ تلك العينين العشبيّتين الملتصقتين في مخيلتي.

(32)

ستونَ يوماً عددتها على أصابعي، وكل صباحٍ فيها تتأخرُ الشمسُ فيهبالشروق، حتى أرى وجهها، وهي تجلسُقبالتي – كشأنها كل يوم – في الصفِّ الأولِمن صفوفِ المقاعد الأفقية, عندها أشعرُ أنَّ الصباحَ قد بدأ، وخرجتِ الشمسُ من مخبئها، ونثرتِ الضياءَ في كلِّ زوايا قلبي.

طيلةَ تلك الأيام، لم أتمكَّنْ من التحدّثِإليها. كنا نتبادل الابتسامات فقط، لم أجرؤعلىبدءِالحديثِ معها، وحاجزُ الدينِ كان يقفُ بيني وبينها، لم أسالْها.. لكنني شبهُ متأكدٍ من أنها مسيحيةُ الديانةِ، مثل رفيقتها.

لكنَّ هذا الصباحَ يبدو غريباً قليلا.. فحين دخلتُ قاعةَ المحاضرات، لم ترفعْ سارة رأسها لتبادلني التحية، ولم تبتسمْ لي مثل كل يوم، كانت تجلسُ وحيدةً من دون رفيقتها،ذات الشعر الأحمرالمتوهج،وكثيرٌ من الانقباضِ والحزنِ يبدو واضحاً على وجهها الحليبي.

 

أكملتُ محاضرتي، وحزمتُ أوراقي، ووضعتها في الحقيبةِ الجلديةِ الكبيرة، مع حاسوبي المحمول،الذي يرافقني دوماً خلال يومي، ووضعتُ الحقيبةَ على كتفي، وهممتُ بالخروج، لكنني لم أستطعْأن أخطو خطوةً واحدة، دون أن أفهمَ سببَ حزنِها اليوم.

اقتربتُ منها، فانتبهتْ ورفعتْ رأسَها تنظرُإلي ….

– صباح الخير

– صباح الخير، أستاذ علي

– مابك سارة.. تبدين لستِ على مايرام، ثم هذه أوَّلُ مرةٍأراك وحيدة، دون رفيقتك.

هل حدث مكروهٌ لا قدّرَ الله؟

– تركتني أستاذ علي، تركتني هند، رفيقة عمري، وهاجرتْأمس إلى كندا…

لم تكن ترغب بالهجرة، لكنك تعلم بما يحدث في أيامنا هذه، فقد جاءهم تهديدٌ صريحٌ قبل يومين، وخيّروهم بين ترك دينهم، ودخول الدين الإسلامي،أو القتل.

هند وأهلها أناسٌ طيبون ومسالمون، إنها رفيقتي مذ كنتُ في الثانوية..

فلم يبقَأمامهم سوى الهرب، بعد أن صار القتلُ أسهلَ من تقشيرِ موزة.

 

“كانت سارة تتكلمُ والغصة تعتريها، ولونٌ أحمر يلوث بياضَ عينيها الصافيتين”.

– نعم الآن فهمتُ سببَ الضيق الذي أنت فيه، ففقدانُ الأحبَّةِ سيفٌ حارقٌ، مغروسٌ في القلب..لكنِ اسمحي لي بسؤالٍ ياسارة

– نعم تفضل

– هل فكَّرتِأنتِأيضاً بالهجرة؟ أو هل  تعرَّضتم لأيِّ تهديدٍ مثل عائلة هند؟

– لا يا أستاذ علي…

أنا وحيدةُ أمي، وأمي ترفضُ فكرةَ الهجرةِ تماماً، ثم أنَّ ديانةَ هند المسيحية،وهي السببُ وراء هجرتها .

– الستِأنتِأيضاً من ذات الديانة؟

– لا.. أنا مسلمةٌيا أستاذ، هل لأنَّ صديقتي الحميمة مسيحية، اعتقدتَ بأنني على ديانتها؟

– الحقيقة، طيلةَ الوقت وأنا أعتقد انك مسيحية الديانة.. فجمالك والصليبُ المعلَّقُ في رقبةِ رفيقتك الحميمة أعطاني تلك الفكرة الخاطئة.

 

كانتْ تنظرُإلى عينيَّ، وتلتقطُ نظراتي المرتبكة، وأنفاسي اللاهثة، وقطراتِ العرق التي تزاحمتْ على جبهتي، فترتسمُ ابتسامةً لذيذةً على شفتيها المرسومتين مثل حبَّةِ فراولةٍ طازجة.

لم أستطعْأن أخفي عنها ارتباكي، ولم يخطئْ راداري، في التقاطِ موجاتِ الحب التي تبعثها عيناها الرائعتان، فكنت أهمس في سرّي:

سارة… يبدو أنَّ لا مفرَّ منك…

(33)

لو كان أبي على قيد الحياة الآن، ماذا سيكون ردُّ فعله يا ترى؟ وهو يرى مدينته مستباحةً من كائناتٍ غريبةٍ،يتكاثرالقملُ في فروةِ رأسها، وشعر ذقنها، ويحرّم الاستحمام في شريعتها مدى الحياة.كائنات يحسبون على الجنسِ الذكري من البشرِ، فقط لأنَّهم يمتلكون عضواً ضخماً بين أرجلهم.

هل كان والدي الرجلُ العسكري الذي يحلقُ ذقنه مرتين في اليوم، ويرفضُ ارتداءَ بيجامته قبل النوم،إلا إذا كانت مكوية، ويظهر على بنطاله حدَّ السيفِ من شدّةِ الكي، يحتمل رؤية مدينته الموصل، يحكمها رجالٌ برائحةٍ عفنةٍ، وملابسٍ سوداء قذرة، وذقونٍ، تمرح فيها الحشرات، وتبني فيها العناكب بيوتها وتتكاثر!؟

أبي القائد العسكري الكبير، الذي خاض الحربَ الطويلةَ، وتحمَّلَ الويلاتِ في السنواتِ الماضية،كان يهمسُ في أذني قبل أن يفارقَ الحياةَ، وهو على فراشِ المرض:

– سارة حبيبتي..كوني صلبةً وشامخة، مثل شجرةٍ عميقةِ الجذور..لا تسمحي للعواصفِ باقتلاعك، لا تقلقيني في قبري يا ابنتي.. أنت وحيدتي، لا أشقّاءَ ولا شقيقات لك..فكوني فتاة بمئةِ رجل..اجعلي الله في قلبك، وليس في مظهرك، فليكن  قلبك طاهراً، مثل ماءِ الفرات، الذي لم تلوثْهُ فضلاتُ الجبناء، مهما تكدَّست على سطحه.

لم أفهمْ- وقتها – كلماته تلك، كانت مثل  لغزٍ بالنسبة لي، وأنا لم أبلغْ الثالثةَ عشر من عمري بعد، لكنه حفرها في قلبي وذاكرتي.

تسكنُ عشيرةُ أبي مدينةَ الموصل.كان يقول لي دوماً: سارة لم تَرِثي منّي سُمرتي، ولا ضخامةَ أنفي، وضيقَ عيني، أنت محظوظةٌ يافتاة، فقد ورثتِ حسنَ والدتك، ببشرتها البيضاء، وخضرةِ عينيها، لكنك أخذتِ مني الشجاعةَ والصلابةَ، وعزيمةَ الرجال، ابنةُأبيك بحق.

لكنني الآن أفهم كلماته جيداً، فحين تأكدتُ من حبِّ علي لي، ومن صدقهِ، وقلبهِ الطاهر؛ أخبرته عندها، أننا مختلفان في المذهب.لكنه اختلافٌ شكلي، فكلنا نعبد إلهاً واحداً، ونصلّي خمسةَ فروضٍ في اليوم، ونصومُ ثلاثين يوماً، أو تسعةَ وعشرين أحياناً، ونحجُّ إلى قبلة واحدة.

فمتى يفهم الناسُ أن ما يجمعنا أقوى من الذي يفرقنا.

عمّاتي وأقاربي وأجدادي ما زالوا يسكنون مدينة الموصل.لكنني في أوقاتٍ كثيرةٍ كنت أذهب بصحبةِ والدتي لنزورَ الأمامَ الحسين في كربلاء، لم أشعر يوماً بأنَّ مرضَالأنواعِ، والفصائلِ، والطوائف قد أصابني،لأنَّني ببساطةٍ شديدة؛ أؤمن بالإنسانية قبل الدين.وفي هذه النقطةِ بالذات كنا أنا وعلي متفقان جداً.

.في بدايةِ علاقتنا كان علي متخوفاً من رفضي له بسببِ اسمِهِ الصريح، الذي يشي بمذهبهِ الشيعي.فرجلٌ يحملُ اسم “علي حسين علي” ماذا يمكن أن يكون سوى شيعيٍّ بالوراثة.

المذهب يمكن أن يأتي بالوراثة..لكنَّ القلبَ الطاهر، والعقلَ المتفتحَ، والخلقَ الطيب؛ نحن من نصنعُهُ بتنقيةِ الروحِ من شوائبها.

نعم قد كنتُ معجبةً بعلي، من أولِ يومٍ دخلَ فيه علينا قاعة المحاضرات، فقد كان شابّاً، وسيماً، ذا طولٍ فارع، وبشرةٍ سمراء صافية.كانت نظراتُهُ تخطفني، وتحلّقُ بروحي في سماءٍ بعيدة، لايسكنها سوى لونِ عينيه العسليتين.لكنني أحببته جداً بعد أن تحدثنا.

علي، رجلٌ يحملُأيمانَهُ في قلبه، وتربطُه جذورٌ، قويةٌ، صلبةٌ، بترابِ الوطن.

كان يقول لي:

سارة، هناك حبلٌ سرّي، خفي، يربطنا بالوطن، فيمكن لنا أن نكرهَ من خان الوطن، أو نكرهَ من يحكمُ الوطن، أو أن نكرهَ ما آل إليه مصيرُ الوطن..على أن لا نكرهَالوطنَ نفسَه.

لكن لأيِّ منحدرِ يسيرُ هذا الوطن؟

فعماتي وأقاربي محتجزون هناك في الجانبِ الأيسر، من مدينتي الموصل، وانقطعتْ كلُّأخبارهم عنا، منذ قرابةِالثلاثة أشهر.أرى مشاهدَ الرعبِ كلَّ يومٍ تنقلها القنوات، الجرذان بلحاهم القذرة، وثيابهم السوداء، يتجوّلون في الشوارعِ الخربةِ للمدينة، ويزرعون راياتهم السوداء على سطوحِالبيوت، والدوائر الحكومية.

لو كانتْ رفيقتي المسيحية هند هنا، لماتتْ كمداً على مدينتنا.فهي مسيحيةٌ موصلية، ولو كانت اليوم في الموصل؛ لصارتْ سبيةً، ملكَ اليمين لأصحابِ اللحى القذرة، والجسدِ العفن، ولَتبادلوا الأدوارَ على جسدها الغض الطاهر، باسم نكاحِ ملك اليمين.

كانتِ الأخبارُ عن حكم الدواعش القذر، في مدينتي الموصل، تأتينا من بعض أقاربنا الذين هربوا من المدينة، وتركوا منازلهم وراءهم، يطلبون النجاة بأرواحهم، ومن خلال القنوات الفضائية، وبعض الأخبارِ المسربة من هنا وهناك.

أخبرتني عمتي الفارّة من المدينة: أنَّالدواعشَ المجانين، حرموا على النساء هناك، طلاءَ شعرهنَّ بالأصباغِ، ونتفَ زغبِ حواجبهن، ووجوههن، ومن تفعل ذلك؛ تعاقب بالجلدِ، والمرأةُ صاحبةُ صالون التجميل، التي كانت تقوم بهذا العمل، تكون عقوبتها قطعُ أصابعِ كفِّها.

أخبرتني أيضاً أنَّهؤلاء الممسوسين،علموا عن طريق نسائهم “الداعشيات” اللاتي كُنَّ يتخفينَ ويدخلنَ بين نساءِ المدينة، وصالونات الحلاقة، يقتنصنَ الأخبار.. بأنَّ فتاةً طلبتْ من صاحبةِ صالون الحلاقة، أن تضعَ لها وشماً مؤقّتاً، لاصقاً على ظهرها، وحين وصلَ لهم الخبرُ؛ قاموا بجلبِ المرأةِ المسكينة، صاحبةِ صالونِ الحلاقة، وجلدوها مئة جلدة، وقطّعوا لها أصابعَ كفِّها، جزاءً على عملتها تلك.ثم بعدها قاموا بغلقِ كلِّ الصالونات، وحرموا تجميلَ النساء، عدا نسائهم، فكانوا يأمرون بعضَ الصالونات النسائية بالعمل على تزيينِ نساءِالدواعش بحجةِ أنهم يقاتلون، ويجب أن يتلذذوا برؤيةِ نسائهم في أجمل صورة.

في أحدِ الأيامِشاهدتُمقطعاً مسرباً من مدينة الموصل، لفتاةٍ كانوا يعذبونها بآلةٍ تُسَمَّى “العضاضة” وهي شيءٌ معدني، يشبه مصيدةَ الحيوانات، ولها أسنانٌ معدنيةٌ مدببة.فكانوا يعاقبون تلك الفتاةَ بقرضِ يدها، بالعضاضة،لأنَّها خرجتْ دون أن ترتدي القفازات، مع أنها كانت ترتدي النقابَ كاملاً، وهو الزيُّ الذي فرضته داعش على نساءِ الموصل بعد استباحتها.

يبدو أن أصابعَ الفتاةِ كانت مصنوعةً على شكلٍ فرجِ امرأة, وما أن تقع نظراتُهم على أصابعها حتى تستثارَ غرائزُهم، وتنتفخَ أوداجُهم، وتحمرَّ أحداقُهم، ويسيلَ لعابُ شهواتهم، لذا قطّعوها لها؛لأنَّها أصابعُ فاجرةٍ، فاسقة، خرجتْ من الكفِّ،دون أن ترتدي ملابسَها الداخلية.

أحيانا وأنا أشاهدُ وأستمعُ لأخبارِ مدينتي المستباحة وأراها خَرِبَةً، يتجوّلُ فيها الغربان، تنتابني نوباتُ تقيؤٍ متكررة. وأشعرُأنَّ كلَّ فتاةٍ اغتصبوها هناك، تلبسني روحُها، فانفرُ من جسدي، وتراودني كوابيسٌ مرعبة، وأرى نفسي وسطَ رجالٍ يلبسون السواد، ويتحدثون إليَّ بكلماتٍ غريبة، وكأنها عدّةَ لغاتٍ، من عدّةِ دول.يحيطون بي، وأيديهم تحاولُ لمسَ جسدي.فأرى نفسي وأنا أمسكُ خنجراً، وأسدُدُ نصلَهَإلى قلبي، وأحدهم يكشفُ عن ساقي، فأرفع يدي عالياً، وأغرزُ الخنجرَ في قلبي، وأصرخُ لكنني لاأسمع صوتي، ولا يسمعني أحد، يتبللُ ثوبي، وجسدي بالدم، لكنهم لايبالون بدمي، ولا بصراخي، فتمزقُأظافرُهم القذرةُ ثوبي، ويتعرَّى جسدي، ثم يجثمُ أكبرهم سنَّاً فوق صدري، ويبدأ باغتصابي، والخنجرُ مغروسٌ في صدري،أصرخُ ولا أموت..

أصبحت أحلامي كوابيساً..وفكرةُ الهجرةِ، والهربِ من البلدِ، بدأتُ تدقُّ في رأسي، مثل ناقوسِ الكنائس.

(34)

(قشورٌ ملونة)

 

ان الغداءُ “سمكا مسقوفاً” الأكلةُالتي يجيدها زوجُ أختي عمر، ويبرعُ فيها كبراعتِه في طلاء الجدران.

وضعَ السمكةَ المشويةَ على المائدة العامرة بالرزِّ والبصلِ والسلطات، لم يكن ينقصنا في جلسةِ غداء يوم الجمعة – الذي تركناه منذ أن انتقل أخي وزوجته مع عمر وأختي إلى حي آخر، بعد أن هجَر عمر وأهله قسراً من حيّنا غير أمي – رحمها الله – والتي كانت ذكراً يطوف بيننا، وترفرف روحها، تمسح وجوهنا المتعبةَ بضياءٍيتسللُ من شقِّ الذاكرة.

كنتُ أزورُ أخي، الذي سكن مع عمرَ في بيتٍ واحد. لأنَّ من المحالِ على أخي، أن يبتعدَ عن رفيقهِ الروحي عمر، فما كان منه إلا أن تركَ الحيَّ معه، واستأجرا منزلاً في حيٍّ آخر.

بعد أن تحوَّلتِ السمكةُ على المائدةِ، إلى فوضى عارمةٍ من العظام، رفعتِ النساءُ كلَّ تلك الفوضى، واستبدلنْها بصحنٍ كبيرٍ، لفواكهٍ متنوّعة.

أمسكتُ بسكينِ تقطيعِ الفاكهة، ورفعتُ تفَّاحتين من الصحنِ الكبيرِ الشفاف، ووضعتهما في صحني، ثم رحتُ أقشِّرُ التفاحةَ الصفراء، وأقطّعها إلى قطعٍ صغيرة، ثم قشَّرتُ التفاحةَ الحمراء، وفعلتُ بها كسابقتها.ثم قلت لعمر:

-خُذْ هذهالقطعة،واخبرني ما هي؟

نظر لي عمر باستغراب، ثم راح يقضمُ قطعةَ التفاح، وهو يواصلُ كلامه،ويكتمُ ضحكته.

– إنها تفاحةٌ طبعاً.. هل تظن أنها باذنجان مثلاً!

– إذاً..خُذْ وتذوَّقْ هذه القطعة، واخبرني عنها.

تناولها مني، وراح يطحنها بتلذذٍ بين فكيه ثم قال:

– تفاحٌ أيضاً.. ما بك يا أبا علي؟ قد نقيتُ لكم التفاحَ الأصفر والأحمر بيدي، واخترته من أجود الأنواع.

– لكني لم أطعنْ بجودتِهِيا عمر، فقط لدي سؤال واحد..

هل انتبهت إلى أنَّ الاختلافَ كان في القشرةِ فحسب.. أما في المضمون؛ فكلاهما تفاح.

وهذا ما نحن عليه يا عمر.. أو ما يجب أن نكون عليه، نشترك بالمواطنةِ والإخاء، رغم اختلاف العقيدة.

(35)

 

– لا مكان لنا هنا حبيبي..أرجوك يا علي، يجب علينا أن نحزمَ أمرنا، ونتخذَ قرارَ الهجرة.

الخوفُ والموتُ يحاصرنا من كل جانب..قلبي يتمزَّقُ خوفاً عليك، إنهم يترصَّدون كلَّ من يحمل شهادةً عليا، وأنت أستاذٌ وتدريسي، وهذا يضعك في دائرةِ الخطر.

– ماهذا الفزعُ الذي يسكنك ياسارة..مابك؟

لن يبقى الحال كما هو حبيبتي.. فما زال في البلد رجال، إنهم يحتشدون ويهيئون أمرَهم، لتنظيفِ الموصلمن تلك الجِيَفِ العفنة..لا تخافي حبيبتي، لابد أن يحينَ اليوم الذي نتكاتفُفيه جميعنا.. أنا واثقٌ من ذلك.

أطلقتْ سارة ضحكةً عالية، لكنّها تضجُّ باليأس,هي تعتقدُ أنني ساذج، مغرمٌ بالوطن، أحفظُ الملاحمَ التاريخية، والشعارات، وأرددها مثل ببغاء، سرعان ما ينتفون ريشه بالملقط، ريشةً بعد أخرى، بسببِ حماستي التي تصفُها بالخيالِ العلمي دوما.

– ما هذه الرومانسية يا علي! أيُّ يوم، وأيُّ تكاتفٍ هذا..إننا نأكلُ لحمَ بعضنا بعضا.

– سارة..أنا لن أتركَ بلدي، سأختنقُ إن لم أتنفسْ هواءه، حتى لو كان ملوَّثاً، تثقله السموم.لقد وُلِدتُ هكذا حرَّاً مثل أبي..أبي الذي عرض نفسه للموتِ والسجن، وخرج معاقاً من سجن الدكتاتور، فقط لأنَّه يقدِّسُ الحريةَ، ويحملُ شعارَالإنسانيةِ فوق الجميع، بينما كان يحملُ غيرُهُ شعار(الزعيم فوق الجميع).

اسمعيني حبيبتي..نعم، كثيرٌ منا محبطون لأنَّ البلدَالذي نعيش فيه،أصبح نَتِناً مثل بالوعةٍ للصرفِ الصحي، مغلقةُ المجرى، وطافحةٌ بالقذارة.كلنا يشعر بهذه البشاعةِ التي نعيش فيها ياسارة، لكن إن لم يقم أحدٌ بالمغامرة، والنزولِبجسدهِ إلى منتصفهِ في تلك البالوعة، ومحاولةِ فتحِ مجراها، ماذا تتوقعين أن يحلَّ بنا؟

ستغرقنا البالوعةُ بمياهها الآسنة؛ ماذا عن والدتك، وأبي، وأمي، وأخوتي، وجارتنا العجوز،  التي تودّعني كلَّ صباح، وتلوّح لي بيدها المكسوةِ عظامها بجلدٍ ناشف، فأنا أراها كلَّ يوم،  تتكوّمُ بجسدِها الجاف على عتبة بابها، وتدعو لي بقلبٍ طاهر، وترى الخلاصَ من هذا العفن في عيني، وعيون شبابِ الحي، الذين لم تلوّثْهم الجرذانُ، ولم تسحبْهم لأوكارها النتنة بعد.

وأقاربك في الموصل، وأبناءِ عمومتي في الجنوب.. هل نهاجرُ كلنا؟ هل ينجو كلٌّ منا بنفسهِ، ويترك الشيوخ والأطفال والضعفاء، ليموتوا غرقاً في مياهٍ قذرة!

لن ينتصرَ شعبٌ متفرقٌأعلم ذلك،لكن هذه هي جدليةُ الحياة ياسارة،إنها بين نقيضين..أمس كنت أشاهدُ على اليوتيوب فيلماً قصيراً عن كلبةٍ تبحثُ مفزوعةً عن جرائها الأربعة، وتحومُحول كثبٍ من الرمالِ والأحجار، تنبحُ بصوتٍ يشبه العويل، فانتبه عليها أحد الشباب، وقد كان المكانُ في أحد المحافظات، فشاهد قدماً صغيرةً لجروٍ مدفونٍ تحت هذا الكثبِ من الرمل والتراب، وبلمحِ البصر، تجمَّعَ مع الشاب خمسةُ شبابٍآخرين، وراحوا يحفرون الأرضَ بأكفِّهم للعثور على الجراء، والكلبةُ الأم معهم تبحث بأطرافِها الأربعة.. وبعد ساعةٍ من الزمن نجحوا في إخراج الجراء من تحتِ التراب أحياء.

مايزال هناك نقاءٌ في القلوبِ ياسارة..مايزال هنالك رجالٌ يحملون الشهامةَ والشجاعةَ في دمائهم العراقية..لن أهاجر، لن أتركَ الوطنَ للرعاع، يفسدون عطرَ ترابه بعفنهم وصديدهم.

إنني أشعرُ وكأنَّ طاقةٌ من بخارٍ في داخلي، إن خرجتْ ستحدث صفيراً، طاقةُ الشباب يا سارة، الطموح، طموحي بخارٌ مضغوط، إن خرج؛ يمكنه أن يشغلَ مضخاتٍ وعجلات.. وإن لم يخرج سيفجر الآلة نفسها.. هكذا أشعر، وأريد لهذا الطموح أن يتفجَّرَ مثل عينِ ماءٍ زلالٍ في بلدي، وليس في بلدٍ آخر.

سأسألك سؤالاً واحداً,ماذا تريدين أن تكوني، نهراً، أم بحيرة؟

– ماذا؟ هل هذا وقتٌ للمزاحِ والفوازير! أقول لك الدنيا تحترق حولنا، وأنت غير مكترث، تجلس أمامي وترمي لي بفوازيرك العجيبة، يا لبرودة أعصابك!

– مهلاًمهلاً ..هذه ليست فزورة يا جميلة، بل هي فلسفة,سؤالٌ فلسفيٌّ عميق,فالنهرُ مجنونٌ لكن جنونه ليس خاوياً، بل ينطوي على فلسفةٍ عظيمة, إنه يقطعُ ثلاثةَ أرباعِ المسافة، التي يقطعها إن أرادَ أن يسيرَ بطريقةٍ مباشرةٍ للوصولِ إلى مجراه. الأنهارُ لا تحبُّ الطريقَ المباشر، بل هي ترقصُ بتعرّجات والتواءات,تمر هنا وهناك,تترنَّحُ وتتسكَّعُ طويلاً في الأرجاء، قبل أن تصبُّ في مصبِّها الأخير. الحقيقة لا أعرفُ لِمَ تفعلُ ذلك,ربما لأنَّها لا عقلَ لها, فقد تكون مجبرةً على فعلها ذاك منذ أن خُلِقتْ، في حين أنَّ البحيرةَ مغلقةٌ تقفُ مكانها، تاركةً الجداول تصبُّ فيها وتنعشها,البحيرةُ عديمةُ الخبرة، فهي لم تجرّبْ الطرقَ الوعرة، ولم تلتف حول الحواجزِ والصخورِ لتشقَّ لها طريقاً، كما يفعلُ النهر. لم تدخلْ صراعاً مع محيطها,تقف متصلّبةً في مكانها، متكبرةً دون سببٍ تفخرُ به, أما أنا شخصياً، فلا أودّ مطلقاً أن أعيشَ مثل البحيرة، بل سأكون نهراً مجنوناً يشقُّ بقاعاً غريبة,يرتفعُ ويهبطُ ويجذب معه الوحلَ، والحيوانات،والطيور النافقة، ومياه متخمة برواشحِ أراضٍ وبلدان بعيدة, وأجتاز صراعاتٍ مع نفسي، ومن يحيط بي، وحين أصلُ أخيراً إلى المصبِّ؛ يمكنني أن أفخرَ بنفسي، شاعراً بنشوةِ الفوز، بعد رحلتي الطويلة.

لابد من مقارعةِ الفسادِ والفاسدين.ضِعي كفَّك بكفي حبيبتي، ولنرسمَ لأولادنا مستقبلاً جديداً، وأرضاً جديدة، نتشارك جميعنا فيها، بلا طائفية، بلا تمييزٍ عنصري، تحت مُسمَّى المذهب والعشيرة.

صفَّقتْ لي سارة، بكفيها الصغيرتين، بعد أن أنهيتُ حديثي، ساخرةً مني، ومن فلسفتي، ثم قالت بصوتٍ فيه لحنُ سخريةٍ واستهجان:

– نعم..أعتقد أنك تتحدثُ عن المدينةِ الفاضلةِ لأفلاطون..

وتحلمُ بتناولِ الفطور مع العصافيرِ في صباحاتِ الملائكة..أيُّ أرضٍ خضراء هذه، التي تكلّمني عنها يا علي.

أقول لك كلمة واحدة، نحن إن بقينا هنا، فسنكون إما مقتولين أو مقتولين!!

هذه أرضُ الموتِ يا علي، بلدُ رجالِ الظلام، والأزقةِ الخلفية، بلدُ الموتِ والرعب،

ولا وجودَ للمدينةِ الفاضلة، إلا في خيالك، لا تظن أنني سأتخلّى عنك يوماً، لكن صدّقني أنك حالمٌ وخيالي، وقد يؤدّي بك ذلك إلى فقدان حياتك.. هذا البلدُ ليس لمن هو على شاكلتنا يا علي، فقد استباحته الشياطين، ولن تتركه إلا وأرضه يباب.

كلُّ ماحولنا غيرُ مناسبٍ لتحقيقِ ماتسمّيه طموحاً، بل إنك بمكوثِك هنا؛ ستقتل نفسك، وكأنك ذلك الضفدعُ الموهومُ الذي وضعوه في قدرِ ماءٍ تحته النار..

– ماذا؟ إن كنتُ أنا الضفدع، فأنتِ حبيبةُ الضفدعِ المسحور، هيا اعطني قبلةً، وسيزول عني السحر.

– دعني أكملُ كلامي يا خفيفَ الدم..كنتُ أقصدُ أن الإنسان يحاولُ أن يجبرَ نفسَهُ أحياناً على التكيّفِ مع ظروفٍ قاهرة، وهذا خطأ فادح، لذا كنتُ أقصُّ عليك تجربةً قاسيةً وضعوا فيها ضفدعاً في قِدْرٍ على موقدٍ مشتعل، وحين بَدءَ الماءُ- في القدر– يسخنُ؛ قَفَزَ منه الضفدعُ، وقد كان قرارُهُ صائباً، لكنّهم أعادوه مرةً أخرى إلى القدر، فراح المسكينُ يجبر نفسَه على التكيّفِ مع حرارةِ الماء، وكلما ارتفعتِ الحرارة، يرفعُ هو من حرارةِ جسمهِ، مستهلكاً بذلك طاقتَهُ،وعندَ وصولِ ماءِ القدرِ إلى الغليان؛ مات الضفدع، لكنه لم يمتْ مسلوقاً بالماءِ الساخن، بل ماتَ بعد أن استنفدَ كلَّ طاقتهِ في محاولةِ التكيّف..

– كلا، لا أعتقد أن ذلك هو سبب موته.

– وماذا تعتقد إذاً، أيها العبقري..قلتُ لك أنَّ الماءَ المغلي لم يقتله، بل عناده وغباؤه هو من قتله.

– لا يا صغيرتي المدللة، بل الأميرةُ العنيدةُ هي من قتلته، فلم يطلبْ المسكينُ سوى قبلة، قبلة فقط يا سارة، وسيذهبُ عنه السحر، هيا.. اقتربي يا مجنونة.

– أوووه..كلُّ مرةٍأُحدِّثُك فيها عن الهجرة، تَقلبُ الحديثَ مزاحاً.

– نعم سأهاجر، لكن إلى عينيك، ففيهما من الحياةِ ما يكفيني،بل سأكون البطلَ الخالدَ في غابات عينيك.

************

كنا في بيتِ سارة، حين صارحتني بفكرتها عن الهجرة، فمنذ بدايةِ حبنا، كانت سمةُ علاقتنا هي التعاون والتفاهم، وحين طلبتْ مني سارة أن أتعرَّفَ على والدتها؛ وافقت مباشرة، ولبيَّتُ دعوةَ الشاي عصراً في منزلهم، الذي يشبه قصراً تتقدَّمُهُ حديقةٌ غنَّاء، تصطفُّ فيها أشجارُ الحمضيات،وشتلاتُ الورد بكلِّ ألوانه، وعطرُ شجرة الغاردينيا المزروعة في الزاويةِ البعيدة من الحديقة، يعبقُ متداخلاً مع نسماتِ الهواء، التي تداعبُ أغصانَ شجيراتِ البرتقال والليمون، ثم بابُ المنزلِ الخشبي الكبير، الذي يعجُّ بالزخارفِ ويربضُ على جانبيه، نمران كبيران من الرخام، بفكَّين مفتوحين، وأنيابٍ طويلة. حين اجتزتُ الرواقَ، واجهتني صالةٌ واسعةٌ جداً، صعدتُ إليها عبرَ ثلاثِ درجات من الرخام، كانتِ الجدرانُ مطليَّةً باللونِ الأزرق الباهت، وقد عُلِّقَتْ عليها لوحاتٌاصطفَّتْ بخطٍّ أفقي،تظهر فيها رسوماتٌ تحكي الحياةَ البغدادية القديمة..فتياتٌ بأثوابٍ منزليةٍ زاهيةِ الألوان، وضفائرٌ سوداء طويلة، ورجالٌ بعمامةِ الرأسِ البيضاء، تلك التي يرتديها البغداديون على رؤوسهم في الخمسينات والستينات، ثم صورةٌ كبيرةٌ مُذهَّبةُ الإطار، لرجلٍ ضخمٍ كبيرِالأنف، ضيقِ العينين، يتدلَّى شاربُه الكثيفُ الأسودُ اللون على زاويتي فمه، كان ينتصبُ في الصورةِ بشموخ، بزيهِ العسكري، ورتبتهِ المُثقلةِ بالنجوم، والرموزِ العسكرية، تحطُّ على كتفيه العريضتين، وتتدلَّى عدةُ أوسمةٍ ذهبية، معلقةٌ على صدرهِ المنتفخ.

اتخذتُ مقعدي على الأريكة المذهبة، التي أشارتْ إليَّ بها والدةُ سارة، تدعوني للجلوسِ، فيما دخلتِ امرأةٌ سمراءٌ قصيرة،تضعُ مئزراً على وسطها، وتدفعُ بكلتا يديها عربةًذهبية اللون، اصطفَّتْ فيها أطباقُ الحلوى، والسكاكين، والملاعق، وأكوابُ الشاي الخزفية، ووضعتْها بيننا، ثم تكلَّمتْ مع والدةِ سارة، بلكنةٍ أجنبية، ثم أومأتْ لها والدةُ سارة بالانصراف، وتولَّتْ هي بنفسها صبَّ الشاي مع ابتسامةٍ مُتكلِّفة ارتسمتْ على شفتيها.

ولأنَّني ممن يدخلون البيوت من أبوابها؛شعرتُ أنها فرصتي، كي أفاتحَ والدة سارة برغبتي في الزواجِ من ابنتها الوحيدة، وقلبي يضربُ في صدري مثل طبولِ المعركة، خوفاً من رفضها لي. .

والدةُ سارة، امرأةٌ هادئةٌ، رقيقة، لم تفقدْ تلك الرقة، رغم عشرتها الطويلة، لزوجٍ عسكري

حدَّ النخاع.فما زالت تعشقُ الأغنياتِ القديمة، وتضعُ قطَّتها البيضاء في حجرها، تداعبُ ظهرها الناعم بيديها الصغيرتين. إنها نسخةٌ من سارة، لكن مع بعض الخصلاتِ البيضاء في شعرها الأسود، وقليلٍ من الخطوط الرفيعة التي ارتسمتْ تحت عينيها، وفي جبهتها الناصعة، مع فارقٍ يبدو أنه جوهري، بين شخصيتها وشخصيةِ سارة، أو قد أقولُ بين أفكارهما، فوالدةُ سارة، يظهر عليها النعيمُ، وحبُّ الترف، والحياةُ الناعمة، كان ذلك واضحاً من تعلِّقها الشديد بالظهور في أتمِّ زينتها من الفساتين المستوردة، وإصرارها على وضعِ المجوهرات بكثرة، وعلى تنوعِ موديلاتها، في حين كانت سارة فتاةً تعشقُ البساطة في المظهر، وتظهر وهي بجوار والدتها، كأنها تلميذةٌ تقفُ بجوارِ سيدةٍ في قصرٍ ملكي.

كنتُ أتأملُ تلك السيدة الغنيّة، وكلماتُ سارة، تمرُّ في رأسي، فقد أخبرتني يوماً، أنَّ والدتها نشأتْ في أسرةٍ فقيرة، وأنَّ كلَّ هذه الرفاهية، هي لما يمتلكه والدها من مزارعٍ وأراض، فجال ببالي خاطرٌ شغلني عن الحديث، فمثلاً، إن كان المرءُ قد ذاقَ العوزَ لردحٍ طويلٍ من الزمن، فلماذا حين يتغيّر حاله، ويرفل في الجاه والنعيم، يصبح مبالغاً في التعبير عن غناه، مترفِّعاً عن فقراء القوم؟ فلو شعرَ ذلك النوع من الناسِ بقيمةِ ذاته، وهو فقير؛ لما زاده الغنى، سوى تواضعٍ وبساطة، لكنها عقدةُ النفوسِ الخاوية، التي لا تملكُ من ميزةٍ تعتزُ بها،فيُهيَّأ لها؛ أنَّ ذلك البهرج الخداعَ، سيضفي عليها كرامةً ورفعة.

تبادلنا أنا ووالدة سارة الأحاديثَ طويلاً،وكنتُ أرمي بكلماتي عن مذهبي، وجذورِ عائلتي على مسامعها، وأرقبُ ما يطرأ على وجهها من تعبيراتِ رفضٍ أو قبول،لشابٍّ مخالفٍ لها في المذهب!

فقد وصلَتْ بنا الحالُ،إلى أن يقاطعَ الأخُأختَهٌ،إذا كان زوجها من غيرِ مذهبه، ويبتزُّآخرون  أقرباءهم وأبناءَ حيِّهم،إن كانوا مخالفين لهم في المذهبِ،مقابل السكوتِ عنهم، والامتناعِ عن سَوقِهم مثل الخراف، وتسليمهم لعصاباتِ الموت.

لكن يبدو أن خوفي لم يكن في محله، فقد أخبرتني سارة – لاحقاً – أنها عانتِ الأمرَّين في سبيل إقناع والدتها أنَّ اختيارها لي قرارٌ صائب، معتمدةٌ على حبي لها، والشهادةِ العليا التي سأحصلُ عليها قريباً، ثم حصولي على درجةِ أستاذ في الجامعة.فقد كنت أخشى أن يكونَ فارقَ المذهبِ هو ما يشغلُ بالَ والدةِ سارة، لكن اتضحَ لي أنَّهالمال، وكوني من أسرةٍ فقيرة، هو ما يمنعُ موافقتها، وبعد جهدٍ كبير، تمكَّنتْ سارة من انتزاعِ الموافقةِ على زواجنا من والدتها، بشرط أن نسكنَ بعد زواجنا في منزلٍ منفصل، ويكون في حيٍّ راق، ونبتعدُ عن حيِّنا الشعبي.

توالتْ زياراتي إلى منزلِ سارة كل أسبوع تقريباً، بعد أن طمأنتْني والدتُها بموافقتها على الزواجِ،بشرطِ أن تكمل سارة دراستها الجامعية.كانت زيارتي لهم بسببِ ضعفِ سارة في أحدِ الدروس، فاتفقنا أن أحضرَ لمدةِ ساعةٍ كل أسبوع، لأساعدَها في شرحِ مايصعب عليها، وقد كانت والدتها مضيافةً، كريمة، إذ لم تنقطع أقداحُ الشاي، وقِطَعُ الحلوى، طيلةَ الساعة، التي أجلسُ فيها في غرفةِ الضيوف، حول الطاولة، أشرحُ لسارة وأضعُ لها اختباراتٍ كانت تنجح في قليلٍ منها، وتخفقُ في كثير.

في حين كانت والدتها،تجلس على الأريكةِ المقابلةِ لنا،بعد أن تضعَ ما لذَّ وطابَ على المائدة، ثم تشغل وقتهابتقليبِ مجلاتٍ من النوعِ التي يعرضُ الأزياءَ، وآخرَ صيحاتِ عالم المجوهرات، طيلةَ تلك الساعة.

(36)

كان موعدُ محاضرةِ سارة، هو السابعة مساءً، حيث أنتهي في تمامِ الثامنة، وأخرجُ من منزلهم الكائن في جانب الكرخ،قاطعاً الطريقَ بسيارتي الخاصة،إلى الجهة الأخرى من الجسر. حيث جانبُالرصافةِ من بغداد، فمنزلنا يقع في حيٍّ شعبي من أحياءِ ذلك الجانب المزدحم بالكتل البشرية.

كان الحيُّ ساخناً، وتعجُّ فيه الفصائلُ المسلحة، والوجوهُ الملثَّمة، والمسدساتُ الكاتمةُللصوت.

عصاباتٌ فاقتْ بغرابتها كلَّأفلام “الأكشن” الأمريكية، لكنني كنتُ قد تعوَّدتُ على الأوضاعِ في حيِّنا، فلم أتورَّعْ عن الدخول،أو الخروج، مساءَ كل يوم.

في تلكالليلةِ كنتُ قد تأخَّرتُ في العودةِ بسببِ عطلٍ بسيطٍ في سيارتي، التي توقَّفتْ وسطَ الشارع، بعد خروجي من منزل سارة، قاطعاً منتصفَ الطريق، فاضطررتُإلى أن أركنَ سيارتي قربَ الرصيف، وأصلحَ العطلَ بيدي، ثم أواصلُطريقي الذي كان مزدحماً جداً بسبب كثرةِ الحواجز، ونقاطِ التفتيش،التي لا طائلَمنها، وحين دخلتُإلى حيِّنا، كانتِ الساعةُ قد شارفتْ على الحاديةِ عشرة ليلاً، حيث الأزقةُ مظلمةٌ، باردة، خاليةٌ تماماً من المارّة،

فليلُ الشتاءِ طويلٌ،موحشٌ في حيٍّ تنشرُ العصاباتُأجنحتها السوداء فيه ليلاً، ويطبقُ السكونُ على الشوارع،إلا من نباحِ الكلابِ السائبة، وبعضِ الإطلاقاتِ النارية، مجهولة المصدر، تخرقُ السكونَ المخيفَ بين الحين والآخر.

حيُّنا يسكنُه الفقراء، أو من هم تحتَ المتوسطِ بقليل، ولم يبقَإلا بيتنا، لم يطلْه التقسيمُ بعد، حيث لم نزلْ نحتفظُ بمساحتهِ المكونةِ من مئتي متراً، كما هي، في حين أصابَ بيوتاتِ الحي جميعها مرض التقزُّمِوالتقلُّص،فراحتْ تصغرُ وتصغر، بسببِ تجزئتها إلى مجموعةِ بيوتٍ صغيرة، مكوَّنة من أربعين أو خمسين متراً،تلتصقُ جدرانها ببعضها البعض، فمن يسعلُ وهو جالسٌ في غرفةِ المعيشة؛ يسمعه الجارُ الملاصق له، وهو مستلقٍ على الأريكة، في غرفةِ جلوسه، التي تشترك معها بنفس الجدار.

أما غرفُ النومِ، فكانت كارثةً بحق، فما أن يحلَّ منتصفُ الليل،أو قبيلَ حلولِ الفجر بساعتين، حيث تخيِّمُ العتمةُ التامة، مثل عملاقٍ أسودٍ ضخم، ويصمتُ الضجيجُ وتنامُ الأبدانُ المتعبة، وتبدأ نارُ الرغبةِ بالاشتعال في أجسامِ الرجال، في تلك الساعات الهادئة من الليل؛ ستشعر عندها أنك وسط غرفةٍ مغلقةٍ لتصويرِ فيلم إباحيٍّ طويل، فالتأوّهات تأتيك من خلفِ الجدران الملاصقة لبعضها، حيث يتمتعُ الأزواجُ بخلوتِهم الشرعية في تلك الساعات، بعد أن يغطَّ الصغارُ في نوم عميق.

ولا أظنُّ- ونحن في هذه الخنادق الصغيرة المكدسة بالبشر – يستطيعُ الزوجُ التفريقَ بين تأوّهِ زوجتهِ من زوجةِ جارهِ في تلك الحبكة الليلية المظلمة.

حقَّاً،إنَّ الفقرَ لايشبعُ بطناً، ولا يسترُ عورة..

حين عبرتُ بسيارتي مدخلَ الحي، اتجهتُ يميناً كعادتي، للوصول إلى الزقاقِ الثاني، الذي يقعُ  فيه منزلنا,لاحَ لي في العتمةِ خيالٌ لأربعةِ رجالٍ ملثَّمين،يتجهون نحوي،فأسرعتُ وأدرتُالمقودَ لأفلتَ من المواجهةِ، لكن رصاصتان في العجلتين الأماميتين لسيارتي،أطلقها أحدُ هؤلاء الأربعة؛ أوقفتني في مكاني، وسدَّتْ عليَّ طريق الهرب.

كنتُ أعلم أنهم يجوبون الشوارعَليلاً، ليسرقوا عرباتِ الخضار، والفاكهة المغطَّاة، بعد أن يتركها أصحابُها في “بسطيّاتهم” التي تحتلُّ الرصيفَ ليلاً، ويحكِمون تغطيتها، ليعودوا كشفها وبيعها نهارا، أو يقتحمون منزلَ هذا وذاك، ممن ترصَّدوهم خلالَ اليومين السابقين،واكتشفوا إنهم باعوا بيتاً، أو سيارة، وبحوزتهم مبلغٌ من المال، كل ذلك “الأكشنالهوليودي”كنتُ على علمٍ به، لكنني ابنُ الحي، ولطالما تنقَّلتُ فيه دون أن يقطعَ طريقي أحد،أو أدخلَ في اشتباكٍ مع أحد.

ضربَ الرجلُ الذي يقفُأمام سيارتي بعصا طويلة، لها رأسٌ حديدي، فحطَّمَ الزجاجَ الأمامي للسيارة إلى قطعٍ صغيرة،ثم ضربَآخرَ زجاجِ النافذة، الملاصقة لي، فحطَّمها أيضاً،ثم مدَّ يدَهُالتي تحملُمسدساً صغيراً، وجَّهَ فوهته إلى صدغي، وهمسَ في أذني:

(انزلْ دون ضجيج يا أستاذ علي، ولا تجبرني على ضربك)

– من أنت، تناديني باسمي، وتعرفني جيداً، قل لي ماذا تريدون مني؟ مادمتم لستم غرباءً عن الحي على مايبدو.

– أغلق فمك، وتعال معنا

سحبني هو وصاحبُهُ، والمسدسُ مازال بجانبِ رأسي، وربطَ الآخر عيني بعصَّابة، وساروا بي بضعَ خطوات، حيث دفعني رجلٌ منهم داخل سيارة، ثم جلسوا يحيطون بي من الجانبين، ورائحةُ البول التي تنبعثُ من الرجلِ الملاصقِ لي، تزكمُ أنفي، وتقلبُ معدتي، ثم انطلقوا يقطعون الأزقّة الخالية على ما أظن،لأنَّني طيلة الوقت لم أسمعْ ضجيجاً، أو أبواقَ سيارات، كالتي نسمعها لو كنا نسير في الشارع العام. إنهم رجالُ الأزقة الخلفية، فهؤلاء لن يظهروا إلا في العتمةِ، مثل الخفافيش.

(37)

اليوم هو الأحد.موعدُ بدءِ الامتحاناتِ النهائية، في قسمِ العمارة، وقد أكملتُ مشروعي الذي أبهرتُ به الجميع، ولم يبقَ أمامي سوى أسبوعين من التعب، إن تخطيتها بنجاح؛ سينتهي مشواري الطويل، وأحصل على شهادةِ البكالوريوس في الهندسة المعمارية، وأحققُ لوالدي حلمه.

والدي الحبيب الذي لم يمهلْه القدرُ ليشاركني فرحتي بتحقيقِ ما كان يتمناه لي.

كان الجو بارداً جداً، فالشتاء قاسٍ هذا العام.لكنَّ اليومَ كان مشمساً، والسماءُ صافيةُ الزرقة، ورائحةُ الأرضِ الرطبة، تعبقُ في الجو بعد ليلةِ أمس الماطرة، حيث أفرغتْ السماءُغيماتها الحبلى،وغسلتِ المياهُ سقوفَ المنازل، وما تبقَّى من الأشجارِ في الشوارع.

كنت أنظرُ من نافذةِ السيارة، وأنا في طريقي إلى الجامعة،حيث كان امتحاني يبدأ في الساعة التاسعة صباحاً، وكم كانتْ تبدو بغدادُ جميلةً في هذا الصباح المشمس، بعد ليلٍ ماطرٍ طويل.

أوصلني العمُّ توفيقُ إلى جامعتي، وودَّعني عائداً إلى بيتنا، حيث كانت والدتي تنتظره للخروجِ في جولتها الأسبوعية للتبضّع.

والعمُّ توفيق، هو سائقنا الذي تعوَّدنا عليه منذ عشرة سنوات، يرافقنا في كل مشاويرنا، رجلٌ طيب،وقورٌ في الخامسة والخمسين من عمره، ورغم أنَّ صحَّتَه لم تكن على ما يرام، إلا أنه يكرهُ الجلوس في البيت.

كان يقول لي:

“الكسلُ وتركُ العمل، يصيبنا بالمرض يا ابنتي، فمنذ طفولتي وأنا أصحو مبكّراً مع صياحِ الديك، وأخرج على بابِ الله، طالباً رزقي، ولن أتركَ عادتي، مادام الهواءُ يدخل صدري”

كان علي قد أخبرني ليلةَأمس – بعد أن انتهى من شرح الدرس لي في الساعة الثامنة – أنه سيكون بانتظاري في كافتيريا الجامعة، بعد خروجي من الامتحان.

أكملتُ مراجعتي الأخيرة لأجوبتي على الأسئلة، وأغلقتُ دفترَ الامتحان، وسلمته إلى الأستاذ في القاعةِ الواسعة التي كنا فيها، وخرجتُ مسرعةً إلى نادي الجامعة، متلهفةً لموعدي مع علي.

اتخذتُ مكاني في الكرسي المقابل للنافذةِ التي تطلُّ على حديقة الجامعة، ووضعتُ حقيبتي على الطاولة، بعد أن صحّحتُ من هيأتي وأحمرِ شفاهي، جلستُ مسترخية، أترقَّبُ دخوَل علي في أيَّةِ لحظة.

مرَّتْ ربعُ ساعة، ولم يحضرْ علي، كنت وقتها أشغل نفسي بتقليبِ صفحاتِ”الفيس بوك” على هاتفي، لأتجنَّبَ مللَالانتظار، بحثتُ عن علي في “الماسنجر” فوجدتُ آخرَ اتصالٍ له ليلةَ أمس، في الساعة التاسعة مساءً! شيءٌ غريبٌ حقاً.. فهو كل صباحٍ كان يفتحُ هاتفَهُ مبكّراً، ويدقِّقُالرسائلَ الألكترونية المرسلة له على صفحته الشخصية.هل يُعقل أن يكون نائماً إلى هذه الساعة؟!

لكنَّ الوقتَالآن، هو الحادية عشرة صباحا.. تسلَّلَ القلقُ إلى نفسي، فاتصلتُ على رقمهِ لكنِ الصوتُ المملُّ هو من رد علي “الهاتف مغلق، يرجى الاتصال في وقت لاحق”.

تبدَّل القلقُ إلى شعورٍ بالغضب، وبدأتِ الحرارةُ تنبعثُ من وجهي وأذني، فكيف له أن ينامَ ويغلقَ هاتفَهُ، وهو يعلم أن اليوم، هو أول يوم لي في الامتحانات، ونحن على موعدٍ مسبقٍ في النادي!

أعدتُ الاتصالَ ثلاثَ مرَّاتٍ متتالية، والصوتُ نفسُهُ يأتيني من الهاتفِ، ويؤكّدُ لي نسيانَ علي لموعدنا، فقررتُ أن أخرجَ من النادي، وأذهبَ إلى المنزل مباشرة، وسيكون حسابه معي عسيراً، بعد أن يستيقظَ، ويرى مكالماتي الفائتة، ويعاودَ الاتصالَ بي، سأعلَّمه عدمَ تكرارِ فعلتهِ هذه معي، مرّةً أخرى، فلابد أن أضعَ منهجاً واضحاً لتعامله معي قبل الزواج، فأبغضُ الرجالِ إلى قلبي، هو الرجل المهملُ لزوجتِه.حسناً يا علي، سترى سارة المجنونةَ على حقيقتها اليوم.

 

 

شارك مع أصدقائك