5 قصائد
ترجمة وتقديم
عبدالهادي سعدون
من بين أهم شعراء الأرجنتين الأحياء، ولد في مدينة سالتا بالأرجنتين عام 1947. وفي عام 1976 تعرض للملاحقة من قبل الدكتاتورية العسكرية الحاكمة آنذاك مما اضطره للهرب والعيش في المنفى في إسبانيا، حيث عمل في الصحافة ومسرح الدمى. عاد لبلاده نهاية التسعينيات من القرن الماضي. عن ديوانه (أبداً) حصل على الجائزة الأولى للشعر عام 2000 من الصندوق الوطني للفنون، وجائزة الشعر لمدينة بوينس آيرس عامي 1998-1999. كما حصل على جوائز وطنية ودولية أخرى مثل: جائزة إستيبان إتشيفيريا في عام 2013، بتصويت من الكتاب في جميع أنحاء الأرجنتين؛ في عام 2014، حصل على جائزة كونيكس، وجائزة روسا دي كوبري من المكتبة الوطنية عن مجمل أعماله الأدبية، وجائزة فيكتور فاليرا مورا الدولية للشعر التي يمنحها مركز رومولو غاييغوس لدراسات أمريكا اللاتينية في فنزويلا. صنفت الأكاديمية الأرجنتينية للآداب (أزمنة أوروبا) كأفضل كتاب شعر نُشر في فترة الثلاث سنوات من 2013 إلى 2015، وقد حصل عام 2018 عن جميع أعماله على جائزة الشرف الكبرى من مؤسسة الشعر الأرجنتينية، وفي عام 2019 تم إعلانه عضوًا فخريًا في الأكاديمية الوطنية للفولكلور، وفي عام 2020 حصل على جائزة كارلوس الشرفية من مدينة كارلوس باث في قرطبة لمسيرته الأدبية ودفاعه عن الطبيعة.
صدر له حتى عام 2023 الكتب الشعرية التالية: مرآة النار (1968)، مصباح في المطر (1971)، جيل الأرض (1974)، صورة عن المادة (1982)، حقل تجربة (1985)، نظرية طبيعية (1991)، تين البنغال (1995)، أبداً (2001)، كتاب مصر (2002)، خط النار (2004)، خيزران (2004) الصريح (2005)، عُصبة (2009)، عُشبة (2011)، أعشاب أخرى (2012) ثَمَرات (2012)، أزمنة أوروبا (2014)، رياح الكاريبي (2015)، ديوان الكَون (2016)، نغورونغورو المَحمية (2017)، بالتازار (2018)، الجلد الأخير في العالم (2019)، كما لو أن مالك الحزين قد مر من هنا (2022)، ونِمرُ الرب (2022).
بصفته روائياً وقاصاً نشر: أوديلون (1975) الضوء البرتقالي (1984)؛ أغنية الغائب (2006) والملاك (2007). تمت دعوته من الاتحاد السوفيتي لتأليف كتاب نشرته دار نشر التقدم في موسكو عام 1990 بعنوان يوميات البيريسترويكا. وهو أيضًا معد أنطولوجيا الشعر الأرجنتيني الجديد (مدريد، 1987)، والشعر الأرجنتيني المعاصر (ستوكهولم 1988). في عام 1995، نشرت بلدية لامانشا مختارات من القصص واللوحات التي رسمها أطفال تلك المنطقة الإسبانية، بإشرافه مع غابرييل كاستيا.. تُرجمت كتبه إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والسويدية والبرتغالية والروسية. عن قصته (المداهمة) تم تصوير الفيلم الروائي الذي يحمل الاسم نفسه من إخراج رولاندو باردو.
من كتاب نقد الشعر الأرجنتيني المعاصر، يذكر الناقد خورخي تيموسي هذه السطور التعريفية الوافية بشعرية ليوبولدو كاستيا، إذ يصفه قائلاً: [يمارس “ليوبولدو “تيوكو” كاستيا ما حلم به تريستان تزارا وهو “جعل الشعر أسلوب حياة”. يصوغ قصائده بكثافة ودقة ووضوح، الثقة القلقة بالنفس والخيال. كتاباته في مواجهة عالم تهدد فيه وحشية السوق الحياة، في مواجهة تلك الآلة المدمرة التي تسمى العولمة، تُدرج كتاباته كمقاومة وتعمل لصالح كوكب المستقبل حيث سيكون لكل اليائسين الذين حرمتهم مملكة المجتمع اليوم المأوى والعدالة. شاعر محاصر بالتعطش للجمال والانسجام، لم يكل أبدًا من السفر عبر العالم، ورعاية الأمر عبر الرؤية والتذوق والكتابة فيها. لم يعد من الممكن تناول كتبه المتعددة بشكل منفصل. في هذه الفسيفساء المتنوعة، تأخذ كل بلاطة أهميتها الكاملة فقط إذا انتبهنا إلى الكلية التفكيكية التي تشكل نصوصه. تنتمي كتاباته إلى ما يمكن أن نسميه شعرية تمازج الأجناس. رسام خرائط يسافر بأشعاره حول العالم وهو يحمل نظرة التشابك والاغتراب. وفي مواجهة “الآخر” لم تغره أبدًا الرغبة في التملك. شعرية انسانية يسهل اختراقها، فهي في الواقع تتخلص من كل دروع الهوية، فهو يفتح نفسه على مغامرة المعرفة والفهم والمحبة. يتجنب بوصلة العقل ويحتضن وردة العاطفة والدهشة، ويخترق أسرار وحكمة الشعوب المجهولة والغريبة. كتبه، ثمار الترحال والسفر والتعايش، ولدت لتكون أكثر من مجرد كتب، وهي، كما قال كورتاثار، “حجارة في بناء الإنسانية المنعزلة، مطرقة أو رشة ماء في ورشة العمل المتعددة حيث يتم بناءها كصورة أخرى للإنسان على هذا الكوكب ” ولأنه انفصل عن منطق الانتصار المتمثل في امتلاك كلمته، فهو يعرف كيف يفسر الشدة العاطفية اللونية والرنانة والغريزية والمتحولة التي وجدها في تجواله.
في نصوصه يختلط المشاعر المتأججة بالفكر، وتتعارض تمامًا مع الشعارات والهدوء الذي ينمو مثل الجذام في عصرنا. لفك رموز العالم، يطلق كاستيو العنان لخياله، ويزيل أي بقايا من بناء الجملة المبسط التي لا يزال من الممكن أن تسكنه، ويهرب خلف الفطرة السليمة المشبعة بالحكمة. ومن هذه القاعدة يعرف كيف يروي لنا أبياتًا عن الخراب والنور في تناسق متماثل. مُنشِد التحولات والطفرات، يكتب من عريه كشاعر يدرك أن الاستبصار هو نتيجة إزالة الغابات وإلغاء الذات. إنه يسعى جاهداً لكشف ما لا يمكن قياسه من غموض وهشاشة وهلوسة، أي كل ما لا يمكن تفسيره إلا بالصوت الغنائي. لقد سأل الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت نفسه: “إذا لم تحترق، وإذا لم أحترق، فكيف سننير هذا الظلام المتزايد؟” نعتقد أن ليبولدو كاستيا أجاب على هذا السؤال بالإيجاب لأنه عرف كيف يحترق وينير].
مطاولة الأحلام
لا أحد يعرف متى
ينتهي الحلم.
أحدٌ تتجول في منزله
غاضب، لا يزال،
لأن قطاراً قد فاته
في الحلم.
“لقد انتهى الأمر، كان مجرد كابوس”
يقولون له.
ولكن لا يلتفت للأمر،
الخطوط تتقدم عبر الغرف
خلال ساعات
حتى تتلاشى.
هو لا يعرف ما يمكن أن تكون
عليه الحياة
فيما لو بقي
في ذلك الوقت الشبحي.
لكن الجسد
متهيب،
يطالبُ بمساحته الوهمية
(حتى لو قام بتدميرها
عندما يستيقظ
ويفكها
عندما يحلم).
غافلاً عن تلك الثروة،
يهدأ
ويعود إلى الواقع،
ليقوم بواجباته.
ولا يسمع،
لا يستطيع أن يسمع
الجرس الذي يعلن
أن القطار قادم.
رؤية في غرفة
فضاء مثالي
تنبضُ في
لغات
متموجة
ورمادية.
قنبلة
من الزرازير
عالقة في الهواء،
صورة مجسمة
لجنين كوني.
الرؤية ترى. مستقلة، مغلقة،
لا تعترف بأي معنى
تُطالِبُ
أن تفقد الغرفة وعيها،
والفضاء المضحى به
لهذا الإعلان عن المستقبل
أن يتراجع إلى نقطة:
دماغك
عندما يقترب الحل الوشيك
سوف يستبعدك:
ستكون بداخلك
ولن يكون لك أي داخل.
دَرسُ الحِجارة
هناك كتاب آخر:
الحَجَر.
الكتابات المقدسة
تحفظُ الغموض
والحجارة، تحفظُ التفسير.
الحجر يرضع الحجر
يتكاثر
ميلاده الدائم
وانقراضه المستمر.
بينما المرء
الذي يعاني من الأبدية
يصلي من أجل مكان يمنعه،
والحجارة،
مضت ورجعت إلى التراب مرات عديدة،
تَعرفُ المِران
الذي لا يتكرر أبداً.
فاعلم أن الخراب
ليس سوى
نقص في ذاكرة الأجساد.
ليس مثل هذه القبائل
التي يفرق بينها الدم نفسه
وتوحدها الرمال.
أولئك الذين عند موتهم
تتناسل الصحارى.
ساعة بيروت
هي الساعة
التي تتدمر فيها القصور القديمة
وحيدة
بقلبٍ منهوب.
فيها الأزقة
تدور حول نفسها
دون أن تتمكن من دخول هذا القَرن
وثمة شخص لم يعد موجوداً،
يشرب قدحاً من الغبار
في الحانات المهجورة.
ذلك عندما تنمو
عظام أعمدة القديس سان جورج المُعَذبة
وعندما يحتضرُ الذَهب
في مسجد محمد الأمين
وعندما يتفاخر
رخام
لإمبراطورية الرومانية.
ليعدْ اليوم
محتفياً بالمؤذن
في الريح
والكاهن الأرثوذكسي،
نحيفاً، مثل ورقة اللعب،
بين القديسين المذهولين.
لكن لم يحن الوقت بعد لوقت آخر.
الآثار مستقبل لبنان
لا تزال باقية
حرب الأخوة تلك
لن تنتهي أبداً
مادامت تحدث في الماضي.
حزينة هي الآلهة، والمدينة شاحبة كالليل.
عندما ينام الناس فحسب
ويدخل كل واحد منهم
في حلم الآخر،
ستشعر
أن الخط الذي يقسم بيروت إلى نصفين
قد التأمت جراحه.
أن تُنشِدَ البتراء
عِشُ موتى
لمدن مطمورة
ورعد
صخرة تجهض صخرة
تسندُ
هذا النصب الجنائزي للأرض.
هنا ينام
ليل البدو الأبدي
في طوافهم
مطاردون من السماء.
أسفل هذا الوادي
ترتقي إلى النجوم
لهذا العصب
المبتور بالدوار
إذ عَبرَ من قرن إلى آخر
ومن تراب إلى تراب
التجار أنفسهم
تحت الشمس الوادعة.
يتذكرون كلماتها
المكلومة على الجدران
حيث ما زالت تسير
النوق الأثرية
ولا أحد يستطيع سماعها:
بالسر تُصنع الرمال
والطرقات
من الصمت.
في هذه الفضيحة الجيولوجية
هتفت بحياتها
المواد الأولية
عندما بقيت المواد فحسب،
هنا أرتعب
الذَهبُ
وركعَ
مهزوماً
الحديد.
فوق تلك الهزيمة
رفعت البتراء قصرها
عندما انهارت الأرض
لتنجب
تنينها:
النار.
لا أحد جرؤ على امتلاكها
ولا المياه.
حملها الأنباط
مثل فتاة ضائعة
قرب الهاوية
ومن خيط إلى خيط،
علقوا لها الحدائق.
وكانت الصحراء متحمسة.
قالوا إنهم سيشيدون قرية
لا يمسها أحد
كأنها فكرة كثبان رملية.
منهم،
ومن أبناء روما
ومن الصليبيين
صمدت هذه المعابد
التي نحتت الوديان
ومسرح أعمدة محطمة
بسبب مرارة الريح.
وأيضا مقابر الملوك
والكهوف
حيث قضى الرجال الليل
وفجر الموتى.
مرة أخرى لم تعد مُلكًا لأحد.
هنا يرقدُ النور
من كل المحن
المتكلسة
لهذه الشمس المدمرة
على الارض.
في البتراء، هذا الصرح
حيث بدأنا نرصد
رماد
نهاية الأزمنة.