رواية انتحار تكتيكي .. الفصل الثاني

شارك مع أصدقائك

Loading

د. تهاني محمد

 

(6)

(الجسر 2015)

كنت على يقين أنَّالقدرَ إن كان له وجودٌ فهو خسيسٌ ظالم، يسحبنا نحو العمق في بحر لا قرار له ولا شاطئ.لكننّي ولأول مرة أعلم أنَّ القدرَمهرجٌ، يجيد لعبَ الورق، ويحترفُ اللعبَ بالبيضة والحجر، وساحرةٌ شمطاءُ تيبّس جلدها، وحفرتْ الأخاديدُ البشعةُ وجهَها الكالحَ وهي تسوق الرجال بعصاها السحرية الفاجرة، وتجبرهم على مضاجعة جسدها النتن.

لا بل القدرُأكثر عهراً وبشاعةً مما وصفت.. إنه يتلاعب بي، فبعد أن فقدتُ مافقدتٌ جاء اليوم يلعب معي دور الممرضة الحنون! يحمل البلسمَ في صحنٍ من نارٍ ليطببَ به جراحي! ياله من سافل.

يأتيني اليوم بندى، ويقفُ في زاويةٍ يحدّق بي، وهو يبتسم ابتسامةَ ظفر، وكأنه يقول لي هيا اخترْالآن  بين روحك وقلبك. لن أتركَ لك الاثنين معا..

أهكذا وبكل تلك القسوة يسوقكِ القدر، لتدخلي منزلي الذي لم تدخليه حينما كنتِ منيةَ النفسِ والروحِ يا ندى!

أهكذا تضعين الملحَ في جرحٍ يأبى أن يندمل!

ياترى ما تراني فاعلٌ في مأزقي هذا؟ هل أقبل عودتك بيننا وأبارك زواجَ ولدي الذي وضعه القدرَ مثل طعمٍ ليصطادَ به سمكةً سيئةِ الحظ،أثقلها سمٌّ بطيء، فراحتْ تترنّح في وجهِ صيادها لا هي قادرة على الهرب، ولا هو يرحمها، فينتزع الطعمَ العالقَ في سقفِ فمها ليتركها حرة طليقة تموت بكرامة.لا يشهد عذابهاأحد، وهي تتقلب وجعاً والسم يغلي في عروقها.

قد أجد وسيلة للرفض.. نعم، فما حدث لولدي علي قبل شهر من الآن  كفيلٌ بأن يبررَ رفضي لمكوثهِ في البلد، قد أتمكن من أقناعهِ بالهجرة، وبهذا أكون قد أصبتُ عصفورين بحجر.

لكنه عنيدٌ لا يلين بسهولة، ورث عني عنادي وطول قامتي وأشياء أخرى.

أو قد أستطيع إقناعه بأنه يتوهم الحب، إذ كيف يمكن لإنسان أن يميز الفارقَ بين الحبِّووهم الحب، أو بين توهّم نقص الحب، وبين نقص هذا الحب فعلا..في عالم المشاعر لايمكن التمييز بين الواقع والوهم.

لكن بالي من عجوز وغد، رأسي تدور فيه فكرة حقيرة لتفريق قلبين عاشقين، ولِمَ كل ذلك ؟ لم أتصرف بهذه السفالة! لِمَ يدفع العاشقان ثمنَ ضعفي وانعدامَ مقدرتي على الصبرِ في حضرة من أمسكتْ بتلابيب القلب ونياطه؟! ثم ها أنا ذا.. أخترعُ نظرياتٍ وفلسفةً عن الحب والوهم، وأفكر بإدخالها في رأسِ ولدي، وكأنني لم أضاجعْ ذلك الحب اللعينَبروحي وجوارحي حتى صار قطعة من كياني وجسدي، حتى أنني قد أموت باستئصالها ونزعها عني.

أشعر بالعار من أفكاري هذه،وكأنني أنزل من سلّم القفاز, نعم هكذا تماما,مثل  ذلك العجوز الذي قصَّ عليّ حكايته المخجلة يوما, حكاية لا تصدق, قال لي وهو يقهقه:

صعدت مرّةً السلمَ في مسبحٍ كبير،لأقفز من تلك القمة العالية، وأشقُّ بجسدي الماءَ، لكن لسبب ما امتنعت عن القفز،وربما أعزوه لغرابةِ الموقف، ورهبةِ الصعود للقفاز، والوقوف هناك عالياً ناظراً للمياه الزرقاء في الأسفل، حيث يسبح الأولاد مطلقين ضحكاتٍ وأصواتً غريبةً نحوي, إنهم يتحدونني أن أقفز وأمهاتهم يختلسن النظر إلى عضوي المنكمش تحت ملابس السباحة، ثم يقهقهن من ذلك العجوز مجعّد الجلد, حينها قرّرت الجلوسَ في باحةِ القفاز الصغيرة، بين السلم وعتبة القفز، متشاغلاً بشربِ علبةِ كوكاكولا، ولعبِ الورق مع نفسي, وهكذا بقيت ساعتين في الأعلى وسط نظرات الجميع الباحثة عن سبب جلوسي كالمعتوه هناك, ثم نزلتُ من السلم مطأطأً رأسي، والخجل يتسرّب عبر مساماتِ جلدي مع العرق المالح، وهكذا كان عليّ أن أتراجع,ربما كانت حماقةً مني، فلم يكن بوسعي فعل شيءٍإلا النزول من جهة السلم, هل جرّب هذا الإحساس أحدٌ يوما؟ صدقني إنه أحساس بشع,الكل يسخر منك,كثيرٌ من الناس تجري معهم الأمور عكس توقعاتهم,تلك هي الحقيقة.

رأسي يكاد ينفجر,صداعٌ يشقّه إلى نصفين، ويثقل أذني الصخب الضاج من حولي، وكأنه خلية نحل بطنين غير مألوف.

كم يزعجني هطولُ الرصاص الآن  على الجسر.. إنه يقطع عليَّ خلوتي التي أبحث فيها عن مخرجِ لمأزقي.. لا أحد غيري هنا.. أنا والجسر والرصاص…

أنا أتصرف بغرابة هذه الليلة، غرابة شديدة! فمن المفترض أن أهرب الآن  من الرصاصِ قبل أن تجد واحدة أو اثنتان سبيلها إلى رأسي أو صدري، لكني أجلس هنا غير مبالٍوكأنَّ ما يهطل الآن  هو فتات أوراق أزهار مجففة، هل سئمت الحياة أم أعتدت الموت!

الموت ! كيف سيكون يا ترى ؟ مؤلمٌ، أم رحيم، أيشبه النوم، أم يشبه عذاب الزنزانة؟

ما هذا السخف؟ وماذا يهمٌّ إن كان قاسياً، أم رحيماً، ما دام المرء سيموت؟

آه.. رأسي يؤلمني، أشعر بدوارٍ وغليانٍ في جمجمتي، وسائلٍ لزجٍ ينضحُ من مؤخرةِ رأسي، ويسيل على عنقي، آه.. لابد أنَّ نسياني لوجبةِ الغداء هبّط بالسكر في دمي، حتى بدأت بالتعرّق والدوار.. قواي تخور لا يمكنني التماسك أكثر، سأحاول الاستلقاء قليلاً ريثما أستعيد توازني.

أسدلت جفني..بقيت ممدداً على أسفلتِ الجسر حتى شعرت ببعض الراحة.. لا بل أكثر! طاقة عجيبة تندفع في عروقي، نشاط ٌغريبٌ يدبُّ من أخمص قدمي وحتى قمة رأسي، لا أشعر بشيء مطلقا، لا صداع، لا ألم، أنا أحلّق مثل طائر، أو مثل ريشةٍ في رياح شمالية.

قمت من رقدتي ومشيتُ قليلاً، بدأت أهرول.. خفةٌ لذيذةٌ تتملّكني، حتى ساقي المعاقة تركل الهواء، كأنَّ عصا سحرية أصابتني بطرفها، فانتزعتني من ذلك الكائن العبثي الخاوي وقذفتْ بي في رحابِ الكونِ أفردُ ذراعي مثل جناحي طائر عملاق، قوة غريبة تلبسني..

التفت يميناً ثم شمالاً.. هناك ألوان في كل مكان، أعود وألتفتُ يميناًعلى صدى صوتِ حنون شفيف، غناءٍ عذب، أقترب قليلاً من مصدر الصوت، إنه يأتي من امرأةٍ تقف هناك، تدير لي ظهرها، مبرقعة بالسواد، لا أكاد أتبيّن ملامحها، صوتها يسحبني نحوها فأقترب، تلتفت نحو، تبتسم.. رباه! أنها أمي.. الذهول يقبض وجهي، أسالها ما أنت فاعلة هنا يا أمي ؟! قد واريتُ جسدك الثرى بيدي هاتين منذ عدة سنوات! لا تجيب، تبتسم، تنظر لي بعينيها الصافيتين، اللتين كانتا تضيئان وتفيضان رقةً وبساطة، فتحيطا قلبي بهالةٍ من الطمأنينة، ألمس وجهي، أحاول التأكّد من يقظتي، نعم أنا هنا هو ليس حلماً بالتأكيد، تسحبني أمي من يدي وتومئ برأسها أن أتبعها.. تدخل إلى منزلٍ لا أعرفه، تدفع بابه بكفها، تدخل، أدخل خلفها..أجد نفسي في غرفة مربعة لم أزرها من قبل، ألتفت خلفي، أبحث عن أمي، لا أحد خلفي..غادرت كما أتت… تركتني بمفردي ورحلت، وقفتُ للحظاتٍ أجوب النظرَ في غرفةٍ تتناثر فيها أرائكٌ رماديةُ اللونِ، هناك امرأة تجلس على مقعد منفرد، لا أرى سوى الجانب من وجهها.. جميلة في جذوة الصبا، تلوح في وجهها علاماتالقلق والألم العميق، كانت ترتدي ثوبَ نومٍ رثٍّ قديم، يلوح من مظهرها لونُ الفقر،غير أنَّ في وجهها لمحةُ كبرياء، واعتداد بالنفس وسحرٌ لا يقاوم، كأنها أميرةٌ في سجنها البعيد، ترفل في ثوب الفقر، دون أن ينتقص ذلك من بهائها، أو يمسَّ هيبتها ..

أدقق النظر.. إنها تشبه شخصاً أعرفه، أغير مكاني.. أقف قبالتها.. أصرخ .. أناديها.. ندى.. أنظري إليّ.. تتجاهلني، تطقطق أصابع يدها البيضاء، وتطيل النظر لزاويةٍ في الغرفة، أشعر بالغرابة، أعود فأنزوي في ركنٍ بعيد وأراقب. تضع ساقاً على ساقٍ،وأسنانها الصغيرة المصفوفة بانتظام، تطبق على حوافِّأظفار أصابع كفها الأيمن,كانت تقرض أظفارها بتوترٍ متزامنٍ مع اهتزاز ساقها العصبي، وعيناها مسمرّتان على الهاتف الأرضي الذي يقبع في الركن مسترخياً في سلّةٍ بلاستيكية حمراء اللون، ترهف السمع لأي رنة قد يمنُّبها عليها بعد سكونه الطويل.

رنَّ الهاتفُ معلناً تعطفُه عليها، فهرولتْ والتقطتِالسماعةَ بيدين مرتعشتين، وبصوتٍ متلهفٍ ردّتْ:

– ألووو

– ألوو.. من ندى؟أهلا حبيبتي كيف حالك؟

– أهلا خالتي، بخير الحمد لله

– مابك ندى، صوتك يشوبه الحزن والكآبة! هل حدثَ مكروهٌ لك يا ابنتي؟

– لا خالتي،أنا بخير صدّقيني، لكنني متعبةٌ من العملِ وكنتُ في طريقي لأرتاح قليلاً في غرفتي.

– حسنا ياندى، أين هي أختي، ناديها لي ياابنتي من فضلك.

– حالاً خالتي، إنها في غرفتها، انتظري لحظة فقط سأناديها.

أمي.. أمي..خالتي سناء على الهاتف تطلبك.

خرجتْ من الغرفة المجاورة لغرفةِ الجلوس امرأةٌ بيضاءُ البشرة،متهدّلةُالصدرِ، ممتلئةُ الردفين والفخذين، يتجاوز سنُّها العقدَ الخامس بقليل. رفعتْ كفها لتمسحَ عن عينيها آثارِ نعاسٍظلت معلقة في أهدابها،فقد أيقظتها ندى من قيلولتها المقدسة، قبل أن تستيقظَ منها لوحدها، مشتْ متكاسلةً نحو الهاتف وأمسكتْ بالسماعة، وماأن سمعتْ صوتَ سناء أختها التي تصغرها بعامين؛ حتى انشرح صدرها وانفرجت أساريرها، ودخلت في حديث وثرثرةٍ طويلة مثل كل يوم.

انسحبتْ ندى على عجلٍ وصعدتْ الدرجات إلى الطابق العلوي، حيث غرفتها وأغلقت خلفها البابَ، وحين وجدت نفسها وحيدةً رمت بنفسها على سريرها الخشبي ودفنت وجهها بين ملاءاتهالبيضاء،وأجهشتْ ببكاءٍ حارقٍ مثل حممٍ بركانيةٍ كانت محتبسة، فوصلت إلى حد الآن فجار في هذه اللحظة.

كانت كفُّها تضرب بقوةِ على الفراش، ومن بين نشيجها يخرج صوتها مختنقاً “خائن.. خائن أنت ياحسين..كنت تكذبُ طوال تلك السنوات، ولأنَّني حمقاء صدقتك”.

ندى لا تسمعني ، أصرخ بأعلى صوتي، لم أخنكِ، أنت لا تفهمين يا ندى.. انظري إليَّ فقط كي أشرح لك ما غاب عنك، هي لا تنظر، لا تسمع..

أنا أراقب، ينهكها البكاء، تغمض عينيها وتغفو.. أراها تحلم، أدخل حلمها، أتسلّلُ حيث هي وأنا، حيث كنا.. هي تجلس بجانبي وأنا ببزتي العسكرية..

نجلسهناك على أحد المصاطب الخشبية، نراقب الأمواج، تظللنا الأشجارُالوارفةُ، ويعبق نسيمُ النهرِ الرقراق ذو المياهِ الزرقاء الجارية مع أول ساعات الصباح، حيث يتنفّس نهر دجلة مجدداً عهده مع الأيام والنوارس البيضاء،وهي تنتظر خيوطَ الفجر الأولى، لتفرد أجنحتها العاجية وتظلُّ ترتفع مشكّلةً دوائر في سماء النهر الصافية، حيث ملتقى العشاقِتتحد أرواحُهم هناك كل صباح،وتتشابك الأيدي التي تحمل جمرة الاشتياق، كان صباحاً خريفياً بشمسٍ تختبئ خجلةً بين الغيوم.. عشاق حولنا..

طلاب مدارس بزيّهم المدرسي، طلبةالجامعة، صبيةٌ بعباءةٍ سوداء، وشاب على محيّاه شمسُ الجنوب، امرأةٌ ورجلٌ في الثلاثين هربا من أولِ ساعةٍ للعمل ليملآ قربتيهما بشيء من الحب الذي يزدريه المتطفلون في غرف الدوائر الحكومية الطافحة بالنفاق، نورسان أبيضان يتلقّف أحدهما فتاتِ الخبزِ الملقى إليه، ويضعه في فمِ نورسٍ أشدَّ بياضاً يبدو أنها أنثاه، لا يجد الحب السلام إلا قرب النهر.

النهر الذي ظل يقاوم بجريانه لهيبَ الحربِ، فكلما طالتِ الحربَ؛ ارتفع عددُ العشاق ارتفاعا طردياً.

كانت أشعةُ الشمسِ تنعكس على صفحةِ الماءِ، فيبدو النهر فضيّاً لامعاً، وسماءً فضيّة تغلّفُ سقفهِ تطرزها غيماتٌ بيضاء، تتشكل منها صورٌ خياليةٌ لوجوهٍ باسمةٍ، وأجنحةُ طيورٍ وبجعات بمناقيرَ صفراء، وفراشات وأطفال بوجوهٍ ثلجيةٍ تعلو رؤوسهم الملائكية حلقاتٌ بلونِ الذهبِ، لوحة ربانية تعج بالحياة.

أذكر ذلك الصباح الأخير، كانت آخر مرة التقيها فيه، أخبرتها أن مهرها الآن  بحوزتي، وبثقةٍ كبيرةٍسأطرق بابها في الساعة السابعة من مساء يوم الخميس من إجازتي المقبلة، أطلب منها أن تخبر والدتها بالأمر،أقبّل يدها، ننهض، نسير وكفّانا متعانقتان، أوصلها حيث سيارة الأجرة، أدفع عنها أجرة السائق، وأغلق الباب خلفها، ألوح لها بيدي مودعاً.. تبتعد سيارة الأجرة، وأعود.

أدخل حلماً آخر.. ندى تئن، تحاول الاستيقاظ، لكنها تغطُّ في النوم مرة ثانية..

كانت تقف في نفسِ المكانِ،في غرفةِ الجلوسِ المربعة ذات الأرائك الرمادية..

تدير قرص الهاتف، يتكرر المشهد، كل يوم.. رقمُالهاتفِعلى قرصِ الهاتف الأرضي هو رقمي أنا.. ندى تنتظر الرد على الخط دون أن تتكلم، تحاول التنصتَ.. من الذي سيجيب على الهاتف في الطرف الآخر..

كان الصوت الذي يجيب هو صوت أختي الصغيرة مرة، وصوت أخي عدة مرات. تتلاحق الصور والمشاهد تعيد نفسها أمامي مع فرق تغيّر الوقت فقط.. ندى تقف، تطلب الرقم..أخوايهما من يردّان، تغلق الهاتف، تبكي، السماء خلف النافذة كانت تتبدل.. صافية، مغبرة، قرمزية، غائمة، لازوردية.. ينتهي الحلم، تستيقظ ندى، تفكر، تسرح في متاهةٍ بعيدة، ألحقها وأدخل متاهتها أراقب وأستمع، كانت تتمتمُ بصوت خفيض:

أنا بين هذا الضياع، وبين سياط أمي التي تلسعني كل حين لتذكرنيبسنوات العقد الثالث من عمري، وأنا أقرضها وحيدة، مصرةً على رفضِ كلِّ عريسٍ يتقدم لخطبتي، أمي تصفني بالساذجة لأنَّنيأحرق شبابي في انتظارِ عريسٍ معدمٍ يعيل والدته وأخويه اليتيمين، وفوق هذا فهو لم يفِ بوعده ولم يحضر لخطبتي.

فما الذي يمكن ليأن أفعلَ، وكيف أتصرّفُ،لأنَّجو من هذه الهوّة العميقة التي سقطت فيها؟ هل أنتظره.. لكن أين هو !؟

هل يجب علي أن أصدّقَبأنه خانني وهرب، لكن قلبي يرفض التصديق هل أوافق على الزواج من ابن خالتي؟ أنه يلح في طلبي منذ سنوات، رتبته العسكرية المرموقة، منزله الواسع، يشكلان هوساً وسحراً يظلّلا بصيرةَ أمي، لكن أن وافقتها؛ سأستريح من سياطها اللاذعة التي تجلدني صباح مساء،وتذكرني أنَّابنَ خالتي يعيش في بحبوحةٍ كبيرة، ومنزلٍ مترامي الأطراف في حي اليرموك في بغداد، حي القصور الكبيرة، والأشجار الوارفة، والحدائق اليانعة المنسقة.أمي تعيد تلك الاسطوانة المشروخة على مسامعي ليل نهار، تكلّمني عن هيبةِ الرتبةِ العسكرية والسيارة الحديثة بسائقها والتي ستكون تحت تصرفي متى شئت، ثم تذكرني بفضل الخالة سناء وابنها، وكيف كانت أياديهم البيضاء تُمدُّ لنا بالمساعدة الشهرية بعد موت والدي:

– هل نجازي أختي سناء وابنها ووقوفهم إلى جانبنا طيلةَ تلك السنوات بهذا الجفاء يا ندى؟!

“هذا ما تقول أمي طيلة الوقت”

أراقبها، أراها تغرق..

تغالب هواجسها والآن كسار الذي يعصف بروحها ويرميها على جادة اليأس.

ندى تغرق في دوامة تسحبها إلى الأسفل، تبتلعها مياه البحر، تجرهانحو العمق السحيق، فستة أشهر ليس بالوقت القصير، قد غبتُ عنها دون أن تعلمَ عني شيئاً، فقد خمشت أظافرُ الفراقِ خدَّها الطري، الذي سلبته الهموم كل ذلك البهاء والزهو الذي أعرفه. كانت تتكور على نفسها مثل قطةٍ مهجورةٍ تضعُ راحتيها تحت خديها وتلتفُّ على نفسها بخذلان واضح.

حين يكون العشق كبيراً؛ يكون الغضبُ والألم أكب، وأعذار الغياب تبدو مثل أوراقِ الخريف المتساقطة،منتهية الصلاحية، ويكون شعورنا مثل من يمسك شيكاًبمبلغ كبيرٍ، لكن الرصيد مفلس.

(7)

رفعت رأسها المدفون بين الوسائد،ومسحتْ بكفٍّبيضاء كالحليب وجهها، الذي غسلته الدموع، كانت قد عزمتْأن تكونَ جريئةً هذه المرة، ولتذهب التقاليد إلى الجحيم،نزلتْ درجات السلم الحجري، طاويةًإياها مثنى.. مثنى،  ودخلتْإلى غرفة الجلوس، حيث كانت خاليةً بعد أن انسحبت والدتها إلى المطبخ لتضع إبريق الشاي على النار، بعد أن انتهت القيلولة.

أمسكت ندى بسماعة الهاتف، وأدارتْ القرصَ بأرقام حفظتها عن ظهرِ قلب منذ شهق قلبها بالوجدِ لأول مرة..نظرةُ غضبٍ ممزوجةٍ بقرارٍغامضٍ تلوحُ في خضرة عينيها الزمرّديتين. انتظرت حتى رنَّ الهاتف في الطرف الآخر من الخط حين ردَّالصوتُ المتعب المبحوح:

– ألللوووو

– مرحباً، كيف الحال؟

– أهلا ياابنتي، من أنتِ؟

– عفواً خالتي..أنا زميلة حسين مذ كنا في الجامعة..واليوم وأنا أرتب أوراقي القديمة والصور الجامعية عثرتُ على أمانةٍ لحسين، كان قد حفظها عندي، ولعن اللهُ الشيطانَ، فقد نسيتُأمرها تماماً طوال تلك السنوات ولم أقم بإرجاعها.

– حسين.. آه ياولدي.. آ ه ياحسين ….

ماهي الأمانة ياابنتي؟

  • إنها أوراقٌدوَّنَفيها حسين أشعاره.. تعلمين إنه كان شاعراًبخيال لا مثيل له..طلب مني أن أوصلها إلى ابنةِ عمي التي تعمل صحافية في مجلة ألف باء، وأن أطلب منها مساعدته بنشرها في المجلة ” كانت ندى تسخرُ من نفسها وهي تفتعلُ تلك الكذبةَ وتلقيها على مسامع المرأة العجوز المسكينة، فمن ياترى يصدق كذبةً غبيةً كهذه! ومن الأحمق الذي ينسى أمراً كهذا، ثم يتذكره بعد كلِّ تلك السنوات، فيتصل ويعتذر عن نسيانه )

– احفظي الأمانة عندك ياابنتي ، فحسين قد رحل.. رحل؛ فقدناه.. فقدتُ ولدي وقرّة عيني.

( كانت المرأة على الطرف الآخر من الخط هي أمي )

كتمتْ ندى صرخةٌ كادتْأن تمزقَأحشاءها، وحاولت أن تفهمَ من والدتي ما الذي حدث بالتحديد.

– خالتي، ماذا جرى لحسين، أخبريني أرجوك، أستحلفك بالله أن تخبريني الحقيقة!

– لانعلم عنه شيئاً ياابنتي..آخر خبر أتانا من الجندي الذي كان معه في نفس الملجأ، قال:

إنَّ حسين قد أصيبتْ ساقه برصاصةٍ عند اشتباكنا مع العدو، وحملناه مع الجرحى إلى المستشفى العسكري، وتم علاجه هناك، لكننا فقدنا أثره بعدها..وعندما حاولتُأن أستقصي خبره همسَ أحد الجنود في أذني..أن أكفَّ عن السؤال،لان الضابط حسين قد ألقي القبض عليه، ولا أحد يعلم في أي سجن هو.

وها نحن لانعلم عنه شيئاً منذ ستة أشهر، راح مني ولدي، راح حسين..ليتني متُّ قبل أن تغيبَ عني ياقرة عيني .

(وأجهشت أمي ببكاء أم ثكلى)

كان الدمع يتقاطر من عينيها الخضراوين الزمرديتين مثل زخات المطر، أغلقتِ السماعةَ دون أن تردَّ على بكاءِ والدتي بكلمةٍ واحدةٍ، وفي داخلها صرخةٌ مكبوتةٌ لاتجد سبيلاً للخروج، فأنا في نظرها مجهولُ المصيرِ ولم يتبقَّ على المهلةِ التي أعطتها لها والدتها لتوافق على الزواج من ابن خالتها سوى أسبوع واحد، فقد أقسمت أمها بأغلظ الإيمان،إن لم توافق ندى على الزواج؛ ستتبرأ منها وتعلن غضبها عليها.

فامرأةٌ من مواليد وعهد الثلاثينات لن تستطيعَأن تفسرَأعراضَ فتاةٍ عن الزواج، سوى أنه يشكل عاراً يلحق بأسرتها وشرفهم، فلِمَ ترفضُ فتاةٌ جميلةٌ الزواج؟!

إلا أذا كان هناك سرٌّ معيبٌ فيها.

بدأتِ العتمةُ تزحفُإلى قلبها وقد غادرها الفرح إلى غير رجعة، مثلما غادرتها أنا إلى مصير مجهول.تشعر الآنأنَّ روحَها خاويةً، وأقسى العذابات هو خواءُ الروح.

 

فجأة وبشكلٍ مباغت..أحسّتْ ندى بعد أن أغلقتْ سماعةَ الهاتفَبألم كأنه نصلُ سكينٍ حاد غُرِزَ في أسفلِ بطنِها، وشعرتْ برغبةٍ كبيرةٍ وملحةٍ في التقيؤ.ضغطتْ على محل الألم في الجهةِ اليمنى من أسفل البطن بباطن كفها، وحاولتِ الاستلقاءَ على الأريكة القريبة منها، لكن عند محاولتها بهبوط جسدها عند الجلوس صرخت من شدة الألم الذي بدا يطوق بطنها بالكامل كأنه حزام من نار، سمعتْ والدتها تلك الصرخة، فتركت الشاي في المطبخ وأتتْ لاهثةً لتتفقدَ ندى

– ندى، مابك ياابنتي، هل كنت تصرخين؟

– ساعديني ماما، بطني تكاد تنفجر..

     (8)

– لن يفيدكالإنكار أيها الكلب الجبان، فمدخلُ الرصاصةِ ومخرجها يُثبت أنها أُطلِقتْ عن قرب.

وبصفعةٍ على خدي قلبتنيإلى الوراء أكمل المحقق صراخه:

-ماهو هدفك من أطلاق الرصاص على ساقك؟ تكلم

– لقد أصبتُ وأنا خارجٌ من الملجأ، أبحث عن أحد جنودي، لم أقم بإطلاق الرصاصَ على ساقي وجنودي هم  اللذين حملوني إلى القطعات الخلفية، ثم إلى المستشفى يشهدون على ذلك

– قذر وابن زنى، ألاعيبك لن تنطلي علينا ياحقير، أنت هنا منذ ثلاث ليالٍ ولم تر منا سوى حسن المعاملة، هذه الحفنة من الصفعات والركلات لم تكُإلا مقدمة للتعارف والترحيب.

ومحاولتك التافهة للتحامل على نفسك ومشيك خطوات خارج الملجأ بساقك المصابة، ثم سقوطك هناك؛ لن يظهرك بمظهر المقاتل الباسل الجريح..

لأيِّ حزبٍ تنتمي ياعدو الثورة؟ تكلم، حقير.. ابن زنى.

تكلم ما هو اتجاهك السياسي؟

– مستقل

– لماذا تمتنع من الانضمام لحزبنا؟

– لستُ ممتنعاً، لكن ألم تقولوا أن الجميع معكم حتى وإن لم ينتموا.

– مزحة أخرى أيها الجبان، معلوماتنا عنك تقول أنك تقرأ كتباً ممنوعة.

– أنا أقرأ كل شيء، روايات، فلسفة، فن

– ماركس، لينين، ماو، ريجيسدوبريه، هذا ماوجدوه عندك

–  نعم، أقرا لهم أحياناً

– أنك شيوعي أذن..

– لستُ كذلك

– لم أنت خائف من الاعتراف؟

– لأنَّني لست شيوعياً.

– وماركس ولينين؟..

– قرأت لهم القليل فقط من باب الفضول لا أكثر

– ما رأيك باليساريين؟

– لست منهم..

– هكذا إذاً! وماذا يعني اليسار في نظرك؟

– يعني مساعدة الفقراء، وتغيير المجتمعِ بما يخدمهم وينتشلهم مما هم فيه.

– وحكومة الثورة، ألم تساعد الفقراء وتنتشلهم، هل هي ضد الفقراء؟

– قد ساعدتهم ولا شك

– إذاً، لماذا تحرض ضد نظام الحكم ؟

– لم أفعل ذلك، أنا مستقل، وبعيد عن أي انتماء.

– ألمْ تكتبُ الشعر؟

– بلا..أحياناً

– نحتفظ لك بقصاصات تتكلم فيها عن الفن والشعر الذي يغير العالم، عن الحرية.

بتلك الكلمات التافهة ستنتشل الفقراء من فقرهم، وتحارب دبابات العدو يا خائن؟

“ثم نادى شخصاً آخر، أيها الأجدع.. تعال إلى هنا”.

– نعم سيدي، أمرك

– رحب بالضيف، كما يجب هذه الليلة، إنه حصتك,وأشار إلي:

أسمع يا حشرة، سنستضيفك بعض الوقت، يخيل إليّ إن لم تكن شيوعياً؛ فأنت محضُجبان يتهرب من الخدمة العسكرية، أيّا كنت،فذلك غير مهم، فالترحيب بك واجب علينا.

 

خرج الرجل البشع، ذو الشاربِ الأشقر، والبشرة الصفراء الذي كان يحقق معي، وترك رجلاً يدعى الأجدع يكمل العمل خلفه.

وأجدع هذا رجلٌ طويلٌ، تعتلي ظهره حدبة مقرفة صغيرة الحجم، ربما كانت عيباًخلقياً،أو مرضاًأصابَ فقراتِ ظهرهِ العليا، فشوّه شكلها..كان رأسُه كبيراً مثل كرةٍ عظيمةٍتتوسطها عينان ضيّقتان داعرتا النظرة، فيبدو كالمسخ بوجههِ الأحمر الحليق،وفتحتان صغيرتان تدلانعلى موقعِ أنفٍكان يتوسط وجهه في ما مضى، وكأنه جدع بسكينٍ أو إنَّ دملةً كبيرةً كانت فوقه وقد اتسعتْ وأكلت الآن،حتى تعفّن وسقط ولم يبقَ منه سوى فتحتي المنخرين.

نظر المسخُ العملاقُنحوي، حيث كنتُمرمياً على الأرض الإسمنتية الرطبة للسجن، وأنا أنزف من أنفي وفمي،وأرتعد من حمّى لازمتني منذ يومين، والتوّرمٌ في ساقي المصابة امتدَّإلى أعلى الفخذ.

كنتُ أجيبُ على أسئلةِ المحققِ وأناأغيب عن الوعي بين الفينة والأخرى، فيقوم الأجدعُبرشقي بالماء البارد من سطلٍ قذر موضوعٍإلى جانبه ليعيد لي وعيي.

وبعد أن أصبحنا أنا والأجدع ذو الحدبة المقرفة بمفردنا،خلع حزامه الجلدي، وطواه بين كفّيه، ثم رفع ذراعه عالياً، وهبط بالحزام على جسدي المحمومِ يجلده بحقد عجيب، فكانت الجلدات تتوالى على صدري وفخذي وظهري، مثل ألسنة النارِ،أو كأنها عشراتٌ من السهام المسمومة أطلقت دفعةًواحدة، وغُرزتْ في جسديالسقيم،حتى أفقدتنيالقدرةَ على الحركةِ والصراخ،

لكنَّالأجدعَهذه المرة لم يرشقني بالماء البارد، بل ترك جسدي الذي تشقّق من الجلدِ مرمياً على الأرض، ووضع حزامه في حلقات بنطاله، وخرج محكمًا إغلاقَ البابِ الحديدية خلفه.

    (9)

لم أعد أميز بين الأيام، ولا أدري هل أصبح اليوم طويلاًكأنه أسبوع، أم تكاثرتِ الدقائق مثل الخلايا السرطانية؟ أمست الساعةُ الواحدةُتساوي مئتين أو ثلاثَ مئةِ دقيقة، فأيام الزنزانة كلها متشابهة، سوداء لا ضياء فيها. كنتُ أشعر أنَّ الوقتَ قد توقف، فلا ليلاً ولا نهار، وقتٌ خارج الوقت.. علّمونا أنَّ الوقتَ يتوقف حين تبلغ الأجسامَبسرعتها سرعة الضوء، لكن لا أحد حدثنا عن الوقت داخل زنزانة مظلمةٍ كيف يكون.

كنت أقع بين يدي المسخِ العملاقِ الذي يُسمى الأجدع مرتين في اليوم، يتلاعب بي مثل دمية.

حين سمعتُ اسمه  أول مرة شعرت باستفظاعٍوغرابةٍ كبيرين، فلم يُسمى أحدٌ باسمٍ من أسماء الشيطان اللعين! لكن سلوكه المثير للدهشة قد جعلني أجد الجوابَ لسؤالي البليد هذا.

إنَّ مَن يعذبون السجناء في الزنازين هم ليسوا من البشر بالتأكيد.قد يكونون من الجنِّ الشرير الذي يستمتع بعذابِ بني البشر، أو ربما هم من هؤلاء اللذين يتنفّسون الدماءَ وقلوبُهم تنبضُ فقط حين تحفزها صرخاتُ المعذبين،ولا تنبض بفعلٍالمحفزاتِ والإشاراتِالكهربائية مثل باقي البشر.

فخفقتُ في رأسيَ المتعبِ، ذكرى لموقفٍ غريبٍ لشخصية أغرب. كان ذلك الرجلُ عظيمَ الفكرِ، مبدعاً بالفطرة، غريبَ الأطوارِ باعترافهِ في سيرةِ حياتهِ التي خطّتها يداه على الورق,سلفادور دالي اللغزُ المحيّرُ، تذكرتُما فعله مع تلك الطفلةِ الصغيرةِ، ذات الثلاث سنوات,كانت أخت سلفادور تحبو عند مدخلِ غرفةِ الاستقبال، وهو يقف بعيداً عنها في الزاوية يرتعش خوفاً من المذنبِ الذي قيل عنه أنه سيمرَّ هذه اللحظة في السماء، وقد يرتطم ذيلُهُ بسطحِ الأرضِ معلنا نهاية العالم.يقول سلفادور: حينما كنت أرتجف في إحدى زوايا الغرفة، وقد هرعَ جميع من في المنزل إلى الشرفةِ في أملٍ لمشاهدةِ تلك الظاهرةِ الكونيةِ الفريدة؛ انتبهت إلى أختي الصغيرة تحبو قرب المدخلِ، فما كان مني إلا أن تعمّدتُ رفسها بقسوة على رأسها، كما لو كانت كرةً، ثم تابعتُ طريقي نحو الشرفة ملتحقاً بالآخرين، مغموراً بمتعةٍ لذيذةٍ ناتجةٍ عن هذا التصرّفِ الهمجي.

كانت تلك الذكرى تقدحُ في خاطري، حين ألحظُ المتعةَ في عينيّ الأجدع وهو يمارس ساديّته معي,حقاً هو شعور غريب ومزرٍ، حين تكون نشوتُك مرتبطةً بآلامِ الآخرين.

كان المسخُ العملاق يسلّي  نفسه بجولاتٍ قصيرةٍ ومتنوعةٍ معي. فمرةٌ يلسعني بالعصا الكهربائية عدةَلسعات حتى أفقد وعيي، وحين أفيق أشاهده جالساً في ركنٍ من أركانِ الزنزانة، ممسكاً بقطعةِ من اللحم النيئ، ويحاول تدريبَ أسنانه الصفراء على تمزيقها، وما أن يرى جسدي؛ يتحرك حتى يرمي قطعةَ اللحمِ من يده، ويقف فوق رأسي ينظر إليَّ بعينين مخيفتين  تشبهان تلك النظرة التي تنبعث من عينيّحيوانٍ مفترسٍجائع.

يبقى ينظر إلَّي هكذا برهةًمن الزمن، ثم ينتفض فجأةًويبدأ بركلي بحذائه الأسود، طويل العنق، ذو المقدمة الحديدية الملطّخة ببقع الدم الجاف،وتفوح منها رائحةُ جرذٍ ميتٍ، فيحطم كلَّ عظمٍ وكل ضلعٍ في جسمي،حتى يختفي صوتي من شدة صراخي وأنا أتقلب بين قدميه مثل كرة، وحين تنتابني نوبةُ تقيؤ فتخرج من جوفي مادة صفراء ممتزجةٌ بالدم، وأشعر أنني فارقتُ الحياةِ، ولا أدري.. هل بالفعل كنتُ أموتُ، ثم أعود من الموت بعد زمن لا أعلم مدته، أم أذهب في غيبوبة؟ ولكنني حين أفتح عيني في المرة التالية وأنظر مرعوباً للركنِ الذي يجلس فيهالأجدع؛أجده قد غادرَ وتركني أسبح في بركةٍ من الدم والبول، ملتصقاًبأرضية الزنزانة الباردة.

(10)

(اغتصاب)

رأيته يمزقُ فستانها الأبيض بأسنانهِ الصفراء الناتئة، مثل أسنانِ ذئبٍ يتضور جوعاً،بعد أن طرحها أرضاً واعتلاها بجسده الضخم، فلم يكد يظهر من جسدها الطري شيءٌ سوى أطرافِ فستانِ الزفاف الممزق.

كنت أسمعها تصرخ باسمي من شدةِ الألمِ، وتطلب مني أن أنهي عذابها.

حاولتُ أن أسحبَذراعي، أو ساقي، أو أيَّ جزءٍ من جسدي، لكن لا شيء كان يتحرك، وكأنني منوّمٌ مغناطيسياً، أو مشدودٌ إلى جدار الزنزانة القذر.جربّت الصراخَ بأعلى صوتي لكن فمي كان يشبه كهفاً في جبل.. أصرخ مثل فمٍ أبكمٍ لا صوت يخرج من حبالي الصوتية المعطوبة.

نزع عنها فستانها الأبيض الممزق حتى خصرها، فبانت كرتا الثلج بحلمتيها النافرتين، وهما ترتعشان تحت جسدِ مغتصبها العملاق النتن، وراح  يلتقمُ بفمهِ الواسعِ المبللِ باللعابِ، حلمتها اليسرى ويمصّها مثل الغول، فتتشققُ بين شفتيه، وتنزف دماً يبلل صدرها، ويسيلُ من زاويةِ فمهِ ممتزجاً بلعابه الأخضر، كانت تصرخ وتتلوى، وتطلب مني باسم حبي لها أن أفعلَ شيئاً وعيناها الخضراوان الصافيتان كانتا قد احمرّتا من شدّةِ الخوفِ والألم.

كنتُ أضربُ رأسي بقوةٍ بالجدار الذي خلفي مع كل صرخة منها، وأحاول أن أنتزعَ أطرافي من القيدِاللا مرئي، الذي حنّطني وكأنني مومياء عديمةُ النفع، لكن من دون جدوى.

كانت ندى تتعذب أمام ناظري دون أن أقوى على حمايتها.

لكننيأخيراًسمعتُ صوتي الحبيس يخرج من حنجرتي مدوياً في الزنزانة المظلمة:

أيها الغول القذر، أرفع جسدك عنها..

ندى ..قاوميه يا نور عيني، ندى..ندددددددى

وحين أحسستُ ببلل الماءِ البارد وهو يضرب وجهي من سطلِالأجدع القذرِمثل كل مرة بعد أن ارحل في غيبوبة عميقة؛ كنت قد استيقظت من كابوسي المتكرر.

 

 

شارك مع أصدقائك