فاطمة المحسن
لم يكن إيان هملتون الذي توفي العام ٢٠٠١، من شعراء بريطانيا المشهورين، مع أنه يعدّ في عرف النخبة، من بين الذين يتوفر شعرهم على خصوصية القول وفرادته. هو صاحب طريقة تتميز بالتكثيف والغموض والدراية بدروب الشعر الوعرة. أصدر مجموعتين بين الأولى والثانية أكثر من عقدين، ولكن صيته ذاع من نشاطه كناقد ومحرر لأهم الدوريات الثقافية وكاتب سيرة لمجموعة كبيرة من أدباء الانكليزية. المحصلة تشير إليه أديباً فاعلاً بما تعنيه تلك الفاعلية من تأثير في الحياة الثقافية. كتابه الذي تركه مخطوطة نشر تحت عنوان “ضد النسيان”، يسلّط الضوء على جوانب من شخصيته، فهو يدور حول شعراء القرن العشرين البريطانيين، ولكنه يتجاهل متعمدا الكبار منهم : ييتس، إليوت، هاردي، أودن، في حين يتناول آخرين نسيهم الناس أو كادوا، وبعضهم لم يكن البتة على علاقة إلا مع فئة محدودة من القراء.
زوجة إيان هملتون الروائية المصرية أهداف سويف لم تكتب عنه ما يساعدنا التعرّف على البعد الآخر في شخصيته، علاقته بالثقافة العربية أو بمصر مثلاً، ولكنها في صدمة فقدانه ترفض الحديث عن كل ما يخصه. هملتون ذاته لم يشر في كتاباته أو حديثه المطول الأخير الذي نُشر في العددين الأخيرين من دورية ” لندن ريفيو أوف بوكس” إلى هذا الأمر، أو أن محاوره دون جاكبسون لم يتطرق إليه، فحدوده الثقافية كما يبدو محصورة في الأدب الانكلو سكسوني، والشعر منه على وجه الخصوص.
في كل الاحوال يشخص إيان هملتون ظاهرة ينتبه إليها الأدب الانكليزي من خلال قراءة كتبه ونشاطاته التي برز فيها مصنفاً ومحرراً وموجهاً بوصلة الثقافة المقروءة في التسعينات المنصرمة. كتابه الأخير”ضد النسيان” الذي حفظ اسم خمسة وأربعين شاعراً من شعراء القرن العشرين البريطانيين، يختم به حياته الحافلة بتقديم الآخرين كي لا يطاول النسيان أسمه، هو الشاعر الوجيز العبارة، اللّماح، الذي اختار الأدب حرفة قبل أن يختار الشعر وقتاً يكرّس له كل الأوقات.
ربما يحق لنا النظر على نحو جديد إلى مصطلح غرامشي حول المثقف العضوي من خلال قراءة نموذج إيان هملتون، فهو منذ السبعينات أو قبلها، غدا من محرّكي العملية الإبداعية محرراً ومشرفاً أدبياً و ناقداً ومؤرخاً وناشطاً في ميدان إصدار الدوريات. قلة من الأدباء يصبح الأدب بالنسبة إليهم حرفة من هذا الطراز، حرفة قد تلهيهم عن مجال إبداعهم الأول أو تقلل من فاعليته في حياتهم. وفي مقابلته الأخيرة قبل شهر من وفاته، كان هملتون يؤكد على أمر مهم وهو أن الشعر يأتي إلى كاتبه دون قصد، وهو لا يحتاج طقوس استحضارٍ كي يكرّس لها الشاعر نفسه. ربما يدرج كلامه في باب تبرير استغراقه في مهمات أخرى، ولكن المؤكد أنْ ليس بالمستطاع الفصل بين إبداع وآخر في المحترف الأدبي، ولا يقل الناقد أو المحرر الأدبي أو المصنّف مكانة عن مكانة الشاعر في عالم اليوم. إيان هملتون يتحدث عن قلة اكتراثه بالنشر، من منطلق يرى أن إصدار الشاعر مجموعة كبيرة من الدواوين لا يدل على أهميته، بل ربما يشير إلى عطب في بوصلته الشعرية. لا يحتاج الشاعر في كل الأحوال كما يقول، سوى بضع قصائد كي نعرف عيار شعره.
شهرة هملتون بدأت في الستينات والسبعينات، بعد نشره مجموعة قصائد جمع منها حوالي الثلاثين قصيدة في ديوان اسمه “زيارة” ظهر في العام 1970 . في ذلك الوقت كان يحرر أشهر ملحقين أدبيتين “ذا رفيو” مراجعات و”ذا نيو ريفيو” المراجعات الجديدة، الأولى أغلقت لشحة التمويل فأصر على إصدار الثانية. ومن خلالها قدم نفسه ناقداً لا ترضيه الأعمال الأدبية بسهولة، بل هو أقرب إلى صاحب المزاج العكر . هو شأنه شأن الكثير من نقّاد الصحافة الأدبية البريطانية المتميزين الذين أشادوا مكانتهم على ثقة القارئ، أستخدم حساسيته وذائقته وخيارته بعيداً عن المجاملات وتسويات المحافل الثقافية . أثمر جهد الاطلاع الواسع على الثقافة الانكلو سكسونية، ظهور مجموعة من السّير الأدبية والفنية كتبها لعدد من الأدباء، ومن بينهم الناقد والشاعر الانكليزي ماثيو أرنولد، والروائي الاميركي جي. دي سالنجر، كما وضع وصنّف دليل أكسفورد لشعراء القرن العشرين، واختار نصوص كتاب بنغوين في مقالات القرن العشرين. يجمع هملتون إلى حرفة الورّاق والمدقق في أعراف التراث العربي ، مهنة المحرر والمتذوق والباحث عن المتشابهات والتقاطعات في المشهد الأدبي العام الذي يستطيع أنْ يطل عليه ويفتي فيه، ويضع له تضاريس ومواصفات معينة.
من خلال موقعه كمحرر لملحق التايمز الأدبي (تي. ل. أس) ثم الأوبزرفر، واجه هاميلتون بوضوح دوره كمثقف فاعل، ويتحدث عن فهمه لذلك الدور، بكل ما أكتنفه من تعقيدات، قائلاً أنه ينظر إلى تلك المهمة مثلما ينظر منظّف الاسطبلات إلى حرفته، عليه تسوية الأرض وتهيئتها كي ينمو فيها الشاعر ويزدهر. وما يعنيه من مهمة الناقد هو إزاحة كل المتطفلين على الشعر والكذابين والمتصنّعين. يقول هملتون انه عندما استلم تلك الاسبوعية، كان في عشرينياته يفيض حماساً وتوهجاً ورغبة في تأسيس قراءة للشعر والرواية والأدب عموما لا تتهاون أمام ظاهرات الثقافة المهلهة والضعيفة والمزيفة. ورغم تعديه الستين بقي تصوّره عن الشاعر أو الكاتب عموماً شبه ثابت، فهو يصنّفهم بين من يتجه إلى الخارج أي هذا الذي يخاطب الجماهير، والآخر الذي يتجه إلى الداخل معرضاً عنهم. هناك صنفان من الأدباء منهم من يحمي الأدب من الرعاع و الجماهير وذائقتها الرديئة، والآخر يضع نصب عينيه مهمة تطوير المتلقي وتربيته. الأول يسمى الحامي والثاني المعلّم. ولا يصنف هملتون نفسه بين واحد فيهم، رغم أنه يرفض قراءة شعره في المحافل ويعرض عن التجمهرات ومخاطبة الناس، ولكنه حمل المهمتين على عاتقه.
وهو على فراش المرض، يشن هجوماً على من يسميهم شعراء البوب، الَسوقة الذين يلهثون وراء الشهرة، ويبدي ملاحظات لا تقبل المهادنة مع الشعراء الأحياء منهم والموتى . فهو يرى شيموس هيني الذي حصل على جائزة نوبل، شاعراً جيداً ولكن شعره لا يحمل هوية محددة، ويستغرب من شهرته ونجاحه الذي يتجاوز سقف موهبته. في حين يصف آن سيكستون أشهر شاعرات الستينيات الأميركيات، بأنها شاعرة محتالة مزيفة عاشت على هاجس أنّ تكون في موقع سيلفيا بلاث. صورة الناقد المتطلّب القاسي، لا يخاف منها ، بل يبرزها من خلال لقاءه الأخير المطوّل في الدورية التي أسهم هو في تحريرها وفي تحديد هويتها التي جذبت قارئ الانكليزية في أماكن مختلفة من العالم.
البحث عن الجديد والمتميز جعل منه كاتباً متطلّبا، ينقب في منطويات المخفي عن الجوهر والقيمة، تعززها رغبته في اقتناص المفاجئة في الاختلاف. ورغم كونه عاش في قلب الصراع من أجل الحداثة والمتغيرات الأدبية الجديدة، كما هو حال الكثير من مجايليه من أدباء الستينيات، غير انه لم يهتم بالصرعات والمبالغة بموديلات الحداثة وما بعدها . ولعل مؤشر شخصيته والمجموعة التي أشتغل معها، يدلنا على طابع الأدب الانكليزي الحديث الذي لا يمضي بعيداً في عصرنة هويته. هناك رصانة ما انفكت تميل إلى الأدب الجاد والأصالة أو العودة باستمرار إلى طقوس التأسيس، كما أن هناك باستمرار مكانة خاصة للبحث والتوثيق والتأرخة وإعادة إحياء الماضي .
في مقدمة كتابه الأخير حول شعراء القرن العشرين “ضد النسيان” يتحدث هاملتون عن سر توصله الى كتابة هذه الببوغرافيا المصغرة لكل شاعر، مشيراً إلى تأثره بكتاب صاموئيل جونسون حول حياة الشعراء. وجونسون من بين أهم منظري ونقّاد الشعر في القرن الثامن عشر الانكليز، وأكثرهم استغراقا في كتابة أدب السيرة . ولا يخفي هملتون رغبته في أن يباريه في نوع انتقاء الشعراء وحتى في عددهم، وتأكيده على كونهم من غير الأحياء. هاملتون في كتابه هذا يظهر ميله إلى إحياء الكلاسيكية الجديدة في الأدب الانكليزي عبر كتابة السّير، وهي سير تنقّب في حياة الأدباء وتربطها مع انجازهم، مستعينة بالخبراء والمعارف الذين عاصروهم، إضافة الى ما كُتب عنهم وما نُشر من رسائل لهم أو قصاصات. يخرج بمجموعة من الآراء الطريفة التي تختصر شخصياتهم وتعرضها على القارئ على نحو مكثّف، فحياة الشعر لديه تزدهر بين منطويات أسرار المتعاطين معه. في لمسات سريعة يقدم هملتون أولئك الشعراء كما يفتح صندوق الماضي ليستنطق سيرته الأدبية من دون مرثيات أو مجاملات أو حنين وتأسٍ.
كتب هاملتون في مواضيع مختلفة تتعدى الأدب والجماليات إلى كرة القدم التي كانت هوايته مذ كان طالبا اسكوتلنديا، اضطره قلبه الضعيف المكوث في المكتبة متسمعا أصوات الصبية تصخب في ملعب المدرسة.