بغداد – حمدي العطار
بؤر الحروب في العراق تعطي فرصة للكاتب لصياغة الخطاب الروائي من زوايا متنوعة، وتوفر الحروب نوعين من الموضوعات، الاول ما يحدث في ساحات القتال والثاني ما ينعكس من الحرب وويلاته على (الخطوط الخلفية) الناس الذين يرتبطون بالجنود (الاهل الزوجات والعشيقات)
الكتابة التعبوية اثناء الحروب لا تعبر بشكل صادق عن رؤية المبدع! لذلك نجد احيانا تلك الاعمال لا تتحدث عن الصعوبات الحقيقية التي تواجه ابطال وشخصيات تلك الروايات، بينما يكون التاريخ بعد استهلاكه قابل لأعادة الانتاج!
الروائية تهاني محمد تناولت في روايتها (انتحار تكتيكي) ارهاصات الحرب العراقية – الإيرانية من خلال ثيمة يطلق عليها النظام السابق واجهزته الامنية بمفردة (متخاذل) وهي تشمل من يفكر الهروب من المعركة عن طريق (إيذاء نفسه) شخصية البطل (ملازم اول حسين علي) – الشاعر والعاشق يتصدى لهذا المفهوم بما يملك من وعي سرعان ما توضحه الروائية ليكون استهلالا وبداية (محيرة) للمتلقي، حتى نخشى ان تكون الرواية محصورة في هذه الجزئية “إنهم يريدون منا أن نكون شيئا بلا روح، مثل قطعة مطاط أو خشب، جمادا لا روح فيه- جمادا بلا تكرارلعبارة لا روح فيه- خاضعا لا يغضب ولا يثور(يثور مبالغ فيها).اعذري جنوني يا ندى، ساطلق الآن رصاصتي الأخيرة”ص7 هي اذن رسالة كتبها حسين عام 1985 الى حبيبته ندى قبل ان يطلق على ساقه رصاصة للتخلص من الحرب العبثية (لكن الرصاصة الطائشة اخطأت الهدف فضربت الساق في منتصفها، وهشمت العظم واحدثت خرابا كبيرا من مسار دخولها، حتى نقطة الخروج) وليس هذا اصل المشكلة بل ان الإستخبارات العسكرية بما تملك من خبرة عرفت ان ملازم حسين لم يكن جريحا بل هو من اطلق الرصاصة على نفسه ( لن يفيدك الإنكار أيها الكلب الجبان، فمدخل الرصاصة وخروجها
يثبت أنها أطلقت عن قرب) هكذا تبدأ رحلة التعذيب والاعتقال للبطل، حتى تتخلص الروائية من هذه البؤرة بإطلاق سراح البطل من السجن بعد ان اصبح معاقا بسبب اعوجاج ساقه وفقدان كلية نتيجة التعذيب).
الجوانب الاخرى من الرواية
تعيد الروائية التوازن الى السردية بما تملك من قدرة على تنويع مستويات السرد والانتقال السلس بين الشخصيات والاحداث مع اهتمام ملفت للنظر للوضع العام الذي ينعكس على سلوك ومواقف وحوارات الشخصيات، لنقرأ رواية مميزة، حاولت فيها الروائية ان تغوص خلف أبعاد الشخصيات لتقدم سردية ممتعة على الرغم ما فيها من وجعا والما عراقيا.
رواية (إنتحار تكتيكي) تطرح ثيمة الحروب وما يجري خلف كواليسها، وهي تمثل ادانة للحروب العبثية وايضا رفض للدكتاتورية، فهي رواية سياسية “نزع عنها فستانها الأبيض الممزق حتى خصرها، فبانت كرتا الثلج بحلميتها النافرتين، وهما ترتعشان تحت جسد مغتصبها العملاق النتن …كانت تصرخ وتتلوى..كانت ندى تتعذب أمام ناظري دون أن أقوى على حمايتها..كنت قد استيقظت من كابوسي المتكرر”ص56 هناك توظيف للحلم والكوابيس في الرواية.
علينا الاعتراف ان غرابة وقسوة الحروب تنضج تجارب تيار الواقعية واعادة تغيير الملامح الاساسية للمشهد الثقافي وما ينتج عنه على الاخص بإن الحرب لم تكن واحدة بل مسلسل من الحروب والحصار والاحتلال !
……………………..
السردية – لو اردنا ان نقسمها الى جزءين- كما فعلت الروائية حينما كانت تطلق على الجزء الاول (إنتحار تكتيكي) ثم وضعت عنوانا للجزء الثاني (لست منهم ولن اكون) فإننا نميل الى الجزء الاول من الرواية ،تلك الواقعية المفعمة بالحياة والايحاء غير المباشر والقدرة على توظيف الوصف والخيال والانضباط السردي حيث لم تخرج السردية من الفكرة الاساسية وهذا يعد نجاحا وتكنيك وتقنية سردية رائعة.
كنت اتوقف كثيرا امام كل استهلال وبداية لفصل جديد واتأمل تلك العبارات موحية بالابداع ، وهو اسلوب (غنائي وشاعري) يناجي عوالم الذات ، لقد قدمت الروائية تهاني محمد نموذجا رائعا على أتصال مصائر البشر في الحب والحياة! نقتبس هذا المقطع كمثالا لحديثنا “الوقت ربيعا.. شمس دافئة تشق اضطراب الغيوم، ورجال من كوكب آخر يحتلون العاصمة.
صباح جديد، وفزع جديد.. خلاص مدفوع الثمن سلفا، فشعب محكوم بالحديد والنار، لن يحرر نفسه بنفسه..
وما دمت لا تقوى على تحرير نفسك، فاستعد لدفع ثمن الحرية للغريب، الذي مثل دور المنقذ والمخلص، وابتلعت أنت الطعم دون أن تعي حقيقة عبوديتك الجديدة”ص105
الملاحظات النقدية
اعجابنا بالرواية مع تسجيل ملاحظتنا النقدية لا يعد تناقضا
– -حينما يتم ذكر معلومة تاريخية في الرواية يجب ان تكون دقيقة وصحيحة، ففي حوار حسين مع أمه بعد خروجه من السجن والجيش يقول لها (أسمعي يا أمي: في سنة 1975 قامت الحكومة العراقية بتوقيع الاتفاقية مع إيران، ووافقت على (نفطة القعر) في شط العرب لرسم الحدود بيننا.لكن حين حدثت الثورة في إيران (وقتل الشاه) – لم يقتل الشاه بل تم نفيه وخروجه من إيران!
– -الجزء الثاني من الرواية لا يخلو ايضا من علاقة حب بين (علي بن الشخصية الرئيسية في الرواية “حسين” وبين الطالبة في كلية الهندسة التي يدرسها سارة) كما ان هذا الجزء فيه الكثير من السياسة، لكن تناول السياسة في هذا الجزء لم يكن موفقا مثل الجزء الاول من الرواية، كان السرد هجوميا ومباشرا وفيه شعارات سياسية تفقد السرد فنيته وتقنايته الجميلة” لا بد من مقارعة الفساد والفاسدين، ضعي كفك بكفي حبيبتي، ونرسم لأولادنا مستقبلا جديدا، أرضا جديدة، نتشارك جميعنا فيها، بلا طائفية، بلا تمييز عنصري، تحت مسمى المذهب والعشيرة”ص144
– -وتاتي نهاية الرواية صادمة وغير متوقعة وهي تذكرنا بافلام يوليود الهندية، اذ يكتشف القارئ ان حبيبة “حسين” سلمى هي بنت حبيبة والده ” ندى”، ولا اظن ان مثل هذه المصادفات تخدم السرد او تغني الاحداث والشخصيات “حين نظر والدي إلى والدة سارة الواقفة قبالته..كمن يرى شبحا..تعطل عنده الكلام..ثم انتهبت أن والدة سارة تبادله نفس نظراته تلك وهي مسمرة في مكانها، وملامح وجهها تنطق بتعبيرات غريبة لم استطيع تفسيرها”ص171
– -اذا كنا نستطيع قبول تلك المصادقة – على الرغم من عدم منطقيتها- فأننا لا يمكن هضم ما كانت تطرحه ندى على حسين من عودة علاقتهم العاطفية واحياء ذكريات الحب بعد مرور اكثر من اربعين عاما – علما ان حسين متزوج وما تريده ندى شيء لا يمكن استعيابه في ظل التحضير لزواج ابنتها سارة من حسين ابن علي (وماذا في ذلك.. ما تزال أمامنا فرصة للقاء..لا بد أن تراني وأراك، ولدانا عاشقان، وأنا لم يبرح حبك قلبي حتى اليوم.. لماذا هذا الضعف منك يا حسين، أين جرأتك المعهودة”ص182 .
الخاتمة
رواية (إنتحار تكتيكي) رواية مشوقة في الجزء الاول لكن يشعر القارئ بشيء من الملل في الجزء الثاني، ومع ما ذكرنا من ملاحظات نقدية فهي رواية جريئة في طروحاتها السياسية والعلاقات العاطفية.
.