الرواية والتناص      

شارك مع أصدقائك

Loading

                 

محمد يونس محمد

لنبدأ في طرح الفكرة من اساسها بسؤال اولي ,فكيف نحدد التناصية وهذا الكم الهائل من المشتركات يبطل حجة الازمنة في التعيينات والمواضعة كمرجعيات تأصيل, ولنسأل الكم الروائي اذا كانت هناك اجابة نفي؟ , وهذا طبعا ان استثنينا احد اكثر الاجناس الادبية تعاملا مع التناص وهو الشعر ,ومن الممكن ان يؤدي هذا السؤال بنا الى الجهة المقابلة ونسأل ايضا عن الكيفية التي يفسر بها الوعي المشتركات المنتجة وظروفها المتباينة والمختلفة ,والسبل التي هيأها لها فضاء التفكير بمناحيه المختلفة وفضاءه والزمان والمكان, والتي جميعا تختلف نصا وواقعا , وعنصر اللغة هنا ودوره في انشاء علاقة بين العبارة ومحتواها ,فيتعين بذلك من جهة الطابع الحكائي كعنصر ابتدائي لتعيين عملية التناص, ومن جهة اخرى سيبرز المحتوى بسياقه كمعاني محسوسة سيان داخل فضاء الحكاية اوفي الواقع الاجتماعي لذات الكاتب ومديات تفاعلها حسيا مع تلك المعاني مشتركة مع ذوات اخرى بتفاوت ونسب مختلفة .

ترى جوليا كريستيفا في تفسيرها الموضوعي الصفة بان كل نص يتكون كموزائيك من جملة الاستشهاد, وهذا القول المكثف لفكرة واسعة يؤكد ان اصل التناص اختلاف حسي واتفاق وجودي , ولكن الدور الاساس يبقى لعنصر اللغة بإطارها الاجتماعي ,وليس كما تطرح الفكرة القديمة أن التناص هو نتاج المحاكاة , وتحدد اللغة القيمة النصية سيان في المستوى الحسي او في مستوى التناص كعلاقة تشابه بمعيار اجتماعي ,وهذه السمة النظرية تؤدي بنا الى منعرج لتقييم استعياب العلاقة النصية بين عملين , وعلى الاخص في المبنى الحكائي , واعتقد ان تاريخ السرد العراقي كمثال نوعي يؤكد امكان ذلك المنعرج وهناك نصوص عدة تناصت في المكان واختلفت ايضا عبر احساسها بذلك المكان المشترك ,وتعتقد جوليا كريستيفا هناك علاقة وثيقة بين الرمزية والتناص  , ومن الطبيعي ان المكان اضافة الى بنيته في النص يشكل رمزا ما , ربما من خلال اسم او بيئة او ملامح واجمالا كاطار سوسيولوجي , ومن الطبيعي لا يمكن فصل الصفة التوصيلية عن معناها داخل النص الادبي , حيث تعريتها من صفتها التوصيلية تفرغها من جهة أن تعطي ملامح لمعنى ما, ومن جهة اخرى بتجريدها عن المعنى تفقد صفتها الاجتماعية , وبالتالي يزاح كل تناص اجتماعي نشترك فيه الى حد ما , ويرى بارت أن اللغة هي وحدة كمال تام في جميع جوانبها في جانب ونقص في ذات الوقت في جانب اخر, فهي تكمل في المجموع وتكون تامة لانقص فيها , وتعاكس فرديا ذلك المنحى , وهنا يكمن دور النص الادبي في الباس مجتمع الخيال ملامح حقيقة نصه ,وفي المسعى الاجتماعي لمبنى الحكاية مثلا في القصة والرواية , يكون هناك مسعى لتحقيق التناص الادبي دون قصد او هدف , ولكن السبب المؤدي لتلك النتيجة هو شكل الحكاية ,فالجندي مثلا ترسم الكلمة افاقا للحرب وتداعيتها , وكلنا نشترك فيما اسميه (المكعب ) ,حيث هناك وحدة وجوه لذلك المكعب في الحدود والشكل والمساحة , ولكن تختلف الاتجاهات , وهنا المقصد في الاتفاق والاختلاف ,فكلمة جنود وسأستعير لها واقعا ادبيا , فهناك جندي في روايات كثيرة هي تقريبا جميعها تعكس تناصا اجتماعيا قفز الى حيز النص عبر الذات الجمعية للكاتب , ولكن هل نقف مدهوشين اذا وجدنا في رواية او اكثر ذات الجندي والملامح الى حد ما هي ذاتها ؟, بل حتى مناحي اخرى تلزمنا الاقرار بذلك  , ولكن يشكل غياب ملامح فضاء المجتمع هو احد الاسباب التي تفرغ الشخصية من الفردانية , ويكون بذلك الجندي في حدود ملامحه تناصا تشككيا , ولكني انقض ذلك التفسير اللاعلمي عبر علم الاجتماع اولا ,حيث هنالك وحدة انثروبولوجيا نشترك بها جميعا ,وهي كيانية ذلك المكعب , ولكن كل منا له تفسيره عبر موقعه في ذلك المكعب واتجاهه الوجودي والانساني, ثم هناك وظيفة محددة الملامح  للكاتب في منظوره ,وكذلك هناك دور لمعياره الادبي كميزة اللغة وخصوصياتها والاسلوبية والميزة الفنية , وهناك عوامل اخرى, فأفق الكتابة مثلا ليس عموديا في المثال الذي ضربناه , حيث من المؤكد أن كل رواية لابد ان كاتبها يعطي اهتماما عاليا لاريش ماريا ريمارك , والذي تعتبر روايته – كل شيء هادئ على الجبهة الغربية – المثال الاسمى لنقد الحرب بالرغم من ان رواية تولستوي –  الحرب والسلم – تؤكد من عنوانها حالة واضحة لنقد الحروب, ولكن تبقى حسب المضمون رواية ريمارك تمثل وتشكل في البعد الاساس الرواية الابتدائية في هذا المضمار, لكن لاشك بأن هناك كتاب رواية كتبوا عن الحرب بيد ان هناك الكثير منهم لم يتصلوا عموديا بتلك الرواية القيمة , ولكن عرضيا أي كانوا معها على مستوى واحد , وليس عبر التأثير المباشر ,هنا نعود الى الحس الانساني المشترك وهو العنصر الاساس في التناص الفطري اذا جازت التسمية ,ولان هناك تناص واعي فهو يقيم علاقته التأثيرية مع نص اخر عبر الاتصال العمودي , وهذا صراحة نوع من التناص حساس جدا اذا لم يراعي سبيل التوظيف الفني الذي لا يضعه في دائرة الاخر المتصل معه عموديا ,ولكني هنا في نفس الوقت ادعم صناع العوالم المهرة وارجو ان نسعى مثلهم لجعل النص الادبي لا يكتفي يرتدي العالم الخيالي لباس حقيقته , بل يميز حقيقته الى ابلغ حد , فمثلا كم من التشابه عبر عوامل التناص بين راسكلنكوف بطل رواية – الجريمة والعقاب- لدوستوفسكي وبين جان فال جان بطل رواية – البؤساء- لفيكتور هيجو , ولكن لا يمكن أن نقر بذلك لأن هناك تجريد عالي في بناء الشخصية اخفى كل عناصر التناص الاجتماعي رغم الحس المشترك في العامل الانساني .

اذا اردنا ان ننجز ثقافة متفهمة لموضوعة التناص علينا أن نبدأ بسعة صدر امام اشتراكنا المعاني واللغة الحية , ولا نقف امام امتيازات لا صحة لها في تنسيب الفكرة للأسبقية ,ونتفهم المعيار الاجرائي للتقييم عبر منظومة التناص , وصراحة انسب وافضل الاطر في هذا السياق أن نحقق تقدما متواصلا خارج سياق الاحكام الجاهزة , أي يكون تفكيرنا ثقافيا وغير منحاز في جميع مواقفه , ويؤكد نورثروب فراي الى أنه يجب إن يكون النقد بحيادية ايجابية ، ويرى انه من غير الممكن بشكل قاطع إن تقوم الدراسات الادبية على الاحكام القيمية, والتناص صراحة من اعقد النماذج في مجال الاحكام , بل لاريب أن هناك اشكالية ستبرز احباطية الشكل ولا يمكن التوفيق في التخفيف من وطأتها , والافضل ايضا للنص الادبي ان يتجاوز اشتراك الالتباس مع نص اخر , وان يسعى الكاتب للنص الادبي خلق نموذجه المتفرد وان يجعل الحقائق التاريخية والاساطير عبر معانيها وسعة الرمزية , كي تتجلى في النص الادبي فردانية الخلق والاكتشاف والتخلق , وتلك المقومات تمنح النص بعدا جماليا اوسع وكذلك يكون احساس التلقي يعكس المتعة والاندهاش, وبذلك يكون حيز التناص غير مهيمن على النص وان لمس فلا يعكس أي افتراض حاد ازاءه .

ان التصورات ازاء التناص وعلى الاخص في العمل الروائي لا ترقي إلى مستوى النظرية أو المنهج حيث تبقى دائما على مستوى فهم غير معمم وصفة تأويل، وتقريبا التأويل الذي يمكن الاعتماد عليه لمقاربة النص الأدبي، لكن رغم هذا يمكن اعتبارذلك التأويل بمثابة إرهاصات أولية ذات طابع ذاتي في الغالب ولايمكن الاعتماد عليها في كل جوانب التناص، لأن لكل جهة لها معالمها ومفاهيمها وكذلك أدواتها , فجهة الكاتب لها معايير الخاصة به وطبيعي تختلف أي ايقونة عنده مما يراها كاتب اخر، ولابد انه هو من يكون ممهدا لميلاد ايقونته والبعض من الكتاب يؤمن باطار التناص هنا على مستوى اجتماعي وليس ادبيا فيما البعض وهم قلة يعتقد بوجود سطو او تضمين او استيلاء فني اذا جاز التعبير، وتلك القلة هي تقريبا من تسببت بتفعيل من ان يكون التناص احد وجوه السرقة الفنية , ومن الطبيعي ان تلك النظرة ان وجدت فهي قاصرة ولا تمت للموضوعية او الدقة بصلة ولا يمكن اعتبارها لا معياريا ولا سياقيا ايضا حيث هناك مادة اجتماعية لا تفقد صفتها اذا تحولت الى الادب الا اذا اعطاها الكاتب وجه خصوصية وتفريد يلزمان الادباء الاخرين بالوقوف عند ذلك الحد الفني ولايحق تجاوزه الا اذا اقر الكاتب بالتضمين , وكما اسلفنا في اختيار نموذج عرضي غير مقصود في هدفيتنا لتفسير مادة التناص , حيث المادة الاساس للتناص هي الوجه العام له وهو الذي يتمثل ببعده الاجتماعي والمادة ذات الخصوصية هي التي تتمثل بوجهه الفني الجانب , وهذا كما اعتقد من يخلط البعض فيه وبالتالي يفقد الدقة ويجانب الموضوعية إذ , ولابد ان تلفت هذه الفكرة التي ارى لها وجه اهمية الانتباه والسعي إلى ضرورة الاهتمام بالأفكار الحيوية في هذا المجال والساعية الى تقريب التناص من صفة المنهج  في مستويات التحليل المستمرة ولابد ان تثمر جهود بذلتها الدراسات التي اهتم بها كل من باختين، مدفوداف، وكريستيفا وغيرهم , وتنشيط الوعي الادبي الى المستوى الذي يقف فيه على ضفة الموضوعية ولا يخوض عكس التيار بلا جدوى .

 

شارك مع أصدقائك