وديع سعادة: سيبقى الشعر بخير ما دامت للإنسان مشاعر وأحلام

شارك مع أصدقائك

Loading

 

يحدث في حياة الشاعر أو الصحافي أن يضرب الحظ ضربته معه فيأتي في زمن يمكّنه من محاورة شاعره المفضل وأحد أهم من أثروا وعيه ونظرته للكتابة، وأن أحاور شاعراً بقيمة وقامة وديع سعادة لهو أمر يمنحني ثقلاً إنسانياً ووجودياً يمكنّني من الاتكاء عليه في مسيرة المعرفة.

 هو الشاعر قليل الكلام مقتصده، لين النفس وديعها، وهو الشاعر الذي يمنحك إحساساً بأنه ما زال يجرّب، وبنَفَس غير مطمئن يجيب، وكأن مَن أثر شعره في أجيال عديدة هو شخص آخر لا يعنيه، فكان هذا الحوار مع وديع سعادة، الشاعر اللبناني الكبير صاحب المجموعات الشعرية المهمة بدءاً من “ليس للمساء إخوة” 1973 ومروراً بـ”محاولة وصل ضفتين بصوت” 1997 ووصولاً إلى “قُل للعابر أن يعود، نسيَ هنا ظلَّه” 2012، لنقف على هذه التجربة على امتداد استقامتها ونقرأ كيف يرى صاحب “من أخذ النظرة التي تركتُها أمام  الباب؟” 2011 الشعر والحياة.                                                                   

(*) ماذا تبقى من ابن قرية شبطين في القصيدة منذ “ليس للمساء إخوة” حتى الآن؟
– لم يكن للمساء إخوة حين كنتُ فتى في قريتي شبطين، والمساء لا يزال إلى اليوم بلا إخوة حيث أنا، وأخاله هكذا سيبقى. إبن شبطين ذاك لا يزال في المساء الوحيد، وأعتقد أننا جميعاً وحيدون ولو كنا بين جمهور. فالمساء ذاك ليس مسائي وحدي، إنه مساء الجميع أيضاً.

(*) ما الفكرة التي كانت في بالك حينما قمت بتوزيع “ليس للمساء إخوة” بخط اليد في عام 1973 وهل كنت تتوقع أن يأخذك هذا الكتاب لتكون أحد أقطاب الشعر المهمين في العالم العربي؟
– خططتُ كتابي ذاك بخط يدي لأنه أولاً لم تكن معي تكلفة طبعه في دار نشر، ثم أني رأيت أنه هكذا سيكون أكثر حميمية. ووزعته في شارع الحمراء وأمام كلية الآداب في بيروت لسببين: الأول لكي أرى وجهاً لوجه كيف ينظر الناس إلى الشعر والشاعر، والسبب الثاني لأقول إن الشاعر يجب ألا يسكن في برج عاجي كما يفعل بعض الشعراء بل في الشارع مع الناس العاديين. ولم أتوقع أو أفكر إلى أين سيأخذني هذا الكتاب، بل فقط طرحته في السوق من دون غاية، لا شهرة ولا كتابة كلمة عنه في صحيفة أو أي شيء من هذا القبيل.

(*) هل ما زلت تذكر اللحظة التي قررت فيها الانتقال من كتابة الشعر العمودي إلى قصيدة النثر خاصة وأنها كانت وافداً غير مرحب به في الثقافة العربية، ومن كان الشاعر الذي كان له الأثر الأكبر في هذا التحول لديك؟
– قصائدي الأولى كانت عمودية. كنت أعيش في قريتي شبطين ولم أكن قد زرت بيروت بعد ولا سمعت بما يسمى قصيدة نثر. ذات نهار قررتُ أن أمزق قصائدي العمودية تلك، المقيدة بأوزان وقوافٍ، وأكتب قصائد حرة بلا قيد، فالشعر هو عبارة عن الحرية.

مزقتُ تلك القصائد وبدأت أكتب شعر النثر غير أني بقيت متوجساً من نظرة القارئ إلى هذا الشعر، إلى أن انتقلت إلى بيروت أواخر الستينيات وعرفت أن هناك مجلة اسمها مجلة “شعر” يكتب شعراؤها قصيدة النثر فاطمأننت إلى أن خياري وأنا في القرية لم يكن قراراً خاطئاً. أما القصيدة النثرية الأولى التي كتبتها بعد تمزيق قصائدي العمودية فكانت من ثلاث كلمات فقط: ليس للمساء إخوة، ثم جعلتُ هذه القصيدة عنواناً لكتابي الأول. وهكذا لم يكن لأحد من شعراء الحداثة تأثير عليّ لاختياري قصيدة النثر لأني حين بدأت كتابة هذه القصيدة لم أكن قد قرأت لأحد منهم.

(*) تتميز مجموعاتك بعناوين لافتة ومختلفة عن الشائع مثل “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات” 1985، و”مقعد راكب غادر الباص” 1987، “من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب” 2011، كيف تختار عناوين كتبك وهل يحدث أن يُملي عليك الكتاب عنوانه؟
– كتبي تملي عليّ عناوينها، لكن هذه العناوين لا تأتي بسهولة ولا أيضاً تولد مصطنعة. عنوان الكتاب هو زبدة الكتاب، قصيدة مكثفة، وجه مصغر للكتاب بكامله.

(*) انتصرت لليومي والهامشي في عز طغيان الصوت الجماهيري والخطابي، بأي أسلحة دخلت هذه المغامرة، وعلى ماذا كان رهانك؟
– ليس الشعر خطاباً جماهيرياً، فالشعر الخطابي هو أقرب إلى الخطاب السياسي منه إلى الشعر. أعتقد أن الإنسان ذاته ما هو إلا عبارة عن هوامش وقضايا يومية تشكل في مجموعها القضية الكبرى التي هي الإنسان. هذه الهوامش والقضايا الصغيرة كانت هي ولا تزال أسلحتي في كتابة الشعر، ولم يكن رهاني سوى على الإنسان ذاته.

(*) كيف يمكن أن يبقى الشعر على دهشته في الوقت الذي أصبح كل شيء متاحاً وبوفرة، هل هناك صيغة خاصة لديك للبقاء طازجاً كأنك البارحة وُلدت؟
– صيغتي هي استكشاف ذاتي والإنسان عموماً، وهذا الاستكشاف هو ولادة يومية مع ما تحمل هذه الولادة مما تسمينه أنتِ “البقاء طازجاً”.

(*) هل يمكننا اعتبار نشر دواوينك على الإنترنت كي تكون متاحة لكل مهتم بمثابة تنويع على مشهد توزيع مجموعتك “ليس للمساء إخوة” الذي قمت به منذ أكثر من خمسين عاماً؟ وهل تعتبر الشعر بضاعة الفقراء؟
– نشرت كتبي على الإنترنت كي تكون متاحة للجميع ومجاناً، الأمر الذي لا توفره دور النشر. ربما يكون ذلك تنويعاً على “مشهد” توزيع كتابي الأول في الشارع لكني لم أتقصد ذلك. أما الشعر فهو ليس بضاعة الفقراء فحسب إنما أيضاً بضاعة الحالمين بعالم أفضل وبضاعة المتمردين على واقع سيّء والذين يدينون كل بشاعة في هذا العالم.

(*) نراك على الفيسبوك تارة تكتب الوصايا التي تصعق كل من يقرأها وتارة تقرأ نصوص شعراء آخرين بصوتك حتى لو كانوا في بداية الطريق ودائماً نجد مقتطفات من أشعارك على هذه الصفحة الزرقاء، ما الذي قدمته لك وماذا أخذَت من الشعر؟
– ما أفعله على الفيسبوك يفسّر ذاتي، سواء بالنسبة إلى وصاياي أو تشجيع الشعراء الجدد أو الإعجاب بالشعر عموماً وما إلى ذلك، من دون أن يخطر ببالي ماذا يقدم ذلك لي أو ماذا يأخذ من الشعر.

(*) بصفتك متابعاً للتطور التكنولوجي وحضور الشعر على صفحات الفيسبوك منذ بدايته، هل يمكن أن نقول إن الشعر الآن في مرحلة ازدهار بحكم كثرة الأصوات التي نستطيع قراءتها على صفحاته؟
– للفيسبوك إيجابياته وسلبياته بالنسبة إلى الشعر. فإذا كان الشعر جيّداً تكمن إيجابية الفيسبوك في إيصال هذا الشعر إلى عدد كبير من القراء، أما سلبيته فتكمن في الاستسهال الشعري الذي يكتبه البعض.

(*) إذاً هل ترى أن الفيسبوك ساهم في خدمة الشعر أم أنه قد خدم الشعراء؟
– الشعراء الجيدون هم الذين يخدمون الشعر ويخدمون الفيسبوك أيضاً بجودة شعرهم كما أن الفيسبوك يخدمهم من ناحية إيصال شعرهم إلى عدد أكبر من القراء.

 

(*) يتجه الكثير من الشعراء إلى الايمان بهندسة القصيدة، بمعنى أنها فعل مقصود تتهيأ له وتجلس مسلحاً بمعرفتك وأدواتك، بصفتك ممن يؤمنون بأن الشعر هو من يُقعدك حينما يجهز لك، كيف ترى هذا التوجه خاصة وأن الكثير من هؤلاء الشعراء لا يأخذون من يخالف توجههم بجدية؟
– أنا لا أكتب إلا حين تأتي القصيدة وتولد على الورق ولادة طبيعية وليس ولادة قيصرية، من دون أن أعتمد لها هندسة معينة أو نظريات مسبقة. فالقصيدة هي التي تخلق نظريتها وهندستها وليس العكس. النظرية هي ابنة القصيدة وليست القصيدة هي ابنة النظرية.
لا أكتب إلا حين تولد القصيدة من تلقاء نفسها، ولا أكون لها سوى بمثابة القابلة التي تلدها ولادة طبيعية. ومثال على ذلك مجموعتي الأولى “ليس للمساء إخوة” التي عدد قصائدها لا يتعدى الخمسين وكُتبتْ على مدى ثلاثة عشر عاماً.
أما الشعراء المؤمنون بهندسة مسبقة لقصائدهم، ولا يأخذون من يخالف توجههم بجدية، فهذا شأنهم وليس شأني.

(*) كيف ترى الجدل الدائر حتى اللحظة حول أهلية قصيدة النثر في ظل عودة واضحة للقصيدة العمودية وهل يعطي هذا دلالة على وعي مجتمعنا العربي؟
– الجدل حول أهلية قصيدة النثر هو جدل عفا عليه الزمن، وعودة القصيدة العمودية هي عودة إلى الوراء، وكلاهما صورة واضحة عن المجتمع العربي.

(*) بحكم مجايلتك لفترة ذهبية – كما يعتبرها الكثيرون- في مجال الفنون والآداب وحضورك اليوم في عصر اختلفت أدواته وعناصره، مفرداته ومواضيعه، ما هي أبرز نقاط الالتقاء والاختلاف بين العصرين كما تراها؟
– كانت ستينيات القرن الماضي وأوائل السبعينيات (وأنا أتكلم هنا عن لبنان تحديداً) هي الفترة الذهبية بالنسبة إلى الثقافة والقضايا الثقافية. اليوم اختلف الأمر من ناحية غياب القضايا الثقافية بشكل عام إضافة إلى غياب القراء أيضاً. ولا أعرف إن كانت هناك نقاط التقاء بين تلك الفترة واليوم، فأنا لا أرى من تلك النقاط سوى الذكرى.

(*) نرى الكثير من الكتاب والشعراء ممن يسكنون أبراجاً من العاج كما وصفتهم، بعيدين جداً عن الناس، ويضعون مسافة من الهيبة بينهم وبين قرائهم، كيف استطعت النجاة من فخّ الشهرة والمحبوبية المخادع؟
– التواضع صفة أساسية للشاعر، إذ أن الشعر ليس فقط كلاماً على ورق بل هو ممارسة حياتية تجاه الذات وتجاه الآخر، ومن يتصف بهذه الصفة عليه أن يكون مع الناس وليس في برج عاجي.

(*) في ظل طغيان الرواية على سوق الأدب ورواج القصة القصيرة صار الشعر لاجئاً في الشوارع حتى أن الكثير من دور النشر تتعفف عن طباعته وتوزيعه، أما زلت تؤمن بالشعر وبأن هناك مستقبلاً قادماً له؟
– ما دامت للإنسان مشاعر، وأحلام، وآلام، سيبقى الشعر بخير. وحين تنتهي تلك ينتهي هو.

(*) لو استطعت أن تختار كاتباً غيرك وكتاباً واحداً يعبر عنك، ماذا سوف يكون؟
– ربما قصيدة لشاعر ما تعبّر عني لكن من الصعب أن يعبّر عني كل ما يكتبه هذا الشاعر.

(*) اختلفت الآراء وتباينت حول الشعر وماهيته، كيف يمكن أن تصف لنا الشعر بعد هذه العقود التي عايشته فيها وعاش بك ومعك؟
– قد يكون أقرب وصف للشعر هو ما يكتبه الشاعر من شعر. أما أي وصف للشعر تنظيرياً فلا أعتقد سيكون وصفاً دقيقاً.

 (*) ما بين لبنان وأستراليا يعيش وديع سعادة فيزيائياً لكن البيت الحقيقي لوديع سعادة أين يقع وما هي الطرق المؤدية إليه؟
– بيتي هو ذاتي، والطريق المؤدية إليه أعتقد أنها الشعر.

(*) حصلت على جائزة الأركانة لعام 2018 عن مجمل مسيرتك الشعرية، هل تظن أن الجوائز العربية أنصفت تجربتك؟
– من شروط معظم الجوائز العربية أن يرشّح الكاتب نفسه لهذه الجوائز، كما أن معظمها تطغى عليه العلاقات الشخصية والتبعية السياسية، وأنا لا أرشّح نفسي وليست لديّ أية علاقات شخصية مع القيمين على هذه الجوائز ولا أية تبعية.

(*) الغياب ثيمة رئيسية في كتاباتك ربما من قبل أن تحترف صناعته، لكن الغياب في نصوصك هو حضور بشكله الأبهى، ماذا فعل الغياب بك ليحضر معك وبك دائماً؟
–  للغياب أكثر من تأويل: قد يكون غياب شخص، قد يكون أنا الغائب، قد يكون حلماً أو أمنية أو وهماً… لذلك أن أتكلم عن الغياب في شعري يفترض تحديد أي تأويل له. فالغياب، مثله مثل القصيدة الحديثة، منفتح على تأويلات عدة هي ملْك القارئ كما هي ملْك الشاعر وكلٌّ بحسب تأويله.

(*) كيف يمكن أن تصف علاقتك بالموت؟ هل هي علاقة ندّية، صداقة كانت أو عداوة؟
– كان موت أبي احتراقاً هو معاينتي الأولى المفجعة للموت، وحملتُ هذا الجرح لمدة طويلة، لكني بعد ذلك درّبت نفسي على صداقة الموت، وحالياً أنا لا أرى بعد الموت سوى العدم، والعدم لا يؤلم، ولذلك لم أعد أهاب الموت.

 

*- فاتنة الغرة / صحيفة “ضفاف” الإلكترونية في 5/3/2020 

 

 

شارك مع أصدقائك