د. سعد سلوم
كرست القسم الثاني من كتابي (الوحدة في التنوّع) الصادر عام 2015لتحليل ونقد نماذج إدارة التعدُّديَّة في العراق المعاصر، من أنموذج (الدَّولة/الأمَّة) وفق مضمون قوميّ ساد خلال الحقبة من 1921-2003، وأنموذج (دولة المكوّنات) الذي كرَّس وساد خلال العقد الماضي بعد التغيير القسري “من الخارج” على يد غرب ما بعد الحداثة الأمريكيّ. يتحدث هذا المقال عن النماذج الثلاثة لإدارة التنوّع في تأريِّخ العراق المعاصر: نموذج الدَّولة الأمَّة، نموذج دولة المكوّنات، وأخيرًا النموذج الذي اقترحه : دولة المواطنة الحاضنة للتنوّع الثَّقافيّ.
تجلى أنموذج الدَّولة/الأمَّة في شرق الأوسطوي في هيمنة نخب تبنت سياسات صهر إثنية لبقية المجموعات، وصبها في بوتقة هويَّة سياسيَّة جديدة، وأصبحت تحت الرماد انقسامات إثنية حاولت تغطيتها سياسات عزل وتمييز ضدَّ الجماعات التي تتمرد على هذا الأنموذج، أو تطالب بتمثيل ثقافتها على نحو عادل في الهويَّة العامَّة للدَّولة/ الأمَّة الجديدة.
وكان من الواضح، أنَّ أسلوب تعامل الدَّولة العراقيَّة مع الأقلِّيَّات من خلال استعمال آلية التوحيد القسرية الأخرى (الجيش)، وعلى نحو بالغ العنف والقسوة أحيانًا من أجلِّ ترويض من يهدِّد وحدة أنموذج الدَّولة/الأمَّة (مثال الآشوريِّين 1933، والأيزيديِّين 1935)، سوف يكون أحد مخرجات هذا الأنموذج.
في حين جاء أنموذج دولة المكوّنات (الأنموذج الانقساميّ التعدُّديّ) ليقدِّم أسطورة مناسبة عن المجتمع العراقيّ لمرحلة ما بعد التغيير 2003، وكانت هذه الأسطورة تقوم على تخيُّل معيَّن للعراق بوصفه مجموعة مكوّنات، أي كيانات أقلّ من المجتمع، وأكبر من الفرد، وقد اتَّضح مقدار خطر هذه السردية على بناء هويَّة وطنيَّة جامعة انطلاقًا من مشروع بناء دولة مدنية تصدعت بفعل مشاريع دويلات المكوّنات من جهة، وإنجاز المواطنة انطلاقًا من حقوق الفرد الذي ذاب في هويَّة المكوّن من جهة ثانية.
وقد هيمنت فكرة التعدُّديَّة الإثنوطائفيَّة في دولة المكوّنات خلال الأعوام التي تلت الغزو الأمريكيّ للبلاد، وتجلَّت من خلال محاصصة حزبيَّة-إثنوطائفيَّة راحت تقدِّم النُّخب السِّياسيَّة للمكوّنات بوصفهم رعاتها الإثنيين، وانتجت من ثمَّ علاقة بين الفرد ومكوّنه، (سبقت وعرقلت وهدَّدت) تخيُّل أيَّة علاقة ممكنة أو مفترضة مع هويَّة جامعة أكبر من جهة، وكانت على حساب حقوقه الفردية المتضمنة في الدّستور، والتي فرغت من مضمونها بناء على أسبقية علاقة (الطائفة-المكوّن) مع الدَّولة (جماعات كبرى وأقليات) من جهة، وتقديمه أساسًا بوصفه فردًا ينتمي إلى مكوّن (فردًا في أغلبية أو أقلِّيَّة: دينيَّة إثنية مذهبيَّة… وغيرها)، وليس فردًا حاملًا لحقوق أساسيَّة بوصفه كذلك. وتراجعت فكرة الصالح العام لتتحوّل مجرد توازن مصالح الطوائف.
كان من نتائج هذا، تقديم مجتمع سياسيّ قائم على صفقة تقاسم ثلاثية للسلطة بين الشِّيعة (رئاسة الوزراء)، والسُّنَّة (رئاسة البرلمان)، والأكراد (رئاسة الجمهوريَّة)، ومثل هذا التقسيم للرئاسات الثلاث لم ينصّ عليه الدستور، لكنّه أصبح مثالًا لما أنتجه أنموذج (دولة المكوّنات)، ومحاصصته الإثنوطائفيَّة الحزبيَّة من تقسيم للسلطة بحكم الأمر الواقع، وعلى نحو لا علاقة له بإدارة التعدُّديَّة من منظور شامل، بل كرَّس هيمنة الجماعات الأكبر، وبشأن هذه (الجماعات-المكوّنات الكبرى) إلى أحزاب سلطة أو أحزاب معارضة (حسب طبيعة الصراع في كلِّ دورة انتخابيَّة)، فحدَّد صراع نخبها بشأن السلطة والثروة هويَّة البلاد واستقرارها خلال الأعوام الماضية.
ومع اجتياح تنظيم داعش لمحافظة نينوى، وصل فقدان الثقة إلى مرحلة حرجة على نحو تقطع فيه السِّياسيّ مع الاجتماعيّ: أزمة ثقة اجتماعيَّة بين المكوّنات على مستوى أفقي، وأزمة ثقة على مستوى سياسيّ بين الفرد والنظام السِّياسيّ القائم على أنموذج دولة المكوّنات.
وفي هذا السيِّاق تظلُّ “المواطنة” هي المفهوم الأشمل والأكثر تحديدًا في وصف علاقة المواطن مع الدَّولة بما تمليه من واجبات وتمنحه من حقوق، وهي بأبعادها المختلفة تخرج من أنَّها مجرد علاقة قانونيَّة بين الفرد والدَّولة، تسبغ بمقتضاها الدَّولة جنسيتها على عدد من الأفراد، إلى ارتباط وثيق بمشاركة المواطن في الحياة العامَّة بما ترتّبه له من حقوق، وما تفرضه عليه من واجباب، فالمشاركة هي احدى أشكال تعليم المواطنة، وتسهم في تحمله مسؤولية صنع القرار وزيادة ولائه وارتباطه بهويّته الوطنيَّة، أي أنَّها ستتحوّل من خلال هذه المسؤولية إلى ارتباط بحب الوطن والولاء لرموزه وتراثه ولغته.
وإذا كانت المواطنة تطرح في سيِّاق مجتمع ديموقراطيّ على هذا النحو الذي تقدم، وتسعى لمنح حقوق متساوية لجميع المواطنين الأفراد، فالمواطنة الحاضنة للثقافات Intercultural Citizenship تشكِّل مشروعًا مكمِّلًا لها عبر إشاعة التعايش من خلال الحوار بشكل أساسيّ ما يساعد على بناء هويَّة وطنيَّة.
وبما أنَّ أغلب دول العالم تضمُّ جماعات إثنية مختلفة ضمن إطار حدودها السِّياسيّة، فإنَّه في ظلِّ التعدُّد الإثني وتحدياته، يلزم طرح الحوار بوصفه جوهر المواطنة الحاضنة للثَّقافات، ويشير مفهوم الأخير إلى عملية بناء مؤسسات سياسيَّة واجتماعيَّة تستطيع من خلالها مختلف الجماعات الإثنية حلّ خلافاتها بوسائل ديموقراطيَّة من دون إلغاء الآخر.
وفي هذا السيِّاق يقدِّم مثال المواطنة الحاضنة للتنوّع، في مجتمع تعدُّديّ، على نحو يتضمن المساواة والشراكة من منطلق احترام التنوّع، وعدّه مصدر ثروة لا ينضب، أو كما يرى الزميل فادي ضو “مصدر غنى جماعيًا مشتركًا، فيصبح المواطن الآخر باختلافه الثَّقافيّ جزء من عملية بناء الذات الفردية والمجتمعية، بدلًا من أنْ يكون منافسًا على المكتسبات، أو مجرد متساوٍ معي في الحقوق والواجبات. وبهذا يصبح التنوّع مرتبطًا بعملية التفاعل أكثر من ارتباطه بالمسافة التي تفصل بين الجماعات. فحاجّة كلِّ طائفة إلى الأخريات تتعدى أنَّها شاهدة على تمايزها عنهن، إلى أنَّها تشكِّل مسارًا وتلاقيًا بشأن مضمون مشترك”.