وديع سعادة: حياتي تهمني لا الشعر  

شارك مع أصدقائك

Loading

عشية توقيع كتابه الرابع في “صالون العشرين”

       “الشعر وهمٌ جميل يأخذك في قناته غير العادية لتنسى… وأنا مريض شعر بقدر ما أنا مريض حياة”.

الكلام لوديع سعادة، بعد صدور كتابه الرابع “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات”، يوقّع عليه مساء اليوم السبت في “صالون العشرين” – الكسليك (من السابعة حتى العاشرة ليلاً).

يعتبر وديع سعادة أن الشعر العربي لن يدخل العالمية ما دام ساجناً نفسه في “تابوات” ومحرمات.

يلتفت إلى شعره ويقول: “لا وجود للمرأة كحبيبة فيه… أنا لم أكتب قصيدة غزل واحدة. المرأة بالنسبة إلي ضرورة. وهي في شعري تؤدي فعلها ولا تظل مجرد كائن تجريدي… أنا أقول الأشياء دائماً بأسمائها. إلى درجة أن لدي “فضائحية” في هذا المجال”.

كتاباته أشبه بيوميات، لأنه يرى في ما يسمى بالقضايا الكبيرة كليشيهات عريضة، عناوين، والحياة هي التفاصيل الصغيرة.

إلى أين يريد أن يصل؟ فقط: “أريد أن أكون حراً ما أمكن، في الفعل والقول معاً، وأن أدافع عما تبقى لي من حرية، ولو هي أصغر من حبة الخردل”.

هذا بعض ما قاله في حوار، هنا نصه:

* كتاباتك الأخيرة كتابات خاصة، يوميات تجمع كل شيء. هل هذا بدافع المصادفة، أم بدافع القصد… ولماذا؟

– أنا لست شاعر قضايا كبيرة، وأرى ما يسمى القضايا الكبيرة كليشيهات عريضة، عناوين. والحياة هي التفاصيل الصغيرة. لذلك ما يهمني هو التفاصيل – التي تسميها يوميات – وأعتقد أن يوميات حياتي وتفاصيلها تشبه تفاصيل ويوميات كل البشر. في هذا المعنى، الكتابات الخاصة هي أيضاً كتابات عامة. وليست المصادفة أو القصد هما الدافع إلى مثل هذه الكتابات. أقصد أن كتاباتي لا تنطلق من قصد أو مصادفة بقدر ما تنطلق من حياة تجمع كل شيء، بما فيها القصد والمصادفة وغيرهما الكثير.

إن أي شاعر لا تهمه إلا حياته في الدرجة الأولى، ولو ادعى العكس. القول إن الشاعر طوباوي أو نبي جاء لينقذ البشرية أو يحمل همومها ويضيء لها الطريق، هذا القول فيه من الادعاء أكثر مما فيه من الحقيقة، ومن العملقة التي لا تناسب قامة الشاعر الحقيقية، إذ لو قسناها بقامة أي إنسان عادي آخر لما تعدتها إلا ببضع سنتيمترات، أو انخفضت عنها. الشاعر ليس عملاقاً ولا نبياً. أنا لست هكذا على الأقل. وما يهمني ليس إلا حياتي. ولو اصطفيت لأحمل هموم البشر وصليبهم لرفضت. هناك قلة نادرة اختيرت لهذا الأمر، لكني أجدها مع ذلك سقطت تحت حملها… أنا أعرف، وأشعر في العمق، أن الأفعى لسعت حياتي، وكل ما أفعله، في الكتابة أو في سواها، هو أني فقط أبحث لها عن دواء.

ولكن، هل في الشعر دواء؟ طبعاً لا. الشعر وهمٌ جميل. يأخذك في قناته غير العادية لتنسى، لفترة، الحياة العادية التي لن تتآلف معها أبداً. ومن خلال الشعر – هذا الحلم الذي لن يتحقق – تعرف أنهم حقنونا بالتعاليم والقوانين لنصبح أقل مرضاً بالسعادة والحرية، وأقل مقاومة للقمع اليومي والبؤس اليومي. الشعر، هكذا، أجل يشفي، ولو ان شفاءه لا يستمر غير لحظة فمن الغباء أن أرفضه.

إني أرى حياتي مهددة، وأريد أن أحافظ عليها. والعالم العادي شديد السطوة إلى درجة أن المرء لا يستطيع الدفاع، ليس فقط عن حياته بل أيضاً عن كآبته… ربما لذلك أنا مريض شعر بقدر ما أنا مريض حياة.

نقطة انتظار 

* أنت في نقطة انتظار، تطل من بين الكلمات. تدل بواسطة رموز، وتختفي. ماذا تنتظر؟ ولماذا لا تخرج من أسرارك؟

– قد يكون شعري سرياً، لكنه بالتأكيد ليس شعراً مباشراً. الشعر المباشر يحمل بعض صفات الخطاب، أو معظمها. والخطاب في المفهوم العربي هو عبارة عن كلمات كبيرة، رنانة وفارغة، لا أتعاطف معها.

ولكن ما هو الشعر السري؟ وبالتحديد، كيف شعري هو شعر سري؟ هذه السرية، كما أراها أنا، لا تعني الكتمان، ولا الغموض أو التعقيد. ربما هي منفتحة على تأويلات عديدة تجعل كل تأويل يحمل “سر” التأويل الآخر. أو أنها تدخل في الحميمي الذي يتسم ببعض صفات السر، غير أنه ليس سراً. أو ربما أطلقنا صفة السرية على هذا الشعر لأنه يقول الشيء بغير كلماته وصفاته المألوفة، ولكن أيضاً بلا مواربة وباسمه الحقيقي.

لا أعرف. وفي أية حال أجد نفسي أدافع عن هذه السرية، ولست متأكداً إذا شعري سري فعلاً. لكني أكيد، من جهة أخرى، أن الانتظار ليس نقطتي المركزية. صحيح أني أجلس في مكان، وقد يكون مكاناً غير متحرك، لكن هذا لا يعني أني أنتظر شيئاً. هل هي نظرة تشاؤمية؟ أجل، وربما أكثر: نظرة إلحادية. فأنا غير مؤمن بالخلاص، ولا أجد أن الحرية والسعادة ستأتيان يوماً، أو أننا سنذهب إليهما. إنهما مجرد كلمتين – وهمين، اختُرعتا ليتقبل الإنسان الاستمرار بوطأة أقل، وليكون له شيء ينتظره. أعني ليكون له وهم يساعده على تقبل الحياة.

إذا كان الأمر كذلك، فماذا يبقى؟ أعتقد: ارتعاشة الحب. وهي ارتعاشة يشترك فيها الإنسان مع الحيوان، وأظنها تشبه إلى حد كبير ارتعاشة الموت.

لغة الكتاب

 * اللغة في الكتاب موجزة سريعة، ومرات قاسية – قاتمة. هل هي نتيجة مرحلة معينة؟ 

– اللغة الشعرية رديف الحالة الشعرية. هذا الرديف فيه من التوتر ما فيها، ومن الاسترخاء، والانقباض، والاختزال، والتراكمية، والقساوة، واللين، والعنف… وغير ذلك. تكون اللغة أحياناً طالعة من برّية قصيّة، وأحياناً من سهل مكشوف. إنها رديف للحالة، لا تنفصل عنها، مثل جلدها. ليس بينهما شرخ أو تناقض. وحين تتحولان إلى اثنتين، تصاب القصيدة بتصدع ما، أو بانكسار كبير.

في هذا المفهوم، أعتقد أن لغتي تحاول أن تكون أمينة: عنيفة في حالة العنف، منقبضة في حالة الانقباض، ومسترخية في حالة الاسترخاء… فأنا أحرص، عندما أكتب، أن أجنب لغتي الوصول إلى وضع الممانعة. أحرص قدر ما أستطيع، ولا أعرف إذا كنت أنجح. هذه مسألة تخص النقاد. يمكن أن يبتّ النقد فيها. ولا أسمح لنفسي، ولا يجوز لي، أن أنصّب نفسي ناقداً على أعمالي.

أما الإيجاز فأعتبره صفة حسنة في الشعر، إن لم تكن ضرورية. وهي صفة رديفة للتكثيف. امتشاق مشهد كامل في جملة يجعل دخول هذا المشهد ساطعاً وأكثر حضوراً مما لو جعلناه يتسكع طيلة سطور

للوصول. هذا مثل سريع وبسيط، لأقول إن الشعر الذي أحبه هو الذي لا يجعلني أقرأه ببلادة، والذي يحمل لي أكثر في عدد أقل من السطور.

ولا أعتقد، أخيراً، أن هذا “الإيجاز” في مجموعتي هو نتيجة مرحلة معينة. فأنا منذ مجموعتي الأولى “ليس للمساء إخوة” أحاول الابتعاد عن السردية ما استطعت.

* المرأة كاملة الجسد. الرغبة إشارات مبهمة. النزوة تختنق… تمارس الحرية وتعلنها. إلى أين تريد أن تصل؟

– أود أن أشير أولاً أن لا وجود للمرأة في شعري كحبيبة. أقصد أني لم أكتب، طوال 17 عاماً من كتابة الشعر، قصيدة غزل واحدة، أو أي نوع من ضروب الغرام والهيام والحب العذري وغير ذلك مما تغص به دواوين العرب.

المرأة بالنسبة إلي ضرورة، وأراها كذلك بالنسبة إلى أي رجل. وأجد أن لدي هموماً أخرى أهم من الغناء للحبيبة تحت الشبابيك، وأن المرأة ولدت لتؤدي فعلاً أهم من الاستماع إلى هذا الغناء ساجنةً نفسها في غرفة مقفلة. الحب العذري أراه اختراع مراهقين غير ناضجين، أو أنه اسم آخر للضعف والكبت… لذلك ترى المرأة في شعري تؤدي فعلها ولا تظل مجرد كائن تجريدي. ذكر المرأة عندي مصحوب دائماً بفعل الحب، وهو فعل تتشعب غاياته وتختلف، غير أنه دائماً الفعل.

هذا يعني، كما أظن، أن الرغبة في شعري ليست كما تقول إشارات مبهمة والنزوة تختنق. بل إنني أقول دائماً الأشياء بأسمائها، أي الأسماء التي لا تزال تعتبر ممنوعة في الشعر العربي، إلى درجة أن لدي “فضائحية” في هذا المجال. قلت “فضائحية” لأشير فقط إلى مدى إحجام الشعر العربي عن قول حقيقة الأشياء، أو الخوف من تسمية الأشياء بأسمائها، إذ أن هناك “تابو” فظيعاً لا يزال يتلبس الشعر العربي. ولا أظن أن هذا الشعر سيدخل العالمية، أو يتحرر فعلاً، ما دام ساجناً نفسه في “تابوات” ومحرمات، وما دام يعتقد أن في الشعر كلاماً يقال وكلاماً لا يقال.

أما القول بالطوباوية الشعرية، والترفع الشعري على موجودات يعتبرها بعض الشعراء غير طوباوية أو غير شعرية، هذا القول أعتبره باطلاً، وهو لا يفعل سوى التعتيم على الحقيقة وإيذاء الشعر.

المجموعة الأخيرة

* كتابك الجديد هو الرابع في سلسلة أعمالك صدر في الزمن الأكثر صعوبة. ماذا قدمت من جديد فيه؟

– كل الأزمنة صعبة مع الشعر، وقد يكون هذا أصعبها، لأنه الزمن الذي لا يشن حربه على الشعر فقط بل على الإنسان، وهي حرب في أوج غليانها.

ممارسة الوجود تكاد تكون ممنوعة، فكيف ممارسة الحريات؟ حرية القول، والفعل، والمعتقد، ثلاث أكاذيب توارثناها جيلاً عن جيل. ومن المؤسف أن هناك من لا يزال ينادي بأنه سيمنحنا إياها، والأكثر أسفاً أن هناك من يصدقه.

الديمقراطية عندنا كانت دائماً رديف “التبولة” و”الكبة النيئة”. شعار لا يحمل جوهراً، صناعة وطنية يجب تشجيعها، وتراث لم يعنِ يوماً غير الشجر والمناظر الخلابة والتزحلق على الثلج وبعد نصف ساعة يمكنك التزحلق على الماء… كلمات… كلمات… كبيرة ورنانة، ولكن فارغة.

أنا، في مجموعتي الأخيرة، قاعد أمام هذا الزمن. أنظر إلى بشره، وشجره، وجباله، وبحاره، وشوارعه، وقطاراته، وملائكته، وحيتانه، وقراصنته، وبراكينه، وحماقاته، وعظامه، وجماجمه… قاعد في مكاني، أرى كل هذا، وأخاف أن أتحرك. أستعيد الماضي، وأتأمل الحاضر، وأستشف المستقبل، ولا أرى غير هذا… قطارات عائدة من الحرب أو ذاهبة إليها. شموس بارزة العظام. مجموعة هائلة من السنوات وعليّ أن أبيدها بمطرقة. بركان يجب أن أعزل بلحظة جميع رماده. تلقيح الناس ضد السموم بتسميمهم قليلاً كل يوم. ثلاثة مليارات نعل تحركها جماجم للاستعمال الخارجي. شفاه تلثم دولاراً على قفا أميركا. مريول طفل على الحبل وشاحنات جنود. ناس يصرخون ليعيدوا دمهم الذي يتنزه في الشوارع. ناس يجلسون أياماً على الكراسي ليسلّوا أرواحهم الضجرة على الطاولات. ناس يوصلون بصعوبة تنفسهم بسلك الهواء ويرسلون شيفرة حياة غير مسموعة. ناس يحفرون ثقوباً لنوم المتأخرين من عروقهم… والجميع يرتطمون بأضلاعهم… ويتفككون!

هذا بعض ما أراه، ولا أظن أني رأيت أو فعلت شيئاً جديداً.

 

*-صحيفة “الأنوار” اللبنانية في 20/4/1985

 

 

شارك مع أصدقائك