الرقص الدرامي ينقلنا نحو عوالم إنسانية مشتركة على مسارح تونسية

شارك مع أصدقائك

Loading

 

طلعت السماوي يختصر جزءا من تجربته في “حنظلة” و”زهور سوداء”

حنان مبروك

من أشهر أقوال العالم الصوفي جلال الدين الرومي “لا يفنى في الله من لا يعرف قوة الرقص”، فالرقص كان لدى هذا العاشق المحب لله تماهيا مع الكون بصفته مركزه وبصفته مخلوقا فيه من روح الخالق، وفي حين أنه ربط بين الرقص ومعرفة الله، يمكننا نحن اليوم أن نربط بين الرقص ومعرفة الحياة ومعرفة الآخر، في زمن يعامل فيه الرقص على أنه من المحرمات وتحارب فيه الفنون ويتقوقع فيه الإنسان على ذاته وهويته ويرفض التحرك والتحرر من مخاوفه وعاداته وحتى أفكاره المتوارثة.

و الرقص الدرامي عند الفنان العراقي طلعت السماوي، يمكن أن نقول إنه ينطلق من هذه النقطة، ليحرر الآخر من ماضيه ومن الصراع الأزلي على البقاء الذي يدخل شعوبا في متاهات الحروب والنزاعات ويحول حياتها إلى كابوس لا تقوى على التحرر منه.

يعبر السماوي عن الذات، ذاته هو وذات المتفرج أيا كان عرقه وجنسه، هذه الذات يأخذها نقطة انطلاق نحو الآخر، ونقطة عودة نحو الهوية، عودة تحرر عقل صاحبها من تاريخ مؤلم ذاتي وجماعي، لا يزال مؤثرا فيه.

السماوي الذي نشأ في كنف عائلة فنية وأدبية، فهو ابن لواحد من أهم الكتاب والمفكرين العراقيين، عانى من ألم الغربة والبعد عن الوطن لأكثر من أربعة عقود، لكنه لم يتخلص من ولاءه لوطنه، بل حمله معه أينما حل، وظل مراقبا لأحواله اليومية وأزماته الكبرى.

لم تمنعه الغربة من أن يولي العراق أهمية كبرى في تجربته الفنية، وحتى عندما سنحت له الفرصة، عاد ليسهم في إدخال “الرقص الدرامي” إلى المسرح العراقي. كان ذلك في العام 2000، أي قبل ثلاثة أعوام فقط من الاجتياح الأميركي للعراق، الاجتياح الذي تغيرت بعده أحوال البلد لتزداد سوءا وتثقل كاهل شعب عانى الويلات لعقود، وكأنه كتب عليه أن يكرر مآسي وحروب مدمرة طبعت تاريخه.

هذا العام، وبعد غياب أربعة سنوات، عاد السماوي لبيته الأول، المسرح، حيث قدم جوهر خبرته في تونس بعملين مسرحيين عرضهما خلال الدورة الرابعة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية التي انعقدت من الثاني وحتى العاشر من ديسمبر الجاري.

“حنظلة” المقاوم

العمل الأول الذي صافح به طلعت السماوي جمهور المسرح التونسي كان بعنوان “حنظلة، وهو عمل مسرحي راقص، جاء نتيجة ورشة مع المسرح الوطني التونسي، فتحت أبوابها طوال أكثر من شهر أمام الممثلين والراقصين والكوريغرافيين لتطوير المعارف في تقنيات الرقص والأداء الحركي.

وإثر تدريب فني قدم لراقصين موهوبين تعريفات مبدئية عن مدارس الرقص العالمية وطريقة العمل على تحويل الفكرة إلى فن الكوريغرافيا بناء على معالجة درامية، خرج علينا السماوي بعمل يستعيد رموز المقاومة الفنية في المنطقة العربية، فقد كان حنظلة بطل العرض، جنبا إلى جنب مع كتابات غسان كنفاني (1936-1972) الذي لا يزال واحدا من أهم رموز الثورة الفلسطينية في الأدب الحديث، ومع أشعار العراقي أحمد مطر (1954) الذي يمتلك بدوره نزعة ثورية في قصائده.

مطر وكنفاني كانا صديقي ناجي العلي (1937-1987)، جمعهم الفنان العراقي في عرض درامي راقص يذكر بالمأساة الفلسطينية بالتزامن مع الحرب الغاشمة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي. عرض درامي راهن على مواهب شباب تونسي، أطرهم السماوي، ووجههم ونقل إليهم معارفه وخبرات وصنع منهم راقصين متمكنين بعد أن كان أغلبهم لا يفقه خصوصيات الرقص الدرامي، فهم قادمون من أنماط فنية مختلفة منها التمثيل والرقص الشعبي ورقص الشارع.

هذا الفنان الذي يؤمن بأن أي جسد قادر على الرقص وبأن العمل الفني هو بالأساس عمل إنساني مبني على الأخلاق والحب، جعل من أجساد الممثلين/ الراقصين مرآة للواقع الفلسطيني، وصوتا صارخا في وجه الظلم والاستبداد، في وجه الحرب والموت.

في “حنظلة” تكلم الراقصون بصوت الفلسطينيين، رددوا كلمات مطر وكنفاني، وتحركوا ضد الصمت العالمي وضد الخنوع والخوف والتأقلم، خاطبوا ضمائرنا كي نثور نصرة للحق، واستفزونا بأجساد تتماهى مع المؤثرات الصوتية والبصرية للعمل فتضفي عليه بعدا ثوريا وجماليا.

والسماوي هنا، وإن كان يعبر عن الواقع الفلسطيني، فهو أيضا يستذكر حروبا مرت على بلاده، يسترجع حزن العراق العميق، وهو البلد الذي أريقت دماء أبناءه في حروب متعاقبة، كانت نتيجتها أسر مشتتة ومجتمع يشكو التفرقة الدينية والعرقية.

زهور سوداء: بين السويد وتونس

في مشاركته الثانية ضمن مهرجان قرطاج المسرحي، قدم السماوي عرضا عراقيا-سويديا بعنوان “زهور سوداء”، لكنه كان هذه المرة بروح تونسية، حيث تخلى عن بطلة العمل الأصلي كونيلا يانسون، ليمنح راقصة تونسية تدعى شيماء العوني فرصة لا يمنحها القدر مرتين، لتكشف موهبتها أمام جمهور الفن الرابع من تونس وخارجها.

شيماء العوني، هذه الموهبة التي قال عنها السماوي إنها “طاقة جديدة مبهرة في الرقص الدرامي”، حررت جسدها على الخشبة ورقصت كزهرة سوداء متمردة في وسط حقل من الأزهار المألوفة والمعتادة، لتسرد لنا قصة وجع لا يزال يرافق صانع العمل، بصفته عراقيا متأثرا بوجع وطنه وأبناءه، في حله وترحاله.

“زهور سوداء” كما يحيلنا العنوان الرمزي للعمل هي حالة إنسانية تتأرجح بين الأمل والخيبة، تأتينا كبحث درامي راقص في ماضي السماوي، وماضي العراق المثقل بالحروب والأزمات. إنه عمل ذو رمزية عالية، يتخذ من العراق أهم ملامحه وهي السواد الذي يتشح به رجاله ونساءه، يحبونه كملبس وكلون يتشحون به عند الحزن.

في هذا العمل الجديد، الذي يعيده إلى الساحة بعد انقطاع سنوات، انطلق طلعت السماوي من نصوص جبران خليل جبران، الذي تعبر كتاباته عن الأمل والخيبة، وعن التجربة الإنسانية العميقة التي عاشها هذا المفكر اللبناني الشهير، وتحديدا عن غربة الإنسان والوحدة التي يعانيها الإنسان المعاصر، وحاول أن يخلق نوعا من التواصل مع معاناته طوال سنوات من الغربة وهو المغترب منذ 45 عاما عن موطنه، وما تخلفه هذه الغربة من حنين للوطن والأحبة، ليناجي عبر الجسد الراقص بعضا من ماضي طفولته الجميلة، من أحلام الصبا وخيبات الواقع الأليم.

يتطرق طلعت السماوي إلى كل ما هو عراقي وعربي في مواضيعه المسرحية الراقصة، فرغم غربته جسدا إلا أن روحه لا تزال متعلقة بهويته، بوطنه، بعراقه، بعروبته، وبشرقيته.

عن ذلك يقول السماوي: “غادرت العراق لكن روحي لم تغادر، علاقتي مع العراق هي علاقة المتصوف مع الله”، هكذا يبدو طلعت، كالمتصوف العاشق، أينما ولى وجهه اتجه نحو حبيبه العراق، فكانت بلاد الرافدين البصمة الظاهرة والخفية في آن واحد في جل أعماله الدرامية الراقصة.

إنه يتصل بالعراق وبمنطقته العربية، بوعيه، وعيه بالقضايا وبالتاريخ وبالتغيرات الاجتماعية والثقافية، وبكينونة متداخلة في منطقة ذات أهمية كبرى عبر التاريخ وحتى في الزمن الراهن وستكون لها حتما أهمية كبرى في مستقبل الأمم.

خلال ورشته مع الطلبة في تونس، اكتشف السماوي الراقصة التونسية شيماء العوني وأدرك بسرعة أن هذه الراقصة المتخصصة في الفنون الشعبية، مناسبة لبطولة زهور سوداء بنسخة تونسية عرضت ضمن الدورة الرابعة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية.

لم يسبق لهذه الشابة أن اشتغلت على مادة فكرية مركبة سيكولوجيا وجسديا، وفي “زهور سوداء” منح لها السماوي مساحة للتجريب ولتحرير جسدها من حدود الرقص الشعبي، قبلت التحدي بتقديم العمل، فكانت واحدة من الزهرات، راقصة متمكنة، تتماهى بسلاسة مع الموسيقى وتعبر عن الغربة والألم والخيبة وكأنها تعبر عن ذاتها. والعمل الذي ينطلق منه السماوي من الخاص نحو العام، انصهرت فيه الراقصة وأصبحت محركا قويا له، معبرة عنه.

رقصت شيماء العوني فأقنعت، متحركة في فضاء مسرحي مؤثث بديكور يكتسيه السواد، ونقلت لنا رمزية هذا اللون الذي حتى وإن تلونت به الورود أضاف إليها مسحة حزن وكآبة وجعلها رمزا للمآسي.

قال عنها مخرج العمل “هذه الموهبة هي مكسبي الحقيقي من الورشة في تونس، ممثلة وراقصة درامية تملك أداء قويا وجسدا يحيى بالرقص”.

وطلعت السماوي، رغم ابتعاده عن زخم العمل الذي اعتاده فيما مضى، إلا أنه لم يتخل عن أهم استراتيجياته، حيث يظل في بحث دؤوب عن المواهب الشابة والقدرات المتخفية والخجولة، ليصقلها ويكشف عن الدر الكامن فيها، ومن تونس استطاع في “حنظلة” و”زهور سوداء” أن يكتشف ويكشف لنا عن مجموعة من المواهب الشابة التي تحتاج المزيد من التأطير الأكاديمي المعمق كي تعزز المسرح التونسي بخبرات متخصصة في الرقص الدرامي.

 

شارك مع أصدقائك