ميَّادة مهنَّا سليمان / سورية
كُنَّا نمضي إلى المدرسةِ الابتدائيّةِ فرِحينَ لا نعرفُ أنَّ هناكَ شُرورًا في الدُّنيا سوى في أفلامِ الكرتونِ الَّتي نراها، ثمَّ يومًا فيومًا بدأتْ حدقاتُ أعيُنِنا البريئةِ تتَّسِعُ دهشةً حينَ عرفنا أنَّ الشُّرورَ ليستْ فقطْ في ذاكَ الجهازِ المربَّعِ الَّذي نشاهدُ من خلالِهِ برامجَنا المفضَّلةَ، بل إنَّها أفلامُ رعبٍ حقيقيَّةٍ يعيشُها إخوةٌ لنا في مكانٍ آخرَ يُسمَّى (فلسطينَ)، وأنَّ هناكَ وحشًا لم تستطعْ أفلامُ الكرتونِ أنْ تصفَهُ لِبشاعتِهِ يُسمَّى (العدوَّ الصَّهيونيَّ)، يقتلُ ويسفكُ ويشرِّدُ ويعذِّبُ، وبسؤالِ طفلةٍ بريئةٍ رأتهُ يومًا على الشَّاشةِ ذاتِها الَّتي تبثُّ برامجَ الطُّهرِ والنَّقاءِ للأطفالِ، رأيتُ برنامجًا طويلًا مُخيفًا صدمَ ذاكرتي المليئةَ بصورِ الجمالِ عن عالمِ ساندريلَّا وفُلَّة وسالي وساندي بل. – بابا لمَ العدوُّ يضربُ هذا الشَّابَ على ركبتَيهِ؟ سألتُ أبي وعينايَ ممتلئتانِ قهرًا فأجاب: لأنَّ الشَّابَ فلسطينيٌّ يحارِبُ العدوَّ بالحجارةِ! ذاكَ المشهدُ القاسي مازالَ في ذاكرتي حيثُ كنتُ دومًا أتابعُ الأخبارَ مع أبي، وكنتُ شغوفةً بِالاستماعِ إلى أحاديثِ السِّياسةِ حينَ يزورُنا ضيوفٌ فتجلسُ أمِّي مع الضَّيفةِ تتحدَّثانِ عن أشياءَ كثيرةٍ، وأكونُ مصغيةً إلى حديثِ أبي مع ضيفِهِ عنِ الأمورِ السِّياسيَّةِ. في المدرسةِ فتحنا الصَّفحةَ على درسٍ جديدٍ، إنَّهُ نشيدُ (فلسطينُ داري)! نردِّدُ بأصواتِنا العذبةِ بحماسٍ: فلسطين داري ودرب انتصاري تظل بلادي هوى في فؤادي ولحنا أبيَّا على شفتيَّا ثمَّ صِرنا في المرحلةِ الإعداديَّةِ، وأصبحتْ حصَّةُ المطالعةِ كتابُ (حقٍّ لا يموتُ) لغسَّانَ كنفاني، وتعرَّفنا لاحقًا على أمِّ سعدٍ وأحببناها، ورأينا غسَّانَ كنفاني كيفَ يكشف لنا الفرق بين خيمةٍ وأخرى، خيمة اللاجئِ، وخيمةِ المقاتلِ في (خيمة عن خيمة تختلف). مرَّتِ الأيَّامُ، وصِرنا في المرحلةِ الثَّانويَّةِ فتعرَّفنا في حصَّةِ المُطالعةِ إلى المُرابي شايلوك اليهوديّ كيف يفكِّرُ بمادِّيَّةٍ ودناءةٍ وخِسَّةٍ من خلالِ مسرحيَّةِ (تاجر البندقيّة) ل وليم شكسبير. هكذا كانت مناهجُنا القديمةُ، ولا أعلمُ لمَ تغيَّرَ الوضعُ الآنَ في المناهجِ الجديدةِ، مناهجُنا الَّتي أخافتِ العدوَّ، فأعدَّت سابقًا صحيفةُ(يديعوت أحرونوت) تقريرًا حول التَّعليمِ والدِّراسة في سورية، اعتبرتْ فيه أنَّ الطُّلابَ السُّوريِّين يُدرَّسونَ “مضامينَ تحملُ عداءً للسَّاميَّةِ، وتزييفًا للتَّاريخ!” والآنَ كبرنا، وما زلنا نتبنَّى تلكَ الذِّكرياتِ الطُّفوليَّةَ، ونتبنَّى حقَّ الفلسطينيِّينَ في أرضِهم المقدَّسةِ الَّتي سلبَها العدوُّ الغاصبُ. لذلكَ نحنُ كسوريِّينَ ليسَ جديدًا علينا أنْ ندافعَ عنِ الحقِّ، أو نقفَ مع شعبٍ مظلومٍ، نالَنا ظلمٌ واعتداءٌ وحربٌ كبيرةٌ بسببِ وقوفِنا معهُ، ومساندتِنا إيَّاهُ، ومع ذلكَ لمْ نتخاذلْ ولم نركعْ ولم نُطبِّعْ كما هرولَ كثيرونَ ذبحوا ضمائرَهم قربانًا لشياطينِ الصَّهاينةِ، وعملائهِم. لذلكَ صديقي العربيّ الَّذي تعتقد أنَّكَ تمتلكُ إنسانيَّةً، وحُبًّا لفلسطينَ أكثرَ منَّا كسوريِّينَ، تنبَّهْ واستفقْ من غفوةٍ انتابتْكَ في غيرِ وقتِها، فالإنسانيَّةُ ليستْ في التَّوقُّفِ عنِ النَّشرِ الإبداع، وجعْلِ كتاباتِنا لفلسطينَ فقط، وليستْ في شعاراتٍ تردِّدُها كالببغاءِ؛ الإنسانيَّةُ شعورٌ وذاكرةٌ وانتماءٌ وولاءٌ فمنَ الحُمقِ أنْ نوقفَ حصانَ الحياةِ الجامحِ لأنْ هناكَ آلامًا وعذاباتٍ في رقعةٍ جغرافيَّةٍ ما، الحياةُ مستمرَّةٌ في الجريِ، ولا يمكنكَ إيقافُها لأنَّكَ بذلكَ تُحارِبهُا، وهيَ لا تُحبُّ مَن يُحارِبها، اكتبْ عن فلسطينَ، عنِ الحُبِّ، عنِ الفرحِ، والأملِ فالحياةُ مليئةٌ بالتَّناقضاتِ، وفي الوقتِ الَّذي تسيرُ فيهِ أنتَ وراءَ جنازةٍ، قدْ تعودُ لتتوجَّهَ إلى بيتٍ مُبارِكًا بولادةٍ! فلنكُفَّ عن المزاودةِ من منَّا يحملُ فلسطينَ في قلبِهِ، ومن منَّا مهتمٌّ أكثرَ، فنحنُ لسنا في مزادٍ علنيٍّ، ولسنا في معرضٍ نعلِّقُ فيهِ لوحاتِ مشاعرِنا، ليُصفِّقَ الآخرونَ لنا، وأن تنشرَ خمسَ منشوراتٍ عن فلسطينَ، في حينِ ينشرُ غيرَكَ منشورًا عنها كلَّ خمسةِ أيَّامٍ لا يعني أنَّكَ إنسانٌ أكثرَ منهُ! يقولونَ: “أهلُ مكَّةَ أدرى بِشعابِها”، ونحنُ أدرى بمواجعِ الحربِ، من منَّا توقَّعَ أن تستمرَّ الحربُ على سوريةَ أحدَ عشرَ عامًا؟ أينَ كنتَ أنتَ وشعاراتُكَ حينَ كانَ الكثيرونَ يُقتلونَ على الهويَّةِ، لأنَّهم من دينٍ، أو طائفةٍ لمْ ترُقْ لحاقدٍ!؟ أينَ كنتَ عندما تناثرَتْ أجسادُ الأبرياءِ في بلدي بسببِ التَّفجيراتِ الآثمةِ والحقدِ الأعمى؟ لذلكَ.. رجاءً لا تَتَحَدَّثْ عَنِ الحُزنِ في حَضرَةِ قَلبيَ المَوجُوعِ، ولَا تتأَلَّمْ مِن أَشواكَ الحَربِ فِي حَضرةِ ياسمِينيَ المُدَمَّى.