فك الأسد..
والخراف المهضومة
خالد خضير الصالحي
ان القول بأن تناصا قد وقع بين عنوان المجموعة الشعرية لوديع شامخ (مراتب الوهم)، وبين عنوان كتاب (مراتب الوجود.. وحقيقة كل موجود) “للعارف بالله تعالى الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي”، المتوفى 832هـ، قد يكون من باب وقوع الحافر على الحافر، فقد كان الشيخ الجليل قد بحث فيه عن نعمة الله “الذي أعطى مراتب الوجود حقها على التمام والكمال، فظهر فيها بما علمه من الحسن والجمال والثبوت والزوال والميل والاعتدال”، فكان فيه الشيخ الجيلي يؤكد ان “ليس في الإمكان اكمل من هذا الوجود النائل من الكمال كل مثال”، ويقسم الشيخ مراتب الوجود في كتابه الى (أربعين مرتبة) “هي أمهات المراتب كلها… لأنها أصول”؛ وهي تنحصر من “الذات الإلهية”، وهي “الغيب المطلق”، ثم “الوجود المطلق” ثم “الواحدية” مرورا بـ”الفلك المتأثر”؛ ثم “المعدن وأنواعه” ثم “النبات”، ثم “الحيوان”، وأخيرا المرتبة الأربعون “الإنسان.. وبه تمت المراتب وكمل العالم وظهر الحق”.. بينما كان وديع شامخ في (مراتب وهمـ)ـه يبحث في اوهام وجوده التي اختلطت ابوابها عنده، وتقاربت وتداخلت لتنتج اوهاما ووجوها وكوابيس ووشايات التي اختلطت الوانها لتخرج اللوحة تعبيرية يختلط فيها التجريد بالمشخصات:
“مِن وِشَايَةٍ الَى مَاءٍ،
تَطْفُو الْمَرَايَا، وَتَطْفُو الْوُجُوْهُ …
مُحَمَّلَةً بِعُيُوْنِهِا ، وَصَمْتُهِا ، وَرَفِيْفِ جِرَاحِهِا
وَيَصْحُو الْبِئْرُ
وَتَصْحُو الْكَوَابِيْسُ
…….
كُنْتَ، كَمَا أَنْتَ صَاحِبَ الْوِشَايَةِ وَالْقَمَرِ
لا أَنْت غَاطِسٌ لِتَطْفُو الْجُثَثُ، وَلِتَجَحظَ عَنْك الْعُيُوْنُ ، ،،،،
وَلا أَنْت خرَافَةٌ .. لِنَرْسُمَ دَائِرَةً عَلَى فَمِ الْبِئْرِ…!!
…….
الْجِرَاحُ وَالْحِكَايَاتُ وَالْقَمَرُ، وَالْقَلِيْلُ مِن الْبِئْرِ
ستذوي خَلَفَ ذبولِكَ ،
أَيُّهَا الْجُرْحُ:
الَّذِي كَان بِئْرا
وَكَان شِفَاهِا
وَكَانَ شبهةً فِي دَائِرَةِ الْقَوْلِ”. ( يتجلى في صمته .. البئر يوقظه)
لقد وجدنا ان الاجابة على السؤال، ان كانت (مراتب الوهم) صورة سلبية (النيجاتيف) لمراتب الوجود (الجيلية)، بالغة الصعوبة، فيبدو لنا ان البناء الخفي الذي أسس وديع شامخ (مراتب وهمـ)ــه عليه كان يبتدئ بأوهام الفجائع التي تحيط به “أمامي.. على منضدتي.. وخلف ظنوني”، فيمسك في بداية نصه استنتاجا مؤلما بأن جرحه الحياتي عصي على الترتيق فـ “أقلاما وفيرة” قد لا تكفي “لترتيق جرح واحد، لكتابة حكاية واحدة!!/ محبرةٌ واحدة لهبوب عاصفة الألم”.. ولكن العنوان يعتمد تقسيم مراتب الوجود في مراتب النصين معا الى مراتب يعلو بعضها بعضا تماما كما قسم العراقيون القدامى الوجود الى مراتب في منحوتة الاناء النذري، وهو ذاته الذي كان توما الاكويني يقول به ومنه اسست مراتب لوحات القديس جيرجياس وهو يقاتل التنين؛ حيث الوجود الالهي في اعلى مراتب الوجود متمثة بيد الله ومنتهية بالشرور الذي يكمن ادنى مراتب الوجود متمثلة بالتنين..
“أَمَامِي ..عَلَى مِنْضَدَتِي …، وَخَلْفَ ظُنُوْنِي ، كَانَت الْأَقْلامُ مَصْفُوْفَة وَالْنَّوَافِذُ مُغْلَقَةً.
أُرِيْدُ أَن أَكْتَرِي سَاعَةً لَفَرَحَي، مِن الْيَوْمِ الْعَزِيْزِ عَلَى الْسَّاعَاتِ، عَلَى نَاسِهَا الْنَّائِمِيْنَ فِي مَقَامَةِ الْوَقْتِ.
الْيَوْمَ أُرِيْدُ أَن أُكَذِّبَ ظُنُّوْنَ قَلَمِي وَوِشَايَةَ عُمُرِهِ الْغاطَسِ فِي حِبَرِ الشُّبُهَاتِ .
أُرِيْدُ أَن أَقِفَ عَارِيّا ، أَصْرُخُ بِجُمْلَةٍ تُرِنُّ فِي أُذُنَي …جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ .. كْعَزِيّزِ أُمّهِ وَوَحِيْدِ قَوْمِهِ وَفَارِسِ حَبِيْبَتِهِ .
… الْأَقْلامُ إِسْتَطَالَت ، َبريْتُها وَاحِدَاً إِثْرَ فَجِيْعَةٍ، أَغْمَسْتُ رُوؤْسَهَا فِي الْتِّيْهِ، أَرْضَعَتْهُا مِن حَلِيْبِ شَكِّي . وَمَن سُكُوْنِ لَيْلِي الَى مَآَلِ قَلَقِي، شَحَذْتُها بِمَرَّاعِي الْخَيَالِ” (بَهْجَةٌ .. عَلَى جَنَاحِ الْفَجِيْعَةِ ..)
ان نص قصيدة النثر عند وديع شامخ لا يمتثل بسهولة لمواصفات تفرض من خارج ذائقته، حتى ولو من اية جهة جاءت؛ فقد كانت الاشتراطات (التقليدية) لقصيدة النثر الحديثة وتقنيناتها التي قدمتها (سوزان برنار) في كتابها الاشهر (قصيدة النثر…) الذي ترجم الى العربية مرة مجتزءا بترجمة المترجم العراقي زهير مجيد مغامس، ومرة كاملا من قبل المترجمة المصرية راوية صادق بجزئين، لا تلقى ايمانا كافيا بجدواها عند وديع شامخ؛ فلم يتقبل كفاية شرطها ان تكون قصيدة النثر دون صفات مقننة، وان تكون نمطا إبداعيا “يصنع شكلة وهو يتقدم”، لان اللغة الشعرية… شكل من أشكال اختراق التقنين والتقعيد” (أدونيس، الشعرية العربية،ص31)، وان تلك القصيدة انما تؤسس، أو تطمح ان تؤسس لنفسها في كل تجربة شكلا خاصا بها يفارق شكلها في التجارب السابقة، لكن قصيدة النثر العربية، رغم ادعاء كتّابها بذلك، الا انهم يطمحون، في افضل نماذجهم طموحا، إلى الوصول إلى (نموذج قياسي)، وربما معياري، ينكره الجميع، ولكنهم فعليا يطمحون اليه، ويسعون إلى تحقّقه، وفق، كما قلنا، مواصفات اسست مرجعياتها بصفة خاصة، وقعّدت لها نظريا (سوزان برنار) في كتابها (قصيدة النثر…).. في حين كان نص وديع شامخ ليس الا انفلاتا للقواعد ومزحة يمارسها قبل تدوين نصه بتلقائية لا تقبل التقنين..
(جَال فِي خَاطِرِي أَن أُغَنِّي قَبْلَ الْتَّدْوِيْنِ)
مَزْحةٌ تُؤَرِّقُنِي ، وَتُشمِتُ بِي ، أَنَا الَّذِي جَانَبَهُ الْحَظُّ بِألتِقَاطِ الْصُّدَفِ، وَتَخَلَّتْ الْحَتْمِيّةُ عَن تَمَامِ نُبُؤَتِهَا…..
مَزْحَةٌ بِعُمْقِ كَهْفٍ..
مَزْحَةٌ بِعُلُوِّ تَلَّةٍ ..
مَزْحَةٌ شَاهِقَةٌ
مَزْحَةٌ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرَارِ”
وينتهي في هذا النص الى التوكيد ان سفر تدوينه ليس الا أغنية جالت بخاطره فقط:
“قِطْعَا سَأُغَنِّي قَبْل الْتَّدْوِيْن ..
وَأُغَنِّي
مَا يَجُوْلُ بِخَاطِرِي .. فَقَط”
كان وديع شامخ واعيا لكل هذا حينما كان يحاول وضع نصه خارج (مواصفات) قصيدة النثر الفرنسية ومعاييرها التي تتمثل: بالإيجاز والمجانية؛ فكانت نصوصه طويلة بما يكفي لإخراجها من دائرة الإيجاز، ولم تكن نصوصه دون موضوعات (مسبقة) ومخطط لها بما يكفي كذلك لإخراجها من دائرة (المجانية)، ولكنها (قصائده) وان كانت لا تمتثل لاشتراطات قصيدة النثر (الفرنسية-البرنارية) ولكنها ظلت وفيّة لروح الشعر، وللإيقاع (الداخلي)، الذي هو براينا فاعلية في الإزاحة اللغوية التي تحدث في لغة النصّ، ولكن نصه، مع ذلك، لم يكن تجريديا، كما لم تخترقه (الشفاهية الخطابية) التي تخترق جسد الكتابة عند الكثير من النماذج، التي تجنس باعتبارها (قصائد نثر)، ومع كل ذلك ظل نصه زاخرا بهموم حياتية واسعة الطيف، فلم تكتسحه لعبة اللغة بسهولة فهو يلجم الانثيال ويقننه ولا يترك للنصوص مجالا لتتحول إلى سيول من الطلاسم.
(خَرَائِبُ ثَمُوْد)
إلى صَبْرِي شَامِخ .. أَخِي الَّذِي الْتَقَيْتُهُ فِي وَهْمِ مَقْبَرَةٍ جَمَاعِيَّةٍ بَعْد 9 نَيْسَان 2003
………..
لِسَانُكَ طَوِيْلٌ وحَنْجَرَتُكَ خَضْرَاء
أَي حَبْلٍ الْتَفَّ عَلَى عُنُقِكَ الأَنِيْقِ
لِتَمُوْتَ عَلَى مُوَضَةِ الْقِتْلَةِ؟
عَلَّمَتْنِي الإِنْحِنَاءَ لِلْنَّسِيْمِ وَالأَصْدِقَاءِ حِيْنَ يَعْقِدُوْنَ لِلوَسَامَةِ أَثَرَاً.
وَقُلْتَ لِي : أَحْذَرْ الْمَرَايَا كَي لا تُدَجّنُكَ.
يَا أَخِي .. يَا مُعَلِّمِي..
تَنَاسَلَتْ الْمَرَايَا
وَحَلّ صَيْفُ الأَفَاعِي، وَأَنْتَ بِلا قَبْرٍ وَلا شَهَادَةٍ”.
اذا كان (بول فاليري) يقول هنالك “خطران يهددان العالم: الفوضى والنظام”، وهو ما صدّرت به سوزان برنار كتابها؛ فإن وديع شامخ يبدو مثل مروّض الأسود الذي يضع رأسه بين فكي الأسد، بين النظام الذي يزدريه، والذي يهدده بالخروج من دائرة الشعر واشتراطاتها، ولكنه يزدري كذلك الفوضى، والانثيالات اللغوية الميكانيكية اللاواعية الناتجة منها، فهو يحترم الطاقة التعبيرية للكلمة العربية وذلك واضح من حرصه على إبراز حتى جرس حروف الكلمات لينبه المتلقي إلى ذلك الجرس رغم انه يحاول ان يصوغها وفق انساقها المهيمنة في الكتابة الحديثة..
نحن لا نعلم، على وجه اليقين، هل جاءت مبادئ سوزان برنار في كتابها، حصيلة استقراء لنصوص قصائد النثر، أي من وقائع نصية، ام جاءت من إعمال العقل، وتعميم الذائقة الشخصية لسوزان برنار ذاتها، فربما تثار شكوك مضاعفة حول مصطلح (المجانية) في العربية بأنه، على الأقل، لم يكن موفقا كفاية، ربما بسبب اجتهاد المترجم، فربما كانت تقصد به (انتفاء الأيديولوجيا) التي تنخر شعرية النص باتجاه هيمنة نثرية الأهداف النفعية التي تسبق النص وتوجهه كابحة شعريته نحو فكرة مقننة سلفا...
ان قصيدة وديع شامخ كانت حلما بأفق شعري، وابتعادا عن المحاكاة الواقعية نحو فضاءات الحلم المتسعة والغرائبية اللامعقولة والعابثة والسوريالية، باتجاه نص مفتوح على كل الانساق الأدبية، انه يؤسس لحلم يقظة بمنطق (أحلام اليقظة) التي تحدّث عنها باشلار في كتابه (أحلام) اليقظة، فكانت مقاطعه القصيرة، التي تشكلت جزر ارخبيل النصوص الطويلة احيانا، زاخرةً بتلك الاحلام والانثيالات الزاخرة بالصور والتراكيب الانزياحية غير التقليدية.
ان الاشتغالات اللغوية لوديع شامخ تقوده الى التركيز على جرس الحروف وموسيقى الكلمات فكان حريصا على ان يرسم الكلمات مشكّلة الحروف، فكان رسم صورة الحرف سببا فنيا ونفسيا لكي نلحق الوهم في همساته وتأملاته في تجربة جمالية شكلية تذوب في التجربة اللغوية.