جواد السحب الداكنة… محاولة جادة في تأصيل الرواية العراقية

شارك مع أصدقائك

Loading

 

*جميل الشبيبي

صدرت رواية جواد السحب الداكنة للروائي عبد الجليل المياح*عن مطبعة الغري الحديثة في النجف عام 1968وعلى وفق تأريخ إهدائها لي (3\7\1968)  فأنها قد حصلت على اجازة النشر ,ثم طبعت وصدرت اواخر شهر حزيران او بداية شهر تموز من نفس ذلك العام, وهذا يعني انها صدرت قبل انقلاب 17/ تموزعام 1968 , ولكنها وزعت خلال حكم البعث مما اسهم في التعتيم عليها, فلم يتناولها بالنقد والتحليل سوى الناقد ياسين النصير الذي كتب عنها مقالاً قصيرا تناول مضمونها وذلك بعد سنة من صدورها …

ان الاحتكام الى تاريخ صدور هذه الرواية , يعني انها تحتل مكانة خاصة في الانتاج الروائي العراقي وقت ذاك, فهي قد صدرت بعد سنتين من صدور رواية ” النخلة والجيران ” للروائي الراحل”غائب طعمة فرمان ” مع بضع روايات صدرت قبل ذلك التاريخ او بعده, ومعظمها لا يمتلك مقومات العمل الروائي باستثناء رواية ” النخلة والجيران” التي عدّها الكثير من النقاد العراقيين البداية الفنية للرواية العراقية الحديثة.

 ورواية ” جواد السحب الداكنة” كانت تمتلك سمات العمل الروائي وآلياته منذ ذلك التاريخ, سواء في رسم الشخصية الروائية او بناء الزمن إضافة إلى نزوعها إلى تصوير مجتمع روائي يستفيد من وقائع تاريخية وقعت فعلاً  في مدينة البصرة بداية خمسينيات القرن العشرين, كي تمثل فضاء روائياً تظهر شخصيات الرواية فيه ثم تختفي.

ان التركيز على تاريخ صدور هذه الرواية, يحمل مبررات فنية, تتعلق بالانجاز الروائي في العراق ففي ذلك الوقت المبكر, لم يتشكل فيه بعد تقليد فني للرواية العراقية على الرغم من وجود نماذج روائية عربية وعالمية, غير ان الاستفادة منها وتمثيل مقوماتها في انتاج عمل روائي محلي, لم يجد طريقه الا في رواية ” النخلة والجيران” التي رسخت تقليدا جديدا للرواية العراقية ثم صدرت هذه الرواية لتمثل استجابة واعية لهذا النزوع الحديث, الذي يعمل على تخطي السائد من الكتابات الروائية البدائية في الساحة العراقية آنذاك, وقد اتضحت هذه الاستجابة في هذه الرواية بالاستخدام الواعي لتقنيات السرد الحديثة المتمثلة في نسق التناوب الذي كان نسقا جديدا لم يستخدم بعد في ذلك الوقت إضافة إلى تقنيات أخر تستفيد من انجازات القصة العراقية القصيرة التي ظهرت فيها انساق جديدة مبكرة كاستخدام تقنية الاسترجاع وتنويعاته: المونولوج الداخلي والذكريات الذي عرفته القصة العراقية القصيرة في بداية خمسينيات القرن العشرين فكانت رافدا مهما في هذا التطور.

لقد استحدث الروائي عبد الجليل المياح مجتمعا روائيا مصغرا استلهمه من الواقع المعيش متمثلا في ” حارة البغايا” ومستثمرا هذا الوجود الاستثنائي الغريب في جسم المجتمع البصري المحافظ, كي يشخّص من خلال شخصياته الجانحة التي تتحرك وسط هذا الفراغ المشاكس, بتصرفاتها الغريبة وحواراتها الخاصة وأسمائها الغريبة أمراضا اجتماعية مستعصية كانت تطفو على سطح ذلك المجتمع , وتدينه في صميم تحفظه وأخلاقياته السوية ولكي يوكد ديمومة وجوده على هامش المجتمع السوي في القاع العميق المستور منه , تتوالد فيه الحكايات, وتنشطر على نفسها في حركة دائرية تتسع وتضيق, فتعمق إحساسنا بذلك الظلم والقسوة اللذين لحقا بالمرأة  واجبراها على هذا السلوك, فأصبحت مدانة من قبلنا وهي بنفس الوقت شاهد حي على نزعات الشر في النفس الإنسانية.

 تقع “حارة البغايا ” في مدينة البصرة القديمة, وتشغل مكانا معلوما في فضاء الرواية وعلى الشكل الموصوف فيها: ( في قلب مدينة البصرة تتمركز الحارة تبدأ من الزقاق المار وراء مزار عز الدين أبي حمرة غربا, حتى بستان القصب الذي كثيرا ما تصطاد فيه الفتيات العابثات, ومن خزان الماء شمالا حتى ميدان العبيد حيث تقام الرقصات الجماعية على نغمات موغلة في تاريخ التأخر … الرواية ص27) وبعد ان يرسم السارد الحدود الجغرافية للحارة يبدأ بإنشاء مرافقها التي تلتحق بها وتدل عليها : ثلاثة مواخير( اثنان ينهضان حول ساحة كبيرة تقود إلى زقاق يخرج من الحارة والثالث يقبع في زقاق فرعي مسدود .. نفسه ص28) وفي هذه الحارة تقع مقهى حميد حلحوت التي يرتادها ( ذوو العلاقة الصميمة بحياة الحارة, حيث يمارسون ضروب الألعاب من قمار إلى زهر إلى فوق السبعة, الشقاوات وسائقو سيارات الحارة والقوادون يلتقون هنا ص30).

يستخدم الروائي في الجزء الثاني من الرواية المخصص لتأثيث الفضاء الروائي للحارة, السرد الموضوعي الذي يديره سارد عليم يستثمر البناء المشهدي الممنتج عبر حركة عين الكاميرا لتصوير تفاصيل هذا المكان ومكوناته الأُخَر, وهذا النوع من السرد يختفي فيه السارد خلف مفردات السرد, ولا تتضح شخصيته أمامنا إلا في فصول قادمة, غير أن هذا النوع من السرد لا يسير على وفق نسق التتابع الذي يعمل على جمع الموجودات بحركة سردية متصلة تحكمها فواصل لغوية معروفة كحروف العطف او الفاصلة التي تخفف من سرعة حركة هذا السرد بل انه يبنى بناء ممنتجا سواء بالتعريف بإحدى شخصيات الرواية او في بناء المكان, فعين الكاميرا تتوقف بين حين وآخر على شخصية من شخصيات الحارة, تصورها في حركتها او سكونها ثم تنتقل إلى شخصية أخرى, كي تضم الجميع في مشهد واحد .فحينما يراد توصيف ملامح حميد حلحوت صاحب المقهى تبدأ حركة الكاميرا من كفه القريبة من صينية النقود ( كف مستطيلة الأصابع, عريضة الحواف, تبدو عادية جدا , وتتصل بساعد اشعر تذهب الى حميد حلحوت العريض الصدر الكبير الرأس …ص30 ) ثم تنتقل الكاميرا إلى الزعيم السابق لعصابة اليد السوداء 🙁 شاب في أواخر العقد الثالث , وسيم , بدين قليلا , يتكلم بسرعة ..ص31) أما” منكاش ”  احد الشخصيات الرئيسة في الرواية فيقدم بالشكل الآتي ( دخل منكاش إلى المقهى, منكاش فتى مولّد بين العشرين والثانية والعشرين ,ممتلئ الجسم, جميل العينين بينهما دقة شذر …ص32). ان حركة الكاميرا لا تعطي مسحا كاملا للشخصية بل تتوقف عند تفاصيل معينة من جسد تلك الشخصية كي تدل على الكل.

ولا يقتصر تقسيم الشخصية بهذا الشكل فقط بل ان الروائي يعمد الى استخدام القطع والتوليف في رسم ملامح الشخصيات بحيث تتضح ملامح هذه الشخصيات خلال صفحات متفرقة من الرواية ,وهي تقنية لم تكن معروفة في الروايات التي صدرت قبلها, ولذا فاستخدام المونتاج السردي في رواية “جواد السحب الداكنة ” سواء في بناء المكان او الشخصية الروائية او في بناء الحدث, هو احد منجزات هذه الرواية التي لم يشر النقد اليها..

ففي الفصل الأول منها يقدم السارد ” نارية ” بطلة الرواية بوصفها صبية من خلال عين مرافقها ” ادهام” زوج أمها 🙁 رفع عينيه الصغيرتين ورمق الصبية مستوية على ظهر الجواد ص5) وفي الصفحة 16 يتابع السارد حركتها): ألقت الصبية بنفسها على صدر أمها ) أما ادهام زوج أمها ومرافقها إلى محطة لقيط وهي تحمل ابنها من جويفة مدير محطة لقيط اثر علاقة محرمة بينهما فيقدمه الروائي بهذه الطريقة أيضا :  ( أزاح لثامه المصطنع من جناح كوفيته ذات الخطوط الحمراء المتصالبة فبدا وجهه ناحلا مجعدا  كبطن امرأة ولدت حديثا ….ص5) وفي الصفحة السادسة تتضح هيأته:  ( شدت الريح على عباءة ادهام الوبر الضارب لونها للبياض فباعد قدميه ليثبت نفسه) . وفي صفحة لاحقة نتعرف على عمره : (هاهو يتخطى القضبان , خطواته الواسعة تشي بقوة كاملة قلما تتوفر لمن يتخطون عامهم الستين ) ثم ترد إحدى صفاته من خلال وجهة نظر نارية عبر تداعياتها: (انك مريض واهم , بلحية نامية وصوت خافت …ص18) .

 ويلاحظ في سرد الحدث وتقديم الشخصيات وحتى في بناء الزمن الروائي استخدام المؤلف لوجهات النظر المختلفة “منظور متنوع” فالسرد في بداية الرواية يديره ويتحكم به سارد عليم على وفق اتجاهات مختلفة تحيط بكل شيء , المكان , الزمان , الشخصيات : ( حل كانون الثاني بنهاره القصير وبرده القارس, وفي غبش إحدى أماسيه ووسط سحابة ترابية تسوقها ريح شمالية غربية , فارق ادهام جواده صامتا..ص5)  غير أن هذا السرد لا يستمر طويلا اذ يقاطع بوجهات نظر الشخصيات الروائية التي تروي بعض المشاهد من خلال منظورها : ( وقف ادهام فوق رأس عامل يتكوم وراء قائمة ضخمة مشيدة بالطابوق المنجور انه يسعل باستمرار ..ص6) وفي الصفحة 24 من الرواية تروى بعض الأحداث من خلال التداعي غير المباشر والمباشر  لشخصية ادهام بعد وفاة زوجته أثناء انتقاله معها الى جهة أخرى من الصحراء : ( كان الان قد قطع مسافة شاسعة صار يفكر برفاقه وما عساه يقص من أخبار صحيحة او كاذبة : ماذا أقول لهم ؟ شيخة ماتت نارية سابت ..اتجهت في سيارة نحو الجنوب ياالهي وحدها ) وبنفس الطريقة هذه ترد ذهن ادهام حادثة مقتل ابنه البكر : ( حينما يئست من العثور على قاتل بكر.. ظفرت به !! ظفرت به كأسد يطارد وعلا فيتبعه ثم يلعب عليه لحين اوان افتراسه .. ص25) .

  ان استخدام التداعي غير المباشر, والتداعي بالنيابة عن شخصية ادهام والتداعي المباشر باللغة الدارجة يأتيان هنا كتقنية لتنويع السرد وتطعيمه بحكايات دالة عن حياة شخصيات مختلفة , وحكاية بكر ابن ادهام ترد هنا لتعطي انطباعا عن شخصية ادهام المترددة التي لا تستطيع أن تنجز عملا حتى اذا كان امرا يتعلق باخذ الثار من قاتل ابنه وهي عادة متأصلة في حياة البدو غير انه لا يمتثل لهذا القانون لأنه إنسان ضعيف وهو اذ يتداعى بهذا الشكل فانه يتذكر ذلك تعويضا عن ضعفه خصوصا حين يعلق على هروب نارية كي تنفذ انتقامها بالشخص الذي سلبها عفافها في محطة قطار لقيط        : ( جانت تريد تكتله, لكني عرفت أنها ما تكدر , بنات اليوم مو مثل بنات قبل ..ص26) .

  ولا يتوقف سرد الأحداث باستثمار وجهات نظر سردية مختلفة , او عن طريق التداعي المباشر او غير المباشر بل انه هنا يستفيد مبكرا  من نسق التناوب طريقا في سرد بعض الأحداث والتناوب في السرد نسق لم يكن معروفا في الرواية العراقية آنذاك وقد استثمره القاص حين قدم سردا على وفق هذا النسق لحادثة “هروب نارية ” وانتقالها من بيئة الصحراء الى بيئة المدينة في البصرة أحداهما بلسان منكاش الذي التقطها في أمسية شتائية ممطرة ونقلها إلى احد بيوت الدعارة في الحارة . ويأتي سرد هذه الحكاية بشكل حوار يجري بينه وبين مجموعة من رواد مقهى حميد حلحوت متقاطعا مع حوادث أخرى ترد عبر هذا الحوار لكنها في معظمها تحثه على استكمال سرد هذه الحكاية .

 ( قال انوش فيما يسند كوعيه الى النضد الذي أمامه : يلّه لازال السقط بعده … ما تقص لنا قصتهه ولك انته غير محظوظ الدنانير تجيلك لنكات لنكات ) خلال ذلك يبدأ منكاش بالحكاية ساردا أحداثها بطريقة الكلام المباشر وباللغة الدارجة ومسجلا تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبينها : ( جانت الدنية لي……ل وأنا ساد الجام , والعامل نايم يمي والمطر برة يصب ..ص24 ) وخلال تفاصيل السرد لهذه الحكاية نتعرف على اسم “البدوية ” وعلى جزء من تفاصيل شكلها وياتي ذلك بالتناوب في السرد في الحوار بين منكاش والبدوية من جهة والحوار بينه وبين احد رواد المقهى  الذين يحثونه على مواصلة الكلام من جهة اخرى .

  ويعاد سرد هذه الحكاية مرة أخرى من وجهة نظر” نارية” التي تتذكر ذلك اليوم من خلال محفز بصري هو السجادة الحائطية التي  تعرض مشهد حب اندلسي ( انتقلت عيناها الى صورة مغنية جميلة ترتدي ثياب البدويات , كما كانت تفعل سابقا , بحب يمتزج بالحزن .. حدقت فيها , حركة ابهامها تثقل ,السيارة تطفر ادار وجهه :

-شسمج

-نارية          ص44)

وخلال ذلك تكتمل القصة بوصولها إلى المبغى وهنا ترد ذهنها بعض الأحداث التي مازالت عالقة بذهنها : ( أعطتني لميعة شبا , صعب عليها أن لا اكون عذراء …

   او ( تأتيني أم غبيش برضيع يريحني من ضغط الحليب … ص46)

      ( قصوا شعري.. لكن لميعة سخرت من ضفيرتي المفقودة ص46)(وفي ليلة دافئة اسكروني .. وادخلوا حسن القنطرجي .. لكن في الصباح ضرب الاسطة لميعة بالحذاء وحطم أسنان منكاش…ص46) لانه اكتشف ان البدوية ليست عذراء .

ومن اهم السمات الأسلوبية في هذه الرواية اعتمادها الحوار في تجسيد الحدث الروائي, ورسم ملامح الشخصية الروائية بالتأكيد على دورها فيها اذ يقترن ظهور الشخصية دائما بسمة خاصة في الحوار واستخدام لبعض المفردات التي تنتمي إلى البيئة الروائية ” بيئة الحارة ” حيث تتضح الكثير من المفردات التي يعتبر استخدامها معيبا في المجتمع النسوي . وتشكل اللغة العامية أساسا في حوار الشخصيات وهو حوار له علاقة بمفهوم الروائي عن وظيفة الشخصية الروائية حيث يعمد إلى مطابقتها بالواقع توكيدا على صدقها الفني فالمعيار هنا هو الواقع وليس الفن .

  أما بناء الزمن فيتخذ له أشكالا مختلفة فالروائي بداية يحرص على بناء الزمن بناء   تتعاقب فيه الأحداث وتستخدم فيه تقنية الحذف لتسريع الأحداث للإشارة إلى توالي السنوات وهذا واضح بإشارة السارد الى بدايات السنة في كثير من فصول الرواية : ( حل كانون الثاني بنهاره القصير وبرده القارس ص5) (من جديد عاد …عاد كانون الثاني ص41) ( هاهي سياط كانون الثاني تجرح الوجوه أمطاره ما تنفك تغسل أقذار الحارة ص58) أما تقنية الحذف والتلخيص فترد في بعض فصول الرواية , للتسريع بالحدث ودفعه سنوات أخرى : ( سنوات عديدة اضطجعت في توابيتها , الرواد مازالوا يشكلون الطوابير امام غرفة نارية ص58) ( مرت شهور سبعة وسنافي يكاد يغص في سعادته ص101) ( كانت قد انقضت الان اكثر من سبع سنوات على هروب جمرة ونارية , حيث منحتها الاسم ليلى ص108) .

  وفي بناء الزمن أيضا ترد ذهن الشخصية احتمالات المستقبل بما يسمى بالمصطلح النقدي تقنية “الارصاد ” التي تشي بهاجس المستقبل المخيف الذي ينتظر الشخصية ويأتي ذلك بطريقتين أما بتذكر حادثة وقعت أمام عين الشخصية وتروى من خلال وجهة نظرها كي تشير إلى مصير غامض يحيط بها : (مرة مرضت لثلاثة أيام كانت تسير في السوق وإذا بصراخ هائل يتعالى …ص51) كان ذلك حادثة قتل إحدى بغايا الحارة على يد أخيها.

  أو يأتي ذلك من خلال حلم : ( قرب الفجر رأت نارية نفسها تشيخ , جلدها يتغضن , فمها يخلو من الاسنان وشعرها يتفضض . جازت مرحلة المبغى .. احد الاكواخ يحتويها ..ص86).

   اما ثيمة الرواية فتتفتح على اجواء فاسدة : مجتمع راكد يجتر احزانه ويلوكها دون تغيير منتظر , ولذا فان الحدث الروائي يتخذ شكل دائرة مغلقة تبدا من فضاء واسع هو الصحراء بالنسبة الى الشخصية الرئيسية في الرواية ” نارية ” وينتهي بماخور مغلق بحدود الحارة ..الحدود ضيقة , وكذلك الشخصيات والافكار والناس كل شيء يدور في دائرة واحدة .. اما التغيير فياتي من الخارج دائما . هناك عزيز ابن نارية من علاقة غير شرعية الذي عرف موقع والدته في الحارة واعيا  مصيرها وعاملا على انقاذها من هذا المصير الذي حددته لها اليات المجتمع القاسية وهو اذ يرفض هذا الواقع فانه يتقدم نحو والدته” البغي”  بشكل شجاع عاملا على انقاذها من هذا الواقع . هناك ايضا قرار الدولة القاضي بتحريم مهنة البغاء  وفيه تتضح صورة معبرة عن واقع الحال ابان بداية خمسينيات القن العشرين في مدينة البصرة القديمة حين عمد رجال كثيرون الى عقد علاقة زواج شرعية مع بعض المومسات بعد غلق ابواب الحارة فاتحين ابوابهم لهن لبناء حياة جديدة بعيدا عن الرذيلة والرواية تثبت هذه الواقعة في الفصل الاخير منها : صدر الامر بتحريم البغاء , وفي شارع الحارة العام , امام المقهى المقابلة لباب المبغى وقف المختار يسجل اسماء الفتيات اللواتي كان الشباب يختارونهن كزوجات لهم .. وكان اغلبهم يرتجفون خجلا من الناس المتجمهرين حولهم , وقد اضطرب احدهم وتردد فما كان من الفتاة الا ان قالت بضيق

_ يالله لويريدني لو ..خلي ارجع وتراجعت خطوتين فقدم نفسه للمختار ص123 .

   ان رواية ” جواد السحب الداكنة ” للروائي عبد الجليل المياح كانت تمثل عطاء مبكرا وواعدا في كتابة الرواية الفنية في العراق في وقت لم تتحدد فيه بعد تلك المعالم الفنية والجمالية في السرد الروائي العراقي والعربي وقد اتضح منذ وقت مبكر نسبيا (1968)قدرة هذا الروائي على اقتراح انساق جديدة في السرد الروائي : كالتناوب والاستباق وبناء المشاهد السردية من وجهات نظر مختلفة اضافة الى تلك الحيوية التي اتسم بها الحوار بين شخوصها , الامر الذي ساهم في بناء شخصيات الرواية وايضاح ملامحها الفردية من خلال هذا الحوار الذي كان متسقا مع الاجواء الخاصة بذلك المجتمع الفاسد .  كما ان هذه الرواية قد اسست مسارها الفني ببناء مجتمع صغير مرفوض وهو يتطلع الى افق انساني ارحب .

 

** عبد الجليل المياح .. قاص وروائي , ولد في البصرة واسهم بشكل فاعل ونشيط في تكوين التجمعات الادبية البصرية , وقد اثمر جهده وجهد زملائه ابان السبعينيات من القرن العشرين الى اصدار مجموعة (12 قصة ) بعددين ضمّا مجموعة من القصص القصيرة  لمجموعة من الادباء في . البصرة . اعدمته الزمرة الفاشية عام 1981 وهو في قمة عطائه .

————————————————

شارك مع أصدقائك