محاولة في فك شفرة الحنين البصراوي

شارك مع أصدقائك

Loading

د. إسماعيل نوري الربيعي

انزع نعليك. في البصرة أنت الآن، تطّهر، تخلّص من مقتك. أفلت من بغضائك، تملّص من حقدك، خلّص روحك من سُخطك، أفلت نفسك من ضغينتك. لا كرهٌ لا مقت لا بغضاء و لاغلواء. لا وحشة لا غربة. لا كَرْب في البصرة البتة، أتراحُ الوحدةِ لن تطرق بابك فيها. الكل قريب لصق القلب، الكل عزيز و منيع و حصين. لو شُجّ منك الرأس تُطببك القلوب، و يحيط بك الحنّو من كل حدب و صوب. وَلَهُ البصرة شغوف، وَجْدها مستهام، لهفتها يحوطها الكَلف، و صبوتها يقودها التوق و التلّهف، و شوقها يقوده الولوع. البصرة ، ضامرة هيفاء ، داعج حسناء، بهية غضّة.
العقل غزير و عميق فيها، و دليل التفسير طويل و أكيد. من واصل و ابن عبيد و العلاف، الفوطي و الجاحظ و الشحّام. الأصمعي و الدؤلي و ابن دريد. حتى هذه اللحظة، سيولد شاعر في البصرة لا ريب. و اللحظات القادمة و المقبل من أيام. كل ما في البصرة عزيز و أثير من ( تومان ) بنايه الحزين حتى شرهان كاطع و تسجيلاته الشهيرة في ساحة أم البروم، مرورا بسوق الهنود و شارع المغايز. بكل شيء فيها بثقافتها الرفيعة أو الشعبية منها ، برموزها المرموقة و النخب العملاقة أم بناسها البسطاء. ألا ليت شعري كم باذخة و سامية هذه المدينة ، عنفوان الكبرياء يشمخ فيها. بزهوٍ راكز، لا ذبول و لا انحسار، و لا تراخ أو انكسار. توالت النكبات عليها ، و هي لا تنفك يلوذ الناس بها، يتدرّعون بشمائلها، يتحصنّون برحمتها و رأفتها. يتدفئون بمواقد كرم أهليها.
بلاد ( حبوبي) الطالعة من القلب برفق و رحمة و موّدة ، حيث الأخوّة الأليفة و الإعزاز الطالع من القلب، دون شطط أو مغالاة. يُثْخِنوكَ بزيادة جرعة الحب دون إسراف، و لا إفراط فيها أو تضخيم. و هذا سر ( الحنين البصراوي) الدافيء السخين، تلك هي خلطته السريّة ، و طويته المنقّاة، و فكرته الطاهرة و نجواه الصافية، و سويّته البريئة، و ضميره الواضح و سريرته الجليّة. بلاد تتداعى فيه الإبل آمنة تورد الماء؛ (تَداعَيْنَ بِاسْمِ الشِّيبِ في مُتَثَلِّمِ، جوانبُهُ في بَصْرَةٍ وسِلاَمِ) . أرض السلام و الأمان و الطمأنينة ، رغم أنف الموت و الهلاك و الدمار. (لا خراب في البصرة)، لا بعدها و لا قبلها، البصرة صلحٌ و تحية و تصالح. بلاد سيبويه و الأخفش و قطرب و المبرد و الزجاج و السيرافي. أرض الحكمة و المنطق و التوق لكل نفيس و عزيز و أثير.
البصرة أم الأحرار، يتنافح فيها النخل الشامخ، و العقل الراجح و الناس الأخيار، أبهّة ُ دون تشامخ، و سموّ محفوف بالعزّة، و سُموق يعلوه الكِبْر. البصرة روح الأرض و عنقود المعنى برسوخ الأشجار. البصرة فيءٌ وظلال للخير، الأجدى و الأجزل و الأجود، يحضرُ في رحبة فسيحة من الخِصب و الرَغد و الغَدَف و الرِياش. الأزكى يا عود البصرة و الأفضل و الأعلى. لا تنفكين تمدين ذراعيك للأنفع و الأوفر من التجليات، و الابتداع و الخلق و الابتكار. و لا تعدمين وسيلة في الاكتشاف و الاستحداث و التكوين. تتجلين في فرادة خصيبة و عزيزة، رفيعة القوام ممشوقة القد. ( حلوة البصرة) و أحلى منها البصراويين.
شارك مع أصدقائك