قراءة لرواية ” ربيع لم يزهر” للكاتبة الفلسطينيّة د.نجمة خليل حبيب .. عقيل منقوش

شارك مع أصدقائك

Loading

قراءة لرواية ” ربيع لم يزهر” للكاتبة الفلسطينيّة د.نجمة خليل حبيب

عقيل منقوش.ملبورن ٢٠٢٣

في روايتها الصادرة عن الدار العربية للعلوم/ناشرون للعام ٢٠٢٢

في دولة الإمارات العربية المتّحدة،

تحاول الكاتبة أن تسرد وقائع عصيبة وأحداث مؤلمة من زمن الإنسان الفلسطيني الحديث  أيام الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ ،وما رافق هذا العدوان من حرب أهلية نشبت بين الفرقاء من بعض الميليشيات المتعاطفة معه والمتعصّبة لبلدها  ،ولاجئين بعضهم ينتمي إلى منظمات مسلحة للمقاومة الفلسطينيّة، يبحثون عن حياة خارج بلدهم المحتل ، هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، والتي وجد الفلسطيني نفسه فيها من جديد مشرّدا في وطن  التجأ إليه بعد أن سلبت أرضه الأصليّة (فلسطين ) وأعطت بقرار بريطاني ( وعد بلفور) ظالم لمهاجرين غرباء من اليهود ،قدِموا إليها من مختلف دول العالم،

لقد ارتأت الكاتبة ” نجمة خليل” أن تكون  الرواية بفصول : أسمتها بجمل ترتبط بالحدث الأعظم للرواية ألا وهو استذكار مجريات الحرب الدامية وما خلفته  من دمار وخراب يضاف لمأساة الفلسطيني المستمرة دون توقّف، وقد نجحت أن تقدمهُ هنا بصورة الإنسان العادي في هذا السرد الواقعي الصريح والمحايد وليس المتخيّل الاسطوري أو الشاعري الذي صنعته الذاكرة المتلقية والشفاهية  عبر الإعلام الغربي المنحاز  لاسرائيل  والذي كان يصوره وكأنه شيطان لا يرحم ،همه القتل والاغتيال والتفجير ضد كل ما هو يهودي من عرق  سامي، والإعلام العربي الذي جعل منه أسطورة لا تُهزم بعد أن خذله في حربين خاسرتين وتخلى عنه، ماعدا المساعدات الماليّة  والمعنويّة التي يذكّره بهما في كلِّ مناسبة من أجل اذلاله،

وفي كلتي الحالتين لم يتعرف العالم على حقيقة الفلسطيني الانسان المسالم  والبسيط الذي لا يختلف عن بقية الخلق، والذي يطالب بحقوقه في الوجود بإسترجاع أرضه المأخوذة منه بعد قتله وتشريده وتهجريه واسكاته بالترهيب والسجن والنفي القسري،

ومازال لحدّ هذه اللحظة ينتظر من العالم أن يستيقظ ضميره كي يعيدها له، ويمنحه الحياة التي يستحق مع اعتذار يليق بتضحياته الجسيمة على مرّ التاريخ،

في فصل ” مريم أم ربيع” تلخّص الكاتبة صورة الفلسطيني في اغنية للأطفال جاءت على لسان احد ابطالها واسمها: ام مريم

تقول الأغنية باللهجة العامية الفلسطينيّة:

إجا العصفور يتوضىّ

هذا لقطهُ

هذا ذبحهُ

هذا شواهُ

هذا أكلهُ

وهذا قلًو

إذن هو كائن مسالم بطبيعته وسريرته التي استمدهما من  بيئته الفلاحيّة التي تشكلها أشجار الزيتون الخضراء وحقول الحمضيات والكرم العنب ، والغفلة ناتجة من ذاته المتصالحة مع الأشياء،  يدّل عليها  انسجامه مع حياته العفويّة المرتبطة بحركة الوجود الذي وضعه في هذا المكان الاستثائي منذ القدم ، حيث مولد نبي الدين السماوي الثاني السيد المسيح  في مدينة بيت لحم،

 

و الانسان الغافل لا يدرك الخطر القادم نحوه، لإيمانه بخلو الكون منه. ولنقائه الخالص الذي يشبه نقاء الهنود الحمر، السكان الأصليين لأمريكا حينما وصلتهم سفن الفاتحين البيض، فلقد استقبلوهم بسلال الفاكهة كي يطعمونهم من خيرات الأرض، فما كان من الفاتحين سوى أن أكلوا فاكهتهم،  ورجعوا ثانية بالبنادق كي يقتلونهم ويسلبوا أرضهم ليمحوا بعد ذلك  أثرهم إلى يومنا هذا،

” سميناه ربيعا تيمّنًا، فقد جاءهما على كهولة ينثر في صحراء حياتهما رذاذً نديّاً”

في هذا المقطع نتعرف على شخصية ام ربيع  مريم وزوجها  عوض وابنهما ربيع في الرواية،

ومن خلال أحاديثهما المختلفة ترسم لنا الكاتبة الشخصيات الأخرى التي تشكل ملامح البيت الفلسطيني الذي تتحكم فيه سلطات متعدّدة، ويسكنه اناس مختلفون،

في حوار شخصية الريس مع أبي ربيع نتعرف على السلطة السفلى التي تنفذ مايطلب منها من السلطات العليا المتحكمة بمصير اللاجئين والتي يختلف خطابها المهادن عن خطاب الآخرين المقاومين،

يسأل الريس قائلاَ: أبو مريم ، أكيد بأبو ظبي؟ مش بسوريا تدرب الزعران؟؟

فالزعران هم غير الناضجين من الرجال الحمقى من أصحاب المشاكل التافهة الصغيرة وليس القضايا المشرّفة الكبرى التي ترتقي إلى أخلاق الفرسان من الشجاعة والبسالة والفداء،

كذلك نتعرف على

على شخصية الأناني المستقل الذي لا يربط مصيره بقضيته أو شعبه كما في حوار أبي ربيع مع تيم:

“أنت تعرفني يا تيم! أنا مش شاطر بالحكي، قمت من مطرحي ومسكت برقبتو، وقلتلو: خرا عليك وعلى ثورتكم،  كلكم على اجري،  أنا مابيهمني لا مقاومة ولا أبو عمار ولا فلسطين ولا احد بالدنيا، أنا بيهمني ابني وزوجتي بس”

ولابد أن نذكّر قبل الخوض في تفاصيل الرواية ، إن مكان الاحداث هو مخيمات الفلسطيين في بيروت،  وبطبيعة الحال يكون المخيم دائمًا هو المكان القلق بشخوصه الذين  يحسون بالانفصال الكامل عن العالم الطبيعي الذي ينمو فيه الأمان الأقتصادي والاجتماعي بالانتماء إلى قوانينه العلمانيّة  التي تتخلص من العرقيّة والدينية والمناطقيّة حتى لو تحت مظلة القوانين التشريعية أو الدستورية على الورق فقط،

يقول تيم أحد شخوص الرواية:

” لا أبو ربيع بيفرقوا، بيفرقوا كثير كمان، صاحبك كمان، كمال ما غيروا مسؤول الكفاح المسلح على أيام الثورة، كلن يلطش حكي على بناتنا، قال شو بناتنا مثل بنات الحمرا بيلبسوا القصير والمزروق ويمشوا مه الشباب على طريق الدير ”

إذن ثمة خلاف  عقائدي ديني هنا بين أخوة القضية يكبر في حديث خطير  كما في هذا المقطع على لسان تيم أيضا:

” والله عمرهم ماعاشوا مثل عيلة واحدة، كانوا يشلحوا بعضهم على تنكة المي وعلى شبر الأرض، ما هي أرضهم، بينهشوا بلحم بعضهم مثل الذباب ”

في” عنوان الرابع من حزيران”  ننتقل إلى الحدث الأعظم الا وهو العدوان الاسرائيلي ضد دولة لبنان،

كما في هذا المقطع الذي يهيئ لقادم خطير:

” ويدرك البيروتيون أن الأمر أكثر من انتقام لسفير مات في لندن،

 

وتقصد هنا محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي ” “شلومو أرجوف”في  مدينة لندن عام ١٩٨٢ على يد ثلاثة أعضاء في منظمة أبي نضال الفلسطينيّة التي كان يتزعمها صبري البنا،

إن الاشارة إلى بيروت العاصمة في الأحداث تنقل  القارئ إلى استفهام كبير حول طبيعة حجم العدوان الذي تتضح آلياته وخطابه الممنهج من خلال الميليشيات المحليّة المتعاونة معه والداعمة لبطشه،

كما في حوار مريم في هذا المقطع:

“الجبناء هم هم في كلِّ حرب كالوطاويط لا يظهرون إلا في الظلام،

المسرحيّة هي ذاتها،  كأن للحرب طقوسًا ثابتة لا يجوز تجاوز أيّ حلقة من حلقاتها،  لا يهم إن كانت حربًا صغيرة أو كبيرة ”

أو في هذه المقاطع بالعامية التي تكشف نوازع الفرد ومحدوديته مهما يحاول أن يتجرد منها وينتمي إلى منظومات أخلاقيّة  تبحث عن الخلاص والعدل فقط بمعزل عن المسميات  العرقيّة والدينيّة حينما تواجه مريم المرأة العاديّة رجل الدين حامل رسالة الإله الذي لم يتخلص بعد من انتماءاته الأرضيّة الضيقة

“ما تصلي عليهم يا أبونا،

اطمروهم مثل الكلاب”

” يرضيك ماحصل يا أبونا؟ هذا اللي وصى فيه مسيحنا؟ ما لك  كلمة يابونا؟   مش إنت خادم رعيتنا؟ هيك بيخدم الخادم رعيته؟ ،ضل ساكت ما رفع عينه صوبي

” مالك ساكت قلت : يهود هذول؟ هم اللي صلبوا المسيح؟

إنتوا يللي جبتوه لحاكن،  دجاجة حفرت على رأسها عفريت، قال!

وتتحول المواجهة الانسانيّة إلى سؤال مرير يطرحه “عوض” على زوجته  قائلاً :

” حتى اليهود ما أذلونا بهذه القسوة،

أو في هذا المقطع باللهجة العاميّة:

” لو مسيحك كان عندو سلاح، ماكان قال: من ضربك على خدك الأيمن، أدر له الأيسر، ”

نحن ماهربنا يا ولدي،  الجيوش العربيّة التي وصلت فلسطين،  طلبت منّا،  اخلاء البلد لمدة أسبوعين أو ثلاثة حتى نسهّل حركتها ”

أما في فصل ” كان الرابع من حزيران”

فتقول الكاتبة:

” ضيوف بيروت يزدادون يومًا بعد يوم، جاءوا من الضواحي والمخيمات،  عائلات  وأفراد ميليشيات من مختلف التنظيمات… الناس في كلِّ مكان يملؤون المكاتب والبنوك والمساجد والكنائس والمدارس ومداخل البنايات ،أمست المدينة كخليّة نحل اعتدى عليها صبي أهوح فضّضع سكونها”،

 

وكأنّها تشير إلى  الطبيعة الانسانيّة التي تتّحد ببعضها من جديد حينما تواجه ذات المصير الواحد المحتوم  كالموت الذي لا يفرق بينهما، لكن فكرة الاتحاد والمقاومة لا تخلو من أصوات تجد بأن البقاء على قيد الحياة أهم الحقائق التي ينتمي لها الفرد بأن يكون ضمن عائلته الشخصيّة  وليس الأرض أو الوطن أو الثورة كما في هذا المقطع من الرواية:

” ويعجبك أن تموتوا كلكم وتتركوني وحدي، شو بدي بفلسطين لما كلكم تموتوا؟ يكفينا ما قدمناه ، هل الثورة لنا وحدنا؟؟

على عكس هذا الحوار ،نقرأ الحوار الذي يمجّد المقاومين  المنتميين  إلى مفهوم الثورة والقضيّة  بين شخصية “عامر” “و شخصية عوض”

: يا عمي عوض ، اسمح لي بهذه( قال عامر)

الجماعة بشهادة العدو قبل الصديق يستأسدون في الدفاع عن المدينة،  يواجهون جيش انهزمت قدامه كل جيوش العرب،  هم يردون جميل بيروت التي فتحت  أبوابها لهم وحضنتهم. ولو أن سلامتهم الشخصيّة وحدها هي الهدف،  لكانت القصة انتهت من أول يوم من أيام الاجتياح ”

يردّ عليه “عوض”  ساخرًا بقوله:

“هه!يقومون بواجبهم!يحمون هذا الشعب،  لا والله هم يحمون الا غرورهم وعنجيتهم،  غرورهم سيقتلنا كلنا!”

وفي فصل ” إنّه السادس من آب”

تعلن الكاتبة  إن مدينة بيروت كانت تمشي وحدها لموتها بلا معين مشبهة اياها بقصة صلب المسيح ورجوع طالبته المرأة المجدليّة بعد موته وحيدة بلا عزاء

كما في هذا المقطع:

” بدأ الحصار شهره الثالث وبيروت لاتزال تمشي درب جلجلتها. مامسحت مجدليّة حبيبها المنهك وأساها سمعان بصمت”

كذلك في فصل” وصمت خليل”

وهي اشارة إلى انتحار الشاعر خليل حاوي الذي أحسّ بعجزه أمام فعل الاحتلال الاسرائيلي المُذل لبلده لبنان،  فقرّر أن يُنهي حياته بفعل الانتحار ليوازي فعل عدوه بالقوة .

ثم تُنهي الكاتبة روايتها بفصول :

“كوكب”

“رندّة تقاضي ولدها الشهيد”

“كوكب تناجي زوجها الشهيد”

“بقع فوق أفكار نعمان”

“عامر تجربة الغربة”

 

وكلها تنويعات دراميّة لشخصيات حقيقيّة تنتمي لتاريخ المقاومة الفلسطينيّة،سواءً الذين ضحوا بأنفسهم وتركوا خلفهم أولادهم وزواجتهم بيد المجهول، أو الذين هاجروا للبحث عن حياة بديلة لم تستطع أن تلغي لديهم  الانتماء الأول،والدهشة الأولى اللتين تحاصرهما بأسئلة تستدعي منهم نبش الماضي الذي يختفي عن العين لكنه لا يغادر العقل والروح مثل وشم لا ينمحي،

وفي هذا الفصل المؤلم “يوم رحلت أم جهاد”

نتعرف على مذبحتي “صبرا وشاتيلا”

اللتين راح ضحيتهما عددا كبيرًا من المدنيين   الفلسطينيين الأبرياء أمام أنظار العالم أجمع ليصمت بعد ذلك خجلاً  ،

تصف الكاتبة الحدث هكذا بجملتين مختصرتين بليغتين وحادتين كالطعنات الصامتة التي تنغرس بعيدًا في الوجدان الحي للتعبير عنه:

” قتلوا كل أهل شاتيلا! ذبحوهم مثل الغنم.. الناس ممدّدة في الطرقات،  الجثث فوق بعضها البعض!

” أمام مدخل بناية الزهر في شارع عبد النور،  تجمع زمرة من الرجال،  عقد الذهول ألسنتهم  وتشمعت وجوههم،  فخلت من أية تعابير حتى الخوف كان قد فارقها”

وعندما لم يزهر الربيع ويلتحق بما سبقه، يزهر أحيانًا الخريف كما في نهاية الرواية ” في فصل “خريف يزهر” :

” أقدم شاب عادي الملامح والقسمات. لاتميزّه اية علامة فارقة على اطلاق النار على ضابطين إسرائيليين كانا  يحتسيان القهوة في مقهى

” الومبي” في شارع الحمرا، مكتب التحرير في خبر جديد…وضاع بين الحشود…أقدم وضاع…وضا…و…و…”

هذه الرواية تعلن بمهارة وذكاء عن ضحاياها المنسيين من شهداء المخيمات الفلسطينيّة في لبنان قبل أربعين سنة تقريبَا ، تنقل لنا الحدث بهدوء دون ضجيح أوثرثرة أو شعارات، أو أمجاد، أو ثأر ،

لا نجد فيها الخطابات الرنانّة أو الانشاء البلاغي ولا حتى المجاز اللغوي الكاذب الذي يحاول أن يبتكر تفسيرات مختلقة ليبتعد عن واقع الحقيقة المأساوية الوحيدة لآثار كلها تقود إلى طريق المذبحة..

 

شارك مع أصدقائك