جمالية الطرح الإنساني في الأدب النثري
كتاب ( قالت لي الفراشات ) للكاتبة ميادة مهنا سليمان أنموذجا
. بقلم : الناقد الاكاديمي محمد كتوب المياحي – العراق –
الأدب النثري نتاج كتابي فني يقوم على انتخاب ألفاظ تتسم بالرصانة والجمالية في آن واحد , تسعى من خلال سبك العبارة بدقة لتحقيق هدفاً أو غرضاً أو فكرة بأسلوب موجه إلى متلقي . وما ينماز به الأسلوب النثري الأدبي الاهتمام بنظام الجملة بحيث يكون أكثر تأثيراً في ذائقة القارئ , من خلال انتقاء الكلمات المناسبة للمعنى المتوخى , وقد زخِر الأدب العربي بعديد من نماذج هذا الأدب منها المقالة , والمقامة و والأمثال , و الحكم …الخ . تأسيساً على ما ذُكِر جسد كتاب ( قالت لي الفراشات) للكاتبة السورية (ميادة مهنا سليمان ) هذا الطرح , معتمدة بذلك على مناسبة المعنى مع جمالية نسج العبارات , والتي اتخذت من نظرية ( الفن من أجل الحياة) التي دعا إليها ارسطو الهدف الأسمى . تنوعت مضامين هذا الكتاب وموضوعاته ؛ وبسبب هذا الكم من التنوع , انتخبت هذه القراءة ثيمة (الجنبة الانسانية) في هذا المنجز ؛ بوصفها الأشد تعالق مع الحياة . ومن المضامين التي أرهقت خلجات الكاتبة هي صفاء السريرية , وضرورة تخلي الذات البشرية عن كل معاني القبح وشرور النفس , فالنفس عند الاديبة تنمو وتسمو بندى المحبة وتبني كل ما يحقق للإنسان انسانية الحقة , تقول في مقطع : ((ليكن ظمؤك إلى الطهر والنقاء لذا بلل قلبك بالمحبة قبل أن تبل ريقك بالماء )) . فمع أن الماء سر الحياة , لكن صاحبة النص ترى النقاء والصفاء من حيث القيمة المعنوية هي الأهم والأولى , فالطهر والنقاء يفوق من حيث الأولية الماء , فالحياة الحقة عندها حياة الروح وليس الجسد . ومن الالتفاتات الجميلة في هذا الكتاب, قناعة المبدعة بأنّ كل الدساتير والأنظمة بما تحتوي من جزئيات لا تمثل كفة رجحان ما لم تحقق الجنبة الانسانية التي تسعى وتهدف إلى نشر الفضيلة والرحمة بين الناس , فالأنظمة التي تحكم البشر يجب أن تستقي مشروعيتها من الرحمة والعطف والمحبة , وهذا ما جسده النص : (( كل قانون لا تتساوى معه كفة الانسانية فهو باطل )). لم تغفل صاحب المنجز الغوص في أعماق الذات , والكشف عن انسانية الروح , وضرورة التحلي بالتسامح وخلق جو من التفاعل بين وجودها وسعادتها , مع وجود جنبات الحرمان , وحتى وإن لم تحصل النفس على عطاء من الآخرين , مع هذا يجب أن تصنع لذاتها كيان يخلق السعادة من تلقاء نفسه , تقول : ((دلل نفسك فالهدايا الجميلة التي لم يهدك إياها أحد بإمكانك أن تهديها أنت … لنفسك)). و لتمثيلات المرأة حضور في هذا في هذا المنجز الأدبي ؛ والسبب أن المرأة الكيان الأسمى في الحياة ؛ بوصفها نبض الكون وغذائه الروحي , وهي مدرسة الوجود التي يتخرج منها مُنْتَج الحياة برمته , فلم تغفل صاحبة النص هذه الثيمة العظيمة , ولكونها في نظر الكاتبة كتلة من عواطف ومشاعر حاولت أن تسلط الضوء على أهم صفاتها , فالمرأة عالم متكامل يتكأ على ( المحبة الطاهرة والنقية) , من هنا كان عطائها عطاء لا ينقطع , عطاء دون مقابل , وفي الوقت ذاته لا تحتاج المرأة مع هذه التضحية الكبرى سوى قدر من الاحترام والمحبة وتعزيز كيانها الشفاف , من هنا ورد هذا المقطع : (( تحب الأنثى الرجل الذي يجيد قراءة قلبها… بعد أن يشرب بُنّ عينيها تحب الانثى الرجل الذي يحفظ عن ظهر قلب حركاتها , ويطرب لضحكتها , ورقة كلماتها)). ومن أجمل ما ورد من نصوص ( قالت لي الفراشات ) , عدم إغفال من يقف حجر عثرة أمام المعاني الانسانية , أولئك السلبيون في الحياة , والذين يبثون سمومهم في رحم الإنسانية لغرض أو مرض , والتي عبر عنهم النص ( الحمقى , و السفلة , و والمتجاهلون للذات والاخر…الخ) , فالتحامق والسلوك الأرعن وغير المدروس في نظر الكاتبة سبباً من أسباب يقظة الحقد , والتغافل العواطف الجميلة , و قد يكون عاملاً من عوامل تصحّر القلب , فالتفاعل و تبادل كلمات الحب الصادق والحقيقي كالماء الذي يسقي مروج الحياة فتنمو أزهارها ويفوح عبقها , ولم تغفل الأديبة ( ميادة مهنا ) الرسول الباطني للذات إلا وهو ( الضمير الانساني , والصدى المدوي ) ؛ لأنّه سبيل إصلاح الفرد وسر تحليه بالجانب الانساني , تقول في أجمل نصوص الكتاب : (( تجاهلوا الحمقى والسفلة فرب لا مبالاة كانت نارا تؤجج غيظهم لا تتجاهلوا المشاعر النبيلة فرب كلمة مروية بالحب ازدهرت في قلب يابس لا تتجاهلوا صراخ ضمائركم قوّموا اعوجاج أخلاقكم فذات ندامة سيستقيم نبض قلوبكم )). ومن الموضوعات التي باتت تشكل معولا يهدم موضوع كيان المرأة حينما تجهل حقيقتها , فكانت رؤية الكاتبة أنّ الجوهر الحقيقي لنقاء ذات المرأة , ولا علاقة بين الجمال المشوه الزائف وبين جمال الروح , فالقيمة الحقيقية لسمو النساء نسبية التفاتها للجمال الباطني ( العفة والشرف و حسن السريرة والدور المناط بها اتجاه الحياة) ؛ كونّها سر بناء الحياة والمجتمع , وترى صاحبة النص تجلي مصداق التشكل الانساني عند المرأة في البراءة ؛ فلا أنوثة ذات نور انساني إلا بالبراءة , تقول : ((تجاهلوا تبرج النساء المزيف فلا العدسات الملونة ولا الخدود المحقونة ولا اظافر الساحرات تجعلهن إناثا جميلات الجمال عطر روحي والأنوثة براءة , ثم براءة , ثم براءة)) . مزجت الأديبة الجانب التربوي بالجانب الانساني , فشخّصت مفاصل متعلقة بأهم بناء حياتي , بل يعد البنية الأولى للحياة , ألا وهي العائلة , لتقف بعد ذلك على سر بنائها , ( الأب , الابن , الأم) هذه الأركان التي إذا ما صلُحت صلح المجتمع , من هنا حاولت صاحبة الكتاب توضح طبيعة سلوك مع هولاء , وأن لا يعطى للجانب المادي جلّ الاهتمام فهنالك متكآت غير مادية يجب أن يلتفت لها؛ بسبب ما تملك من أثر و دور في الصلاح والاصلاح وزرع روح المحبة والوئام بين أفراد الاسرة الواحدة , وهذا ما نراه في هذا المقطع : (( وفروا لأولادكم وقتاً لا مالا فان رصيدكم الكبير هو اهتمامكم فقط حين يصبح لديك اولاد ستدرك عظمة أومر والديك الأب قبلة الأمان وبوصلة الهدى الأم جنة الدنيا وكوثر الفرج)) يعد كتاب ( قالت لي الفراشات) , كتاباً ثراً بالمضامين المرتبة بالحياة المعيشة , وقد أجادت الأديبة ( ميادة مهنا سلمان) حينما أنجزت هذا الكتاب الذي شخّصتْ وعالجتْ حيثيات متنوعة يعاني منها مجتمعنا العربي بأسلوب يتأخذ من (الحكمة) الطابع الأسس في الايطار العام من خلال التوليف بين جمالية الطرح وعمق البنية الموضوعية .