وديع شامخ يلتقط لحظاتنا الهاربة
الشاعر وديع شامخ وحكاية مصوّر شمسي
إصداره الجديد في عالم الشعر
وديع شامخ
*- العنوان هو أحد الوحدات المهمَّة لتكوين الرؤيا حول التجربة كاملة أو لنقل مفتاحها الأول
*- مجموعتي اعتمدت على الصراع الدرامي في بناء المشهد فقد صارت الجملة الطويلة ملمحاً غالبا
*- الأشكال الجديدة والتقنيات والأساليب ما هي إلَّا عصا بريد يتناوب عليها الفاعلون لإتمام دورة النص
*- الذي يشغلني دائماً هاجس عدم تكرار البدايات، هاجس الخطوة النوعيَّة القادمة،
*- كتبتُ تجربة إيروتيكيَّة بشكل فلسفي عميق. تعتمد الجسد كجدار للكتابة عليه.. وليس لابتذاله
هذه المدينة التي استفاقت من حلمها
وجدت أسوارها معرَّشة بالمكائد
صف خرسانة.. على كتف حجارة
الحديث سال على خضرة المدينة.. فضح أسرارها
ونبت على شجرة بسمتها غوغاء الرواية..
تدور عين الشاعر وديع شامخ في أماكن البصرة وبعض المدن العراقية الأخرى ليدوِّن فيها مشاهداته السينمائيَّة، لكن هذه المرَّة بآلة تصوير قديمة، يدخل رأسه في القماشة التي تخرج من رأسها كشعر فاتنة أسود وطويل. بين لقطة وثانية، يقف شامخ ليصف ما يراه، بدقَّة متناهية، وكأنَّه يعيد رسم المكان واللحظة قبل هروبها، فيبني عوالمه التي عنونها بـ : أقنعة، تفاصيل دقيقة، سوق الغجر، صور تتعرَّى، ساق واحدة ربَّما تكفي، حفنة ثلج تحت ياقة صيف، وغيرها من العوالم التي ضمَّتها مجموعته الجديدة (مصوّر شمسي) الصادرة مؤخراً عن دار ميزوبوتاميا ببغداد.
يطرح شامخ رؤيته في اختيار عنوان مميَّز لمجموعته (مصوّر شمسي) وما الذي أراد أن يقوله من هذا العنوان، قائلاً إنَّه لا شكَّ أن العنوان هو أحد الوحدات المهمَّة لتكوين الرؤيا حول التجربة كاملة أو لنقل مفتاحها الأول، ولا يريد شامخ أن يدخل نفسه في جماليَّة العنونة بوصفها “ثريا النص”؛ حسب قوله، لكنَّه يقف عند محنته مع عنوان هذه المجموعة على عكس تجاربه السابقة، ” لقد أبدلت العنوان مراراً حتى اخترت أخيراً (مصوّر شمسي) الذي حمل عنوان النص الخاتمة، لأنَّني اقتنعت بأنَّني أريد إيقاف الزمن في لحظة عارية وتحت الشمس، فاخترت هذه الآلة الغريبة والقديمة الآيلة للانقراض، إن لم تنقرض حقَّاً، في محاولة لإحيائها بهذا العنوان.. فمصوّر شمسي شاهد صامت على بؤس الحياة وتجاعيدها على الهواء الطلق، وربَّما كان للمصوّر الشمسي في البصرة وصوري القديمة مروراً بآخر مصوّر شمسي في الباب المعظم تحت الجسر الحديدي، هو ما أثار في نفسي شهوة العودة إليه ثانية”.
عدسة سينمائية
في أغلب نصوص المجموعة يلاحظ أن عين وديع شامخ تتحرَّك كعدسة سينمائية حول المكان، ساعياً لتصويره كمن يكتب سيناريو لحياتنا اليوميَّة.. مبيِّناً ذلك في حديثه لنا أنَّه لم يعد الفصل بين أنهار الفنون وارداً لإنتاج نص يتنفَّس الحوار الصحي مع كلِّ الممكنات المتاحة، ولعلَّ في السينما “الفن السابع” من التقنيات الكثيرة التي ينهل منها الكاتب.. تجربة العين السينمائية ليست غائبة عن اشتغال شامخ العام، ولعلَّ تجربته السرديَّة في روايته “العودة إلى البيت” اعتمدت على تقنية كاميرا الحدث والمونتير معاً، وربَّما لأنَّ هذه المجموعة جاءت بعد الرواية تماماً فقد “بقيت احتفظ بنبض السينما لتنفيذ المشهد الشعري، كما أن وجود مصوّر شمسي اقتضى وجود مشهد لتصويره.. التداخل الحاد لالتقاط التفاصيل وعنونتها بشكل دقيق يحتاج إلى هذا الحس السينمائي في بناء المشهد”.
تقنيات وأساليب
أصدر شامخ منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن عدداً من الكتب الشعريَّة، منها (ما يقوله التاج للهدهد) ورواية واحدة بعنوان (العودة إلى البيت)، غير أنَّه لم يتوقَّف عند هذين الكتابين، بل استمرَّ في مشاريعه، فمن وجهة نظرة لا وجود لزمن آسن في حياتنا، نحن نسابق الحياة لتدوين أرواحنا على طرسها، والكتابة فعل ضد الموت.. “الذي يشغلني دائماً هاجس عدم تكرار البدايات، هاجس الخطوة النوعيَّة القادمة، وأنا لست بحالم كي تهبط عليَّ من الآلهة معجزة، أنا جادٌّ ودؤوب ولديَّ مشروع شخصي يتلخَّص بأنِّي سأظلُّ أكتب بشكل يحافظ على نقاوة وصفاء الجنس الإبداعي من دون هبوط إلى قرار أو تحديق في فراغ”.
أما عن خطوات شامخ القادمة فهي متشعِّبة في التحقيق، بدءاً سوف يصدر له عن دار ميزوبوتاميا ببغداد كتاب بعنوان “سجناء الفكر في العراق الحديث… أوراق نوئيل رسام من خلف قضبان الحكم الملكي”، وهو تحقيق وتقديم، مبيِّناً أن هذا الكتاب يمثِّل تجربته الأولى ومغامرته في دهاليز التحقيق لرسائل سياسي عراقي أبان الحكم الملكي.. تجربة أدخلته في صميم الحياة العراقية السياسية الملتبسة دائماً، موضحاً أنَّه ربَّما يشكل لمسة شاعر على أجواء “التحقيق” الصارمة.
أما في الشعر فهناك تجربة مغايرة تماماً (إيروتيكيَّة)، ولكن بشكل فلسفي عميق. تعتمد الجسد كجدار للكتابة عليه.. وليس لابتذاله.. الشعر هو الجسد والروح معاً، هذه التجربة الجديدة ستصدر في كتاب بعنوان “شهوات الكائن الوديع” “إذ رفعت الشهوة من دركها الاستعمالي اليومي إلى مصاف اللذَّة الإنسانيَّة العارمة في الكون والكائنات”. في حين سينجز شامخ له في مجال الرواية عملاً جديداً بعنوان “شارع الوطن”، وهي رواية ترصد حركة المدينة– البصرة من خلال شارعها الحيوي “شارع الوطن”.
ويضيف شامخ وهو يتحدَّث عن أساليبه، أنَّه غير مغرم تماماً بابتكار أساليب وتقنيات جديدة وتسجيلها (ماركة) لصالحه.. لأنَّه يعتقد أن الأسلوب ليس هو الرجل؛ كما قيل، ولا الشكل الإبداعي هو نتاج شخص.. “إنَّ الأشكال الجديدة والتقنيات والأساليب ما هي إلَّا (عصا بريد) يتناوب عليها الفاعلون لإتمام دورة النص، كلٌّ حسب رؤيته واجتهاده، كما أنَّ الأشكال حصيلة نتاج تراكم زمني وعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية… الخ، فلا وجود لنص بكر أو فطري، وأنا أفتخر بكلِّ آبائي”.
قارئ هذه المجموعة يرى ان الجملة الطويلة كانت حاضرة بقوَّة فيها، وكأن شامخ يريد ان يقول كل شيء مرة واحدة فاوضح لنا”الجملة هي نتاج علاقات لغويَّة في النص وليس تشريعاً مقدَّساً ، فليس طولها او قصرها هو ما يحدد أهمية النص او خلاصته، واعتقد أنَّ ” مصوّر شمسي ” حمل الكثير من التنويع في بناء النصوص حسب ما تقتضيه اللحظة الشعريَّة وبوحها، رغم أنَّ الصنعة كانت حاضرة في التشذيب والتعديل والقص والحذف.
ولأنَّ مجموعتي اعتمدت على الصراع الدرامي في بناء المشهد فقد صارت الجملة الطويلة ملمحاً غالبا كما قلت تماماً”.