بين الذات والذاكرة دراسة نقدية تحليلية لرواية “عائد إلى قبري”
للمبدعة : زكية علال
د. نجلاء نصير

تُعد رواية *”عائد إلى قبري”* نصًا سرديًا حداثيًا يبحر في الذات والذاكرة، ويعيد تشكيل مفاهيم الحياة والموت والهوية من خلال استبطان عميق للذات الجمعية والفردية. الكاتبة زكية علال تنسج عبر لغة شعرية وتأملات فلسفية سردًا متشابكًا يعبّر عن انكسارات جيل بكامله، محوّلاً تجربة الفقد إلى تأمل وجودي عميق. فالعنوان يجمع بين
لاختزال: العنوان مكثف ومشحون بالمعاني رغم قصره، وهذا سمة بارزة في العناوين الأدبية القوية.
الغموض: لا يحدد العنوان سبب العودة أو زمنها، مما يخلق توترًا لدى القارئ ويدفعه لاكتشاف التفاصيل داخل النص.
المفارقة: كيف يعود حيٌّ إلى قبره؟ هذه المفارقة تفتح باب التأويل الواسع على المستويين النفسي والفكري.
فالعنوان يضع القارئ منذ اللحظة الأولى أمام مفارقة قاتمة: عودة إلى الموت طوعًا، لا فرارًا منه.
كما يعكس حالة الانكسار الوجودي، حيث يجد الإنسان نفسه في مواجهة القبر كأكثر مكان يمنحه سلامًا أو وضوحًا.
يمكن اعتبار العنوان انعكاسًا لحالة “ما بعد الصدمة”، حيث يتقاطع الذاتي مع الجمعي، والماضي مع الحاضر.
فالبعد الرمزي يتجلى في العنوا ن
1- الموت كوعي وليس نهاية:
العنوان يقدّم القبر كمكان يُعود إليه بوعي، لا يُساق إليه بالموت فقط. هو قرار عودة، لا قدر موت، مما يجعله يحمل بعدًا فلسفيًا وجوديًا حول معنى الموت والهوية والانتماء.
2- العودة إلى الأصل:
القبر يُستخدم كرمز للعودة إلى الذات، أو إلى الجذور، أو حتى إلى الحقيقة العارية التي لا يمكن الهروب منها. في هذا السياق، العنوان يوحي بأن الراوي عائد إلى ماضيه، إلى هويته المنسية، وربما إلى وطنٍ فقده روحيًا.
3- الرفض للواقع:
أن يعود الإنسان إلى “قبره” يعني أنه لم يجد حياة حقيقية خارج هذا القبر. إذًا، القبر هنا لا يرمز فقط للموت، بل يرمز لليأس، للخذلان، وربما لفقدان المعنى في الحياة الحالية والغربة الزمانية والمكانية .
ومن خلال التحليل المنهجي لجماليات النص نرصد :
أولاً: البنية السردية والأسلوب
ترتكز الرواية على السرد الذاتي بضمير المتكلم، حيث يصبح السارد جزءًا من التجربة ومن النص ،كما يعتمد الأسلوب على لغة مجازية شعرية، مشحونة بالعاطفة والرمزية، مما يعكس اضطراب البطل الداخلي. تغيب الحبكة التقليدية لصالح تشظي زمني يعكس تشظي الوعي.
ثانياً: تحليل الحبكةالحبكة في الرواية قائمة على بنية دائرية تأملية تبدأ وتنتهي في القبر – رمز العودة والبحث عن الذات. لا تُبنى الحبكة على الأحداث بل على الانفعالات والتحولات النفسية.
ثالثاً: تحليل الشخصيات
▪️ (الراوي (الابن : الشخصية المركزية. يعيش تمزقًا داخليًا، ويمثل الإنسان العربي المهزوم بعد الحرب
▪️ الأب: رمز للوطن والكرامة، حضوره الأخلاقي كثيف رغم غيابه الجسدي.
▪️ الأم: تجسيد للأمل والصمود.
▪️ القرية: كيان جمعي يعكس التحول الاجتماعي وفقدان الهوية.
رابعاً: الزمان
الزمن غير خطي، قائم على التداعي والتذكر عبر تيار الوعي . يتداخل فيه الحاضر والماضي بشكل غير زمني، مما يمنح السرد طابعًا نفسيًا وفلسفيًا.
خامساً: المكان
▪️ القبر: مركز رمزي للعودة.
▪️ القرية: تمثل الوطن الضائع.
▪️ المدينة/المنفى: ترمز للضياع والاغتراب.
سادساً: الرمزية
▪️ الرأس المفقود: فقدان القيادة والعقل.
▪️ الأحجار: طقس للتطهير وطقس للثورة المكبوتة.
▪️ القبر: دائرة الحياة والموت.
▪️ الأم: رمز للأصل والصمود والحنان.
سابعاً: تحليل النهاية
النهاية مفتوحة ودائرية تعود بالقارئ إلى القبر، حيث يجد السارد نفسه في مواجهة الحقيقة الكبرى. لا عودة بل تأمل واعتراف. حيث تنتهي الرواية في نقطة الصفر، حيث يعود السارد إلى القبر – ليس ليستعيد شيئًا ماديًا، بل ليواجه الحقيقة:
أن لا شيء يُستعاد بالكامل.
أن الوطن يمكن أن يُفقد أكثر من مرة.
أن الأب رغم غيابه، بقي في الوجدان، وأن الرأس الغائب يختصر ما غاب من ضمير الأمة.
فالنهاية مفتوحة، صادمة، وجودية
ومجمل القول إن :رواية عائد إلى قبري”* ليست حكاية تقليدية بل صرخة وجودية، تقدم لغة مكثفة وتجربة إنسانية عميقة. نص شعري الطابع، فلسفي المضمون، يرسم خريطة ألم مشترك في وجه فقدٍ جماعي.