في سرديات الحلم
**
كيف نفسّر الحلم في النص القصصي والروائي ؟
ما هي مرجعياتنا في تأويل الأحلام ؟
وضعتُ 9 احتمالات يلجأ اليها الكاتب في كتابة
نص الحلم. ربما هي موجّهات حالمة في ضبط النص..
**
هذا النص :
في سرديات الأحلام
….
الحلم:
” حلمتُ بأن معطفي قد سُرق في سوق شعبي. كنتُ أضعهُ على كتفي وفجأة اختفى. لم أستطع تحديد السارق الذي خطفه بخفّة عجيبة؛ لكنني رأيتُ زوجتي قريبة من الحادث من دون أن تعير اهتماماً. لم تكن في وجهها ملامح واضحة. توارت عني وأنا في خضم الدهشة لسرقة المعطف من على كتفي. كنت أشعر بالقلق لأن في جيب المعطف الداخلي جواز سفري وهويتي الشخصية.. الخ”
(1) هذا مقترحُ مدخلٍ لقصة افتراضية، أو رواية تُشوى على نار حلم أو أحلام متواصلة في الفجر أو بعده بقليل. تلك النار البسيطة أو المعقدة التي تتداخل فيها الأزمان والأمكنة والشخصيات على نحوٍ غريب. يمكن من هذه الفرضية الأدبية أن يُنسج منها نص إبداعي مؤثر. أو يتكون نص بحثي يتولى تقديم المعلومة العلمية- الطبية. وضعناه على شكل حلم يحدث أو مثله أو لا يحدث، لكي لا نكون ملزمين بالتفسير الواقعي المحض؛ فكل خيال فائق وجامح وغير منطقي يمكن أن يحدث في الأحلام الشخصية ولا زمن في أفقية الحلم ولا في عموديته. لهذا نرى أن الأحلام شخصية- فردية، عمّمها المفسرون بهذه الطريقة أو تلك. إذ لا توجد أحلام جماعية في الواقع.
(2) في الحلم ينتفي الزمن ويموت في لقطات متسارعة ومتداخلة مع بعضها قد لا تشبه بعضها. حتى المكان يتداخل ببعضه ويصبح مزيجاً من الأمكنة أو اللا أمكنة، أو حالة عائمة من الزمن والمكان في توليفة عجائبية ليس لها توصيف دقيق. أو لسنا على دراية كافية بصيرورتها وأسبابها. إذ أن الأحلام والكوابيس هي ارتدادات من الواقع ومعالجات نفسية كثيرة التعقيد. لا تظهر إلا بهذه الطريقة العجائبية.
(3) المرء ليس مسؤولاً عن أحلامه وتداعيات بواطنه. الحلم ليس مثل الخيال؛ فهذا الأخير استدعاء تصوري باطني لا يظهر كثيراً. أو لا يظهر دائماً. أما الحلم فهو أكبر من خيال. يتم فيه استدعاء العقل الباطني، وتضخيم رغباته المحبوسة. وتوثيق معطياته الباطنية بطريقة سريعة لا تستغرق إلا رفيف الأجفان لثوانٍ معدودات. مع أن كليهما (الحلم والخيال) فرديان بصورة مطلقة.
الزمن الحلمي قد يطوي أزماناً متتابعة عند شخصية الحالم، في رؤيا لا تظهر في الواقع وقد تمثله أو لا تمثله، أو تستعين بمعطياته واقعاً ماضياً، أو آخر سيأتي بطريقة الحلم أو بغيرها. قد يختزل النص فيها؛ في اليقظة؛ وقائع ثانوية، هامشية، غريبة، غير واقعية. أكثر وقْعاً من الخيال الذي يتحكم الإنسان فيه في يقظته المعتادة. وإذا كانت سرديات الأحلام سائبة، فأن نصوص الأحلام تنظّمها فنياً، لتصبح إحدى زوايا الرصد الواقعي وخياله الجامح.
(4) الحلم وفرديته لا قِبَل للحالم عليه. فهو يأتي قسراً، بينما الخيال طواعية. ومصدراهما لا يتشابهان؛ لكنّ للنصوص الأدبية إجراءاتها وخيالها الفني في استثمار هذه الثيمة الحلمية الى عمل أدبي أو بحثي علمي شارح، ليس ضرورةً أن يكون واقعياً قد حدث بهذه السرعة والبساطة، لكن النصوص لا تحفل كثيراً بهذه الإجراءات الواقعية. بل تميل الى ما يعاكسها لتحقق قوتها في أن تكون نصوصاً ذات قيمة ابداعية. وحتى يكون قصة قصيرة أو مشروع رواية تُشوى على نار الحلم الافتراضي المختصر الذي وضعناه في المقدمة، لذا نقترح على المؤلف الافتراضي ؛ مع هذه الفكرة الافتراضية؛ مراعاة واستيعاب وفهم ما يلي:
أولاً: تطويع المأثورات الدينية والشعبية والفولكلورية والتفسيرية بما هو سائد في المجتمع من موروثات وخيالات جمعية وتفسيرات دارجة. فمثلاً يقال أن الأحلام هي إشارات سماوية للحالم، مثلما هي انعكاسات جزئية من الواقع. تماشياً مع نظرية سيجموند فرويد التي ترى بأن الأحلام تنعكس فيها رغبات العقل اللا واعي للشخص الحالم. أي تحقيق رغبات مخزونة غير ظاهرة، فتعوّض الأحلام عنها، أو تعمل على إبرازها في الثواني القليلة من الحلم. وذلك الاستثمار يختزل به النص الأدبي الواقع وجريانه الاجتماعي والسياسية والديني وغيرها من الثوابت الثقافية الدارجة في هذا المجتمع أو ذاك.
ثانياً: تختمر الأحلام عادةً في أول الفجر قبل الصحو كما هو معروف طبياً. ولا تستغرق من الحالم سوى بضع ثوان، حتى لو كانت طويلة لأنها خارج إرادة الحالم. وفي تلك الثواني غير المنتظمة بزمن ينبني النص على هذه المسافة المتفاعلة مع الإبصار الداخلي للحالم. وفي هذا التسارع يخفف النص من فاعليته السردية، ليرى ما حوله من استجابات باطنية، وعلى ضوئها يقرر شكله الفني. وفي ضوء هذا نعتقد بأن النص الحلمي يجاور الخيال ويتخطاه. فالخيال يتمدد مع الزمن أو يتوقف فيه، بينما الحلم لا زمني. لهذا فسرديات الأحلام مشوبة بالمغامرة النصية، إذ يتوجب إحكام السيطرة عليها، وتفريق أحداثها وحوادثها على زمنية اجتماعية أو سياسية مقصودة.
ثالثاً: في المأثورات الشعبية: قص حلمك بالمراحيض لكي يبطل مفعوله إن خرج في الحلم دم. علمياً أن هذا غير صحيح، وليس ثمة علاقة بين الرؤيا الشبحية والمكان الموصوف بالنجاسة. لكن السرد القصصي يحتاج الى هذه الخرافة القروية لتطعيم النص بجماليات شعبية. كما يحتاج الى رؤيا خارجية تندغم مع الموروث لتخرج بخيال قد يكون مألوفاً في هذا المجتمع أو ذاك. وهو خيال يُماشي النزعة الشعبية حينما تتقمص شيئاً من الوهم، على أساس أن رؤية الدماء غير محبّذة. تبعث على التشاؤم. وفيها طاقة سلبية تؤثر على الحالم بها.
نرى أن الحلم جزءٌ من الخيال. بل أكثر تعقيداً منه.
رابعاً: دراسة تاريخ الأحلام، قديماً وحديثاً، من ابن سيرين وابن شاهين الى سيجموند فرويد وكارل يونغ. وغيرهم من عتاة القدامى والمحدثين، وصولاً الى مفسري ما بعد الحداثة الاجتماعية والنفسية. لنقف على سريات كثيرة في باطن الإنسان تقذفها أحلام الفجر، أي تنتزعها من العقل الباطن ولا وعي الإنسان، متجسدة بصورة حركية أكثر سرعة من الواقع الفعلي.
خامساً: الأحلام ليست أمراضاً نفسية وطبية وبيولوجية، بقدر ما هي انعكاس لوقائع مخزونة بخلفيات اجتماعية متداخلة، تُختزن في اللا وعي الإنساني وتظهر لحاجة غير مُلزمة. لهذا كثراً ما ننسى الأحلام. وحتى تذكُّرها يُعد أمراً في غاية الصعوبة. كأنما خرجت من الذاكرة واكتفت بالرؤيا. وذلك النسيان وُجد قدرياً لتوازن عقلي محض بأن لا تكون الأطياف والرؤى إشغالات اجتماعية أو نفسية كثيرة الوطأة على الحالم بها.
إنها رسائل من المجهول.
سادساً: يأتي بعض المستقبل بمثل تلك الرؤى الحالمة. لا نقول أن الحلم يستعرض الزمن المقبل، لكنه يلمّح الى شرائح آتية منه بطريقة غامضة، لا يمكن ضبطها تماماً، لهذا فأن بعض الناس يتطيرون من الأحلام، ويعدّونها نوعاً من استمكان شيء من الحياة فيهم. وعدد غير قليل من الحالمين يرون في الحلم (حادثة) ستقع، لهذا يذهبون الى الخرافة الشعبية ويفسرونها بما هو قريب أو متقارب من الواقع. وقد يشوش الحلم على حالمهِ بأن يجعله مستفزاً على مدار أيام تالية، لاسيما من القرويين الذين يرتبطون بالماضي الشعبي ارتباطاً وثيقاً، بعكس المدينيين الذين لا يأبهون للأحلام كثيراً، مفسرين تراكم الأحلام والكوابيس بسبب المشاغل والمتاعب اليومية التي يعانون منها.
سابعاً: في السيرة القرآنية الطويلة، نجد عند النبيّيَن يعقوب ويوسف إلهامات سماوية. لكنهما ليسا مفسرَي أحلام بالمعنى المباشر، انما ليقررا بعض الرؤى، فالإلهام النفسي والروحي والصوفي أيضاً هو من مخرجات سماوية عليا، تمتّع بها الأنبياء من دون غيرهم من البشر. فالنبي يعقوب فسر رؤيا معنى قميص يوسف بالدم الكذب، ويوسف فسر أحلام رجلين كانا معه في الزنزانة، ومن ثم فسر أحلام فرعون. لكنهما لم يطرحا وجودهما النبوي كمفسرَي أحلام، انما كانا ضمن دائرة سماوية مكلفَيْن بإيصال رسالة اجتماعية ونبوية الى المجتمع.
ثامناً: لا بداية للحلم. كل بداياته المفترضة تتعاقد في ما بينها، لتشكّل المشهد الحلمي. وهو مشهد لا علاقة له بالجغرافية فهي مشتتة. والتاريخ فما هو خارج اليقظة لا معنى له. والمكان سريالي في كثير من الأحيان. والزمن سائب لا علاقة له بالمكان والتاريخ والجغرافية. إنه صورة من صور الماضي لكن ليس كما وقع. أو صورة مشوشة للمستقبل. الحاضر. المشهد بتكوينه غير المنتظم نوم وطيف وثوانٍ معدودات. فهل النوم هو يقظة الحلم أم الحلم هو يقظة النوم؟
تاسعاً : الحلم ليس فناً، كونه خارجاً من دهليز نفسي وخازنة روحية غير معروفة بالتمام والكمال، لذلك فهو نص داخلي. فردي. غير أن النص الذي يُكتب في ما بعد هو دليل فني على معالجة الحلم ابداعياً.
النص الإشكالي هو ما خرج عن توصيف الحلم، وجعل من حلمه أيقونة شخصية به.
عقل النص.. مواجهات الواقع والخيال
هذه الفقرات الست ليست دليلاً لمعالجة كتابة قصة قصيرة أو رواية مفترضة أو بحث ميداني أو نظري، بناء على المقطع الحُلمي- الخيالي وتفسيراته والوقوف عنده شرحاً ورؤية داخلية. لكنها قد تكون دليلاً أيضاً لإغناء النص الأدبي والبحثي بما يجوز لنا أن نمنح له طاقة شعبية وخيالية وحُلمية، فالحلم يدخل في تضاعيف الكثير من النصوص وضبط شكلها الفني في التمويه والإحلال والتأويل والخداع الذي يمارسه كثير من الأدباء لإشراك القارئ في حبكة النص، على اعتبار بأن النص يتوجب عليه أن ينطوي على متعة ومتابعة وألغاز. لذلك نجد بأن العقل النصّي عقل ذو تفريعات كثيرة. مواجهات مع الواقع والخيال بالقوة ذاتها. فاذا انتصر الواقع في النص سقط الحلم. واذا انتصر الحلم في النص تتشكّل بنية النص الجمالية. لنرى بأن عقل الحلم لا حدود له. وهذا ما يغذّي نزعة التمويه عند الكاتب الذي يلجأ الى الحلم كبنية فنية داخلة في تضاعيف النص في محاولة إجرائية لـ (غش) القارئ وسحبه الى منصة القراءة.
ذلك الغش مطلوب في كثير من الأحيان، لإحداث صدمة القراءة، فالنص القصصي والروائي يتوجب عليه أن يتوفر على المتعة والتشويق في أحد أركانه. كما في الرواية البوليسية التي تعتمد على هذه الفقرة في مفاجآتها التي (تحتال) على القارئ، وتذهب به الى مفاجآت أخرى. فسرديات الأحلام لا تقع في بنية الحبكة البوليسية التي تتداخل فيها خطوط النص وأحداثه الغامضة، بقدر ما هي إحدى أساليب الفن السردي التي تزحف على الواقع، وتعمل على تمويهه بهذا الأسلوب، أو تغريبه. أو تُلبسه قناعاً وتورية. وهذا معروف في الدول ذات الأنظمة الشمولية التي تمنع الخيال والحلم وتُعاقب عليهما، فيميل كتّابها الى هذا الأسلوب بإشباعه بالرمز والخداع الأسلوبي الضروري. لكن البحث الدراسي ليس مُلزماً بأي تأويل ثانوي. بل يعتمد النظريات التي سبقت الحلم، ومحاولة مطابقتها مع الرؤيا المنامية. ومن ثم استخراج مضامينها المتوقعة.
**نُشر في موقع ضفة ثالثة- لندن)