تأمُّلات المتنبِّي في سجنه
يمكن تحديد زمنٍ تاريخيٍّ دقيقٍ لسجن المتنبِّي، وهو أوائل سنة 322 للهجرة. أُلقيَ عليه القبض في البداية، وقُيِّدتْ يداه بأغصان الصَّفصاف في قريةٍ اسمها “كوتكين”. وقد ذكر ذلك هو نفسه في شعره:
فأجبتُهُ مُذْ صرْتَ مِن أبنائِهِمْ صارَتْ قُيودُهُمُ مِنَ الصَّفْصافِ
وتقول إحدى الرِّوايات إنَّ أحد الشُّعراء نصحه بترك دعوى النُّبوَّة، والاكتفاء بالشِّعر، لكنَّ المتنبِّي ردَّ عليه، ثمَّ تبادلا الهجاء المقذع، فاضطرَّ الشاعر إلى تحريض أمير حمص ضدَّه. وهذه الرِّواية مفتعلة، لأنَّ الأبيات التي يُزعَم أنَّ المتنبِّي هُجيَ بها وردَّ عليها، تُنسَبُ لثلاثة شعراء، لا لشاعرٍ واحدٍ، وهم الصَّنَوبريُّ، والنامي، والضَّرير الشاميُّ . ومن الواضح أنَّها رواية مفتعلة ترمي إلى تثبيت دعوى النُّبوَّة على المتنبِّي، ونصحِهِ قبل القبض عليه. وغنيٌّ عن البيان أنَّ شعر المتنبِّي بأسره يخلو من أيَّة إشارة لدعوى النُّبوَّة، في حين يزخر بدعاوى التَّمرُّد والثَّورة.
لكنَّ المتنبِّي ما كاد يقترب من حمص، حتّى اصطدم بجيش الإخشيديِّين الجرّار. وكما هو الحال، تنجح جموع القرامطة في شنِّ الحملات الصَّغيرة دائماً، لكنَّها تعجز في جميع الأحوال عن مواجهة الجيوش النِّظاميَّة. وسرعان ما تمكَّن الجيش الإخشيديُّ من دفع جموع القرامطة من البدو حتّى منطقة قنَّسرين. وهناك تفرَّقت هذه المجموعات التي صاحبت المتنبِّي، وتركتْهُ وحيداً يواجه مصيره الفرديَّ في قرية “كوتكين”، بالقرب من سَلَمْية. ومنها سيقَ إلى السِّجن، بعد أن وُجِّهت إليه تهمتانِ في وقتٍ واحدٍ؛ الأولى هي التَّمرُّد على النِّظام، أي على السُّلطان الحاكم، والدَّعوة إلى إسقاطه، والثانية الزَّندقة، أي الكفر بالله والاعتداء على الدِّين، وليس دعوى النُّبوَّة. وبالطَّبع فإنَّ الزِّنديق يُستتاب، فإن لم يقبلِ التَّوبة يُقتَل. وقد أعلن المتنبِّي عن توبته الصَّريحة، فأُعفي عنه، ولكن بعد أن سُجنَ لمدَّة سنتين أو ثلاث سنوات. وقد استخلص بلاشير من شعره والوقائع المذكورة فيه أنَّ اعتقال الشاعر دام “سنتين من أوائل سنة 322 هـ/ 933 م إلى آخر سنة 324 هـ/ 936م” . ونعتقد أنَّ هذه الفترة التي قضاها أبو الطَّيِّب في السِّجن أتاحت له التَّفكير بمشروعه من جديد، وأنَّه لم يعتذر من إسحاق بن كَيَغْلَغ، حاكم حمص الذي حبسه، إلّا بعد أن استقرَّ به التَّأمُّل في فترة السِّجن إلى التَّفكير بذاته، والكفِّ عن مشروع الثَّورة القرمطيَّة الدائمة، والشُّروع بمشروعٍ آخرَ، هو مشروع ” النُّبوَّة الشِّعريَّة”، التي اكتسب فيها لقبه الجديد «المتنبِّي». فلقد كان قبل سجنه شاعراً عاديّاً متمرِّداً، لكنَّه خرج بعد إطلاقه وهو يحمل ذلك اللَّقب الغريب «المتنبِّي».
في السِّجن أُتيح له الوقت الكافي للتَّأمُّل في حياته الماضية، وحياته القادمة، أُتيحَ له المجال للتَّفكير في أهدافه وغاياته وترتيب أولويّاته، وكيف ينبغي له أن يتعامَلَ مع نفسه وأفكاره، ومع الناس. كانت أفكارُهُ وتأمُّلاته تأخذه إلى مناطقَ لم يعهدْها من قبل، مجرَّدةً عن القوالب الصِّياغيَّة التي يفرضها الشِّعر. أخذ يفكِّر بالشِّعر دون كتابة قصائد، كان يفكِّر بقصيدة الإبداع المتحرِّرة من الضَّوابط، القصيدة الوجوديَّة اليتيمة حين تقول كلَّ شيءٍ، ولا تقول شيئاً مفرداً بذاته.
أنتَ يا أبا الطَّيِّب، منذ ربع قرنٍ وأنت تطاردُ وهماً تسمِّيه ذاتَكَ، أو ثورتَكَ، أو نقمتَكَ على الناسِ والحياةِ، فما الذي جنيتَهُ بعد هذه الرِّحلة الطَّويلة؟ لا شيءَ، لا شيءَ على الإطلاق، وها أنتَ ذا رهينُ سجنِكَ مفرداً، مخذولاً، لا يتذكَّرُكَ أحدٌ. أبو دلف هذا الذي كنتَ تحتقرُهُ، حتّى حرّض ولاة الأمور عليك سرّاً، هذا الذي يقف على باب سجنِكَ حارساً، ها هو ذا يبعثُ بهديَّتِهِ إليكَ في السِّجن. فتقبَلُها مضطرّاً، لأنَّه الشَّخص الوحيد الذي يتذكَّرُكَ في العالم الخارجيِّ. تقبَلُ هديَّتَهُ كأنَّكَ أسدٌ حبيسٌ يرضى بجيفةٍ. عليكَ أن تُعيد النَّظر في كلِّ شيءٍ، في حياتِكَ ومعناها، ووجودِكَ وضرورتِهِ. عليكَ أن تغيِّرَ ترتيبَ أولويّاتك.
ما الذي حصلتَ عليه من الطَّغام، وجموع الرَّعاع البدائيَّة، التي تتقافزُ حولَكَ كالجراد؟ هؤلاءِ مهما استهنتَ بهم، فإنَّهم يظلُّون أقوياء بقدرتهم على التَّقافز بين الجهات، ليسوا أقوياء بذواتهم، أو أفكارِهم، بل أقوياء بقدرتهم على لبس الأقنعة والتَّظاهر بإرضاء الطُّغاة والمتسلِّطين. لذلك لا ينبغي لك أن تصرِّحَ باحتقارِكَ لهم، عليكَ أن تُظهِرَ لهم شيئاً من التَّواضع، بل المحبَّة لو استطعتَ، ليس بهدف النُّزول إلى مستواهم، بل بهدف تخطِّي مؤامراتهم، وتحاشي السُّقوط في الحُفَر التي يحفرونها لك.
عليك أن تتواضعَ، ليس لأنَّ التَّواضع جميلٌ في ذاتِهِ، بل لكي تصلَ إلى أهدافِكَ بأسرعِ ما يمكن. والأهمُّ من ذلك أن تتعلَّمَ الكتمان. يقول جعفر الصادق: “استعينوا على حوائجِكم بالكتمان”. استعِنْ أنتَ به أيضاً. عليكَ أن تتلفَّعَ بالغموض. لا تبحْ بشيءٍ أبداً. أخْفِ حتّى اسمَكَ ونسبَكَ، واستعمل بدلهما لقباً، واخترْ لنفسِكَ لقباً جارحاً، لقباً يتحدَّى من تعرفُهم حتّى آخر الدَّهر. ليكنْ مثلاً «المتنبِّي»، لستَ نبيّاً من الأنبياء بالطَّبع، ولكنَّك «المتنبِّي»، أي من يتنبَّأُ بشعرِهِ، بكلماتِهِ، بغموضِهِ الذي لا ينتهي. لستَ صاحبَ شريعةٍ، لكنَّكَ مبتكرُ طريقةٍ في التَّعاطي مع الأشياء وفهمها. ومعجزتُكَ ما هيَ؟ لستَ نبيّاً لتبحثَ عن معجزةٍ، وأنتَ تعرفُ أنَّ المعجزة هي خَرْقُ العادة، واختراق قوانين الطَّبيعة. معجزتُكَ أنتَ هي اللُّغة، هي الاستعارة التي تخترقُ القوانينَ، وتبتدعُ قوانينَ أخرى غيرَها. معجزتُكَ هي أنَّكَ بلا معجزةٍ، لا مُعينَ لك في هذا اليبابِ سوى صوتِكَ الذي يخترقُ العصورَ، فيراه العميانُ، ويسمعُهُ الطّرشان.
هذه هي الأشياء الثَّلاثة التي ينبغي أن تقيسَ بها حياتك القادمة، عندما تترك هذا السِّجن الكئيب. أوَّلاً: التَّواضع، أو بالحقيقة المراءاة بالتَّواضع، لأنَّكَ في قرارتك تعرف أنَّ هؤلاء الهمج الطَّغام لا يستحقُّون الاحترام. مع ذلك، كفكفْ من غرورِكَ، وأظهرْ لهم التَّواضع، لأنَّكَ بحاجة إلى أن تُطأطئ لهم، لتتجنَّبَ تآمرَهم عليكَ من حيث تحتسِبُ ولا تحتسِبُ. أنت لا تتواضعُ من أجلهم، من أجلِ إثبات تفوُّقِكَ عليهم. ولذلك فإنَّ تواضعك في حقيقتِهِ ليس سوى قناعٍ لكبرياءٍ لا تريد أن تقفَ عند حدٍّ.
وأُكرِّر، أوصيكَ بالكتمانِ ما استطعتَ، فهو سلاحُكَ السِّرِّيُّ، أداتُكَ في مقاومة ما تجهلُ من ظنونٍ أو مؤامراتٍ. لا تبحْ بالحقيقةِ كاملةً أبداً. دائماً أعْطِهم نصفَ الحقيقةِ، وتصرَّفْ أنتَ بنصفها الثاني كما تشاء. فالحقيقةُ ليست بيديكَ. الحقيقةُ هناك، فيما لم يوجدْ بعدُ، في المستقبلِ الذي يُراوغ ويتهرَّبُ من الحضورِ. الحقيقةُ هي النُّبوءة المتوقَّعة التي لا تحصل. الحقيقةُ هي قرينةُ الوهمِ، وعقيلةُ سلطانِ الغيابِ. الحقيقةُ هي الدُّرَّةُ اليتيمةُ المودعةُ في أعماقِ البحرِ، حيث لا يراها أحدٌ، ولا يصل إليها غوّاص، مهما أُوتيَ من مهارة السِّباحة.
وأخيراً، أنتَ «المتنبِّي»، ولستَ نبيّاً. وإيّاك أن تُظهر للناس أنَّكَ فَرِحٌ بهذا اللَّقب. بل تظاهر بكراهيتِهِ، واعملْ على نشرِهِ وتثبيتِهِ في الوقت نفسه. ولتكنْ نبوءتُكَ التي تبحثُ عنها وتريد نشر رسالتها في الشِّعر، لا في الدِّين. فأنتَ نبيُّ الشِّعر الذي لم يُبعَثْ سواه. ومعجزتُكَ هي الاستعارة التي تُعيد ترتيب الأشياء. وبرغم أنَّ رسالتك شعريَّة، وبالتالي تقع في صلب اللُّغة العربيَّة، فإيّاكَ إيّاكَ أن تثق بعروبةٍ يتسلَّطُ عليها العجم. تكمن رسالتُكَ في البيان العربيِّ الأصيل، الذي لم تخالطْهُ رطانة الأجانب. وحذارِ حذارِ من صفوفِ المندسِّين عليكَ. أمامَكَ رومٌ، وخلفَ ظهرِكَ رومٌ آخرونَ غيرهم. توكَّأْ على ذاتِكَ، وسيعرفُ الجميعُ أن ليس سواكَ من أحدٍ. نَمْ ملءَ جفنَيكَ، ودعْهم يتخبَّطون في نشدانِ المعاني الشَّوارد التي تطلقُها. ذلك هو بيانُكَ، وتلك هي رسالتُكَ.