فن السخرية والكاتب الجاد

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

في كتابه  “كيفية السفر مع سلمون / معارضات ومستعارات جديدة”  يقدم أمبرتو إيكو مفارقات ضاحكة ومصادفات التقطها خلال رحلاته بين البلدان. والمعارضة تعني محاكاة النص كما كان يجري في فن الشعر العربي قديماً، ومستعار كل ماهو غير طبيعي في الاستخدام، أما السلمون فهو اسم السمك المعروف الذي دفع المؤلف ضريبة اقتنائه، حين حل في أحد فنادق لندن. ولعل ترجمة الكتاب التي قام بها  حسين عمر، سهلّت فهم الكثير من التداخلات بين اللغات والرموز والإشارات والاستطرادات.

كتاب عالم السيميائيات الأشهر كان كوميدياً بامتياز، فهو ضحك مستمر على مفارقات عاشها المؤلف في حله وترحاله، ولعل الدرس الذي يقدمه يكمن في الخروج من جدّ وعسرٍ في بعض كتاباته الأخرى . وفي العالم العربي تقلّ فرص العثور على مثقفين أو مفكرين يجيدون الكتابة في مجالات تبعدهم عن اختصاصاتهم ، ليتضاعف ثقل الحياة العربية الذي لا يحتمل . إيكو لا يبتعد عن المعرفة في هذا الكتاب  ولكنه لا يصدع القاريء بملخصات وهوامش قالها غيره، بل هو مبدع دائما في كل مجال كتب فيه، وهو هنا لا يُبقي على ظاهرة أزعجته دون أن يمسرّحها على نحو متهكم، مشاركاً القارئ أوقات مسرة لا تعوض.

نصوص الكتاب نشرت في الأصل في مجلة ثقافية بفرنسا، ويقول عنها مؤلفها بنها دفاع عن الحق في التسلية، وهذا درس آخر لكتاب المجلات “الرصينة” الذي يتعاملون مع الكتابة باعتبارها مدرسة للتزاحم على الالقاب الرفيعة. وسخط ايكو ينْصّبُ على الغباء والحماقة، فهو يرى أن الشيء الأعدل توزيعاً على وجه البسيطة ليس الحس السليم كما يقول ديكارت بل الغباء والحماقة، ولكن أي غباء وحماقة يكتب عنهما؟ انه يحاول رصد ظاهرات العصر والحياة اليومية، من النزعة الاستهلاكية وطرق الدعاية للبضائع، إلى مقدمي البرامج التلفزيونية والإعلام الحديث وخدمة الفنادق والموظفين البيروقراطيين، وصولا إلي نصوص الكتابة ومقدمات الشكر المطولة. وسنجد ما كتبه أدرنو عن النزعة الاستهلاكية وسطوة الإعلام مترجماً على هيئة حوادث ومفارقات يتداخل فيها التخييل بالحقائق. إيكو بطل حوادثه سواء التي أسلب حالاتها، أو تلك التي نقلها عن مفارقات صادفته، ولكن غرضه وإن أضمر نزعة انتقادية، يبدو مجرد تهكّم وسخرية. الكتاب يدفعنا إلى السؤال عن مجال الكتابة عند عالم أو مفكر أو فيلسوف. إيكو الكاتب والمُنظّر أجاب عليه مرة : “ما يتعذر تنظيره ينبغي سرده”. رواياته “اسم الوردة” و”جزيرة اليوم السابق” و”بندول فوكو” و”باودولينو” وسواها،  تُدرج في باب ما يحسبه تكاملاً بين مفهومي التنظير والتخييل، بوصفهما طريقين للبحث عن السر الكامن وراء تعدد المعاني والدلالات.

ولكن فن السخرية له اعتبارات أخرى، ومنها أن الكوميديان  يحتاج حماسة من نوع خاص، وتماساً مع الحياة، وخفة وجرأة التطاول على المألوف والتقاليد. مبالغات هي أقرب إلى اختبارات ذكاء القارئ وتركه في زحمة فهم المفارقة. الثقافة المعاصرة، ثقافة العيش والمفاهيم الحديثة في العالم الرأسمالي موضوع إيكو المفضّل، بما فيها التكنولوجيا والعلاقات العامة، وسباق الفضاء والتأليف والعواطف والأفكار. وقد يجد الكاتب في قدرته على التأويل ما يساعده على مقاربة فن المعابثة، فعَطَلُ أنظمة الكومبيوتر في فندق لندني قد يحوله إلى “مضافة بكين خلال تمرد الملاّكين”، كما يكتب حين تخيل عائلات مخيمة في بهو الفندق، ذلك لان الانقلاب المعلوماتي باستخدام الحاسوب لا يناسب إدارته القادمة من شعوب منقرضة. نوع من العنصرية المتفكهة التي يرى في موقع آخر انها إنتهت مع نهاية الكوميديا المعاصرة. العيش في مجتمع الفرجة كما يسميه، تمرين على الشقاء والانحراف، حيث برامج التوك شو التلفزيونية تعرض أصحاب العاهات النفسية والمعتوهين والمجرمين والشاذين على أنهم جزء من الحياة التي تسلي المشاهد وتمنحه ثقافة جديدة، ولكنها فرجة مدفوعة الثمن، فللحماقة أيضا ثمنها.

الجريمة كما يكتب، تضاعفت بتضاعف ابتكار مخرجي الأفلام لطرق حديثة في القتل والترويع، والتلفزيون يدرّب المشاهد على العودة إلى أخلاق الغاب، فهو يقدم مناظر الشنق ساعات الفطور والغذاء، عند هذا علينا البحث عن اللحظة الضائعة في عمر الإنسان الحديث، حيث الناس يدفعون ثمناً للتمتع بحماقاتهم.

إيكو في محاكاته العنف يرتكب عنفاً خاصاً، كي يستنهض الهزلي في داخله. فن السخرية هو فن التطاول الذي يحتاج قائله مقارعة الخصم والتغلّب عليه، والكوميديان يجمع في سلته الصالح والطالح، وهو لا يعرف الانتقاء حين يسلّط هجومه، وكلما زاد عنفه ربح جولاته الكلامية. وهكذا نجد امبرتو إيكو يتنقل من موقف الى آخر بجرأة الفضح والتعرية وإزالة الأقنعة. ففي امستردام ينشلك العابرون، وفي ايطاليا تتعلم كيف تصبح ملفات الحفظ وسريتها، أداة تعذيب تشي بغباء الروتين والوساطات. كما خدمة الفنادق والطائرات والتاكسي، مناسبات لخلق قصص المتعة حيث البطل صاحبها، يتحول إلى اضحوكة أو يشارك في استكمال الصورة الكاركتيرية.

ماهي مواضيع الكتابة، وما النافل منها والأكثر أهمية؟  ذاك سؤال يدعنا نتوقف عند قضيتين: الأولى تعنى بحقل المؤلف والثانية بطريقة التناول. ولعل الجانب الأول يخضع إلى مفهوم تعدد الاهتمامات، فالثقافة العارفة اليوم مفتوحة على الحياة، والمثقف لا يكف عن الاهتمام بكل الظاهرات النافلة منها والأكثر أهمية، فالفلسفة على سبيل المثال، لا تتحرك اليوم ضمن المواضيع العقلية المجردة، بل تتعالق مع اهتمامات الناس وطرق تسليتهم وأسلوب حياتهم، ومتعارفاتهم. اما أساليب التناول، فهي مفتوحة على أجناس مختلفة من فنون القول، ولا يخشى المفكر التورط في كتابة كانت مقتصرة على الروائي أو الحكّاء الشعبي أو الصحافي في صفحات الرياضة او مجلات التسلية. المهم في كل هذا كيف تأتي إلى الموضوع وكيف تقنع القارئ به. إيكو نسي في حومة إلهاماته، قفشات الشارع الإيطالي، فالإيطاليون، قوم إيكو، يمسرّحون النكتة على قارعة الطريق، وكونهم غواة ومدمني تمثيل، يصلحون بين كل الشعوب التحول إلى موضوع كوميدي، وربما ابتكر المسرح وازدهر بين ظهرانيهم لهذا السبب. ولعل تمكن إيكو من إدارة فن السخرية ووضع نفسه بطلاً لحوادثه الكوميدية، يُنسب إلى موروثه الجيني، كما يريد هو من قارئه أن يعرف عن بقية الشعوب.

شارك مع أصدقائك