سعيد الغانمي
مثلما يمكن الحديث عن جنَّة الاستعارة، يمكن الحديث عن استعارة الجنَّة. فالجنَّة هي تجربة ميتافيزيقيَّة لا يمكن الوصول إلى محتوياتها إلّا عن طريق التَّخيُّل، أي عن طريق الاستعارة، التي تحاول ربطها بالتَّجربة الإنسانيَّة الأليفة. لكنَّنا حالما نتحدَّث عن استعارة الجنَّة حتّى نجد أنَّنا مأخوذون بجنَّة الاستعارة، التي تستطيع أن تخترق التَّجربة الأليفة لتصلَ من خلالها إلى تجربة الجنَّة الميتافيزيقيَّة التي لا يمكن الوصول إليها. وبذلك تجمع بين التَّجربتين في تجربةٍ واحدةٍ.
وهذا ما يفعلُهُ كتاب “روضة التَّعريف بالحبِّ الشَّريف” لذي الوزارتين لسان الدِّين ابن الخطيب الأندلسيِّ. أراد ابن الخطيب أن يكتب كتاباً عن الحبِّ الإلهيِّ الذي يُمليه المنطق الصُّوفيُّ. وحين استولى عليه هذا الحبُّ وجد أنَّه “جنَّة” خارقة تخرج عن حدود الوصف اللُّغويِّ، ولا طريقَ للتَّعبير عنها إلّا الاستعارة، التي تصير هي بذاتها جنَّة أخرى، مما جعله يجمع بين استعارة الجنَّة وجنَّة الاستعارة في كيانٍ واحدٍ للتَّعبير عن هذا الحبِّ الجارف، الذي لا سبيل للتَّعبير عنه. كان ابن الخطيب قد اطَّلع على بعض الكتب، التي تتحدَّث عن المحبَّة البشريَّة، مثل كتاب شيذلة، ورسالة ابن واطيل، وكتاب ابن الدَّبّاغ القيروانيِّ، وكتاب ابن خلصون (ابن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، تحقيق: محمد الكتاني، دار الثقافة، بيروت، 1970، ص 98). لكنَّ هذه الكتب لم تُعنَ بالحبِّ الإلهيِّ، بل عُنيتْ بالحبِّ البشريِّ. والحبُّ البشريُّ متناهٍ محدودٌ، في حين أنَّ الحبَّ الإلهيَّ لا يتناهى ولا يُحدُّ. وهكذا لا يمكن الإحاطة به إلّا عن طريق وسيلةٍ بلاغيَّةٍ يمكنها الاقتراب مما لا يتناهى، وتلك الوسيلة هي استعارة الجنَّة، التي تُفضي بمن يتابعها بالضَّرورة إلى أن يجد نفسه في جنَّة الاستعارة.
يُدرك ابن الخطيب أنَّه سلكَ في تنظيم كتابه “أغرب المذاهب”، ذلك أنَّه تخيَّل كتابه على أنَّه شجرة وأرض. وهكذا كان التَّنظيم تنظيماً استعاريّاً للاقتراب من موضوعه: “فالشَّجرة: المحبَّة مناسبةً تشبيهاً، وإشارةً لما وردَ في الكتبِ المنزلة وتنبيهاً، والأرضُ: النُّفوسُ التي تُغرَسُ فيها، والأغصانُ أقسامُها التي تستوفيها، والأوراقُ حكايتُها التي تحكيها، وأزهارُها أثمارُها التي تجنيها، والوصولُ إلى الله تعالى ثمرتُها التي ندَّخرُها بفضلِ اللهِ ونقتنيها. شجرةٌ لَعَمْرُ اللهِ يانعة، وعلى الزَّعازعِ متمانعة، ظلُّها ظليلٌ، والطَّرف عن مداها كليلٌ، والفائزُ بجناها قليلٌ” (ص 101).
ولا يخفى أنَّ ابن الخطيب يعرف الفرق بين الحبِّ الجسمانيِّ المتناهي المحدود، والحبِّ الحقيقيِّ الذي لا يتناهى. فالحبُّ الجسمانيُّ تبعث عليه “شهوة بهيميَّة” لا تكاد تختلف عمّا لدى الحيوانات من شهوة، في حين أنَّ “الحبَّ الحقيقيَّ يصعِّدُكَ ويرقِّيك، ويخلِّدُكَ ويُبقيكَ، ويُطعمكَ ويسقيكَ، ويخلِّصُكَ إلى فئةِ السَّعادةِ ممّن يشقيكَ، ويجعلُ لك الكونَ روضاً، ومشربَ الحقِّ حوضاً، ويُجنيك زهرَ المنى، ويُغنيكَ عن أهلِ الفقرِ والغنى، ويُخضِعُ التِّيجانَ لنعلِكَ، ويجعل الكونَ متصرَّفَ فعلِكَ. ليس إلّا الحبُّ، ثمَّ الوصل والقرب، ثمَّ الشُّهود، ثمَّ البقاء بعدما اضمحلَّ الوجود. فشفِيَتِ الآلامُ، وسقطَ الملامُ، وذهبَتِ الأضغاثُ والأحلامُ، واختُصِرَ الكلامُ، ومُحِيَتِ الرُّسوم وخفيَتِ الأعلامُ، ولمن المُلْكُ اليومَ والسَّلام” (ص 109).
لا يمكن الحديث عن المحبَّة الإلهيَّة التي لا تنتهي إلّا بتحويلها إلى شجرةٍ مباركةٍ في أرض مقدَّسة، تخضعُ لقوانينَ أخرى غيرِ القوانين التي نعرفُها: “فازَ مَن استأثرَ بجناها، وتعنَّى مَن عُنِيَ بلفظِها دون معناها. فمَن استصبَحَ بدهنِها استضاءَ بسناها. ما أبعدَها وما أدناها! عيناً ملأتِ الأكفَّ بغناها. كم بين أوراقِها من قلبٍ مقلَّب! وفي هوائِها من هوىً مغلَّب! وكم فوقَ أفنانِها من صادحٍ! وكم في التماسِ سقيطِها من كادحٍ! وكم دونها من خطبٍ فادحٍ! ولأربابها من هاجٍ ومادحٍ! تنوَّعَتْ أسماؤُها، ولم تتنوَّعْ أرضُها ولا سماؤُها. فسُمِّيَتْ «نخلةً» تُهزُّ وتُجتَنَى، و«زيتونةً» مباركةً يُستصبَحُ بزيتها الأسنى، و«سدرةً» إليها ينتهي المعنى. أصلُها للوجودِ أصلٌ، وليسَ لها كالشَّجرةِ جنسٌ ولا فصلٌ، وتربتُها روحٌ ونفسٌ وعقلٌ. وشرفُها يعضده بديهةٌ ونقلٌ. يحطُّ الهائمونَ بفِنائِها، ويصعدُ السالكونَ فوق بنائِها، وتخترقُ السَّبعَ الطِّباقَ ببراقِها، وتمَّحي ظُلَمُ الحسِّ بنورِ إشراقِها” (ص 102).
دوحة المحبَّة الإلهيَّة شجرة وليست بشجرةٍ في الوقت نفسه. فهي تشترك مع الشَّجرة في أنَّها تعطيك الانطباع بأنَّك في وسط الجنَّة. لكنَّها ليست بمحدوديَّة الأشجار ومادِّيَّتها، فهي شجرةٌ تشكِّل أصل الوجود، بمعنى أنَّها تتعالى على الأشجار جميعاً وتتفوَّق عليها في خصائصها. وبالتالي فإطلاق اسم الشَّجرة عليها ليس سوى استعارةٍ للحديث عنها، ولكنَّها استعارةٌ تنطوي على وجهِ شبهٍ، كما يقول البلاغيُّون، أو على “مناسبةٍ”، لتقريب الشَّجرة المجرَّدة من الشَّجرة المجسَّدة، كما يقترح ابن الخطيب: “ولم أتركْ فنّاً إلّا جمعتُ بينه وبين مُناسِبِهِ، ولا نوعاً إلّا وضممتُهُ إلى ما يليقُ به، واستكثرتُ من الشِّعر لكونِهِ من الشَّجرة بمنزلة النَّسيم الذي يحرِّك عذباتِ أفنانِها، ويؤدِّي إلى الأنوفِ روائحَ بستانِها. وهو المزمارُ الذي ينفحُ الشَّوقَ في يراعتِهِ، والعزيمة التي تُنطِقُ مجنونَ الوجدِ من ساعتِهِ، وسلعةُ ألسنِ العشّاق، وترجمانُ ضميرِ الأشواقِ، ومجلى صورِ المعاني الرِّقاق، ومكامنُ قنائصِ الأذواق” (ص 103). بعبارة أخرى، يدرك ابن الخطيب عجزه عن الإلمام بما لا يتناهى، ولذلك فإنَّه يبحث عن وجه شبهٍ له بالشَّجرة المتناهية. فالمناسب في تعبيره هو الشَّبيه الذي تحمله الاستعارة للتَّقريب بين المستعار له والمستعار منه.
لا تعنينا أفكار ابن الخطيب بذاتها، بل الآليَّة البلاغيَّة التي اتَّبعها في كتابه. وفي الحقيقة فهو يرى في كلِّ شيءٍ مظهراً نباتيّاً يمكن الاستفادة منه لتوضيح جوهرٍ روحيٍّ لا يُرى. مثلاً: يرى في الإنسان نباتاً “بكونِهِ ينمو ويغتذي، وتتباعدُ أقطارُهُ ويتحرَّك”، لكنَّه أيضاً حيوانٌ بهيميٌّ يتخيَّل، ونفسٌ ناطقةٌ تتساءل. وهكذا تجتمع في الإنسان نفس نباتيَّة، ونفس حيوانيَّة، ونفس ناطقة، ونفس نبويَّة. “وإنَّ النَّفس النَّبويَّة منها هي الرُّوح القائم به حقائق الأرواح، وهي عندهم مستوى الأسماء المخزونة القدسيَّة، والألواح التي ضمَّنها علم الأوَّلين والآخرين” (ص 148). وهذا ما يسمح له بالانتقال من النَّفس النَّباتيَّة إلى النَّفس النَّبويَّة، التي تعزُّ على المعرفة وتشقُّ على التَّحقيق.
مصائر مَن يهتمُّون بالفكر في الأندلس والمغرب مصائرُ موحشةٌ ومؤلمةٌ بسبب ضيق الأفق الفكريِّ في هذين المكانين. كان ابن خلدون صديقاً لابن الخطيب، وقد زاره في الأندلس حين كان وزيراً، وقضى معه سنتين كاملتين، وقد روى قصَّة موتِهِ المؤلمة في “تاريخه”. كان هناك قاضٍ اسمه القاضي أبو الحسن النُّباهيُّ المالقيُّ، مقرَّب من بلاط ابن الأحمر. وتوتَّرت العلاقة بينهما، فتبادلا الاتِّهامات. ألَّف فيه ابن الخطيب عدَّة كتب من بينها كتاب بعنوان “خلع الرَّسن في وصف القاضي أبي الحسن”، بينما شنَّ النُّباهيُّ على ابن الخطيب حملةً عارمةً اتَّهمه فيها بتعاطي الفلسفة، وكانت تلك تهمةً خطيرةً معادلةً للإلحاد في البيئة الأندلسيَّة، وبقيَ يصرُّ على اتِّهامه حتى أجبره على الهرب إلى فاس في المغرب سنة 773. ووصف القاضي النُّباهيُّ محنة ابن الخطيب بقوله “وجرى مثلُ ذلك [أي اضطهاد الكتّاب والمفكِّرين] أيضاً بحضرة غرناطة، منتصف عام 773، في كتبٍ أُلفيتْ فيها من تواليف محمَّد بن الخطيب فيما يرجع إلى العقائد والأخلاق [وهو يقصد كتاب “روضة التَّعريف” بالتَّحديد]، فأُحرِقتْ بمحضرٍ من الفقهاء، والمدرِّسين من العلماءِ، لما تضمَّنته تلك الكتب المذكورة من المقالات التي أوجبتْ ذلك عندهم وحقَّقتْهُ لديهم” (القاضي النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، ص 202).
لم ينفع ابن الخطيب دفاعُهُ عن نفسه، فلجأ إلى السُّلطان عبد العزيز في المغرب لحمايته، لكنَّ وفاة هذا السُّلطان سرَّعت بمصيره المأساويِّ. فأُلقي عليه القبض، وعُذِّبَ تعذيباً بشعاً، وقتله مجموعة من الغوغاء ليلاً خنقاً في محبسه. فدُفِنَ في اليوم الثاني، لكنَّ الغوغاء تابعوه، وأخرجوه من القبر، ثمَّ أحرقوا جثَّته، وأُعيد إلى قبره بعد التَّمثيل به تمثيلاً لا يجوز بالكلب العقور (تاريخ ابن خلدون، مصورة عن طبعة بولاق 7/337).
(فقرة من الفصل الثاني المعنون “الاستعارات الزراعية” من كتاب “مجمع اللقى البلاغية: الاستعارات الكبرى في الفلسفة والأدب”).