في (جنّة المنسيّات) لسـعدي يوسـف..

شارك مع أصدقائك

Loading

د. علي ناصر كنانة

في مجموعة الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف (جنّة المنسيات) يلاحظ المتفحّص لقصائدها تجَوْهراً علاماتياً يتماهى في أربع ثيمات أساسية تتحرّك وتتداخل لينبني من عناصرها عالم سعدي يوسف الشعري (في: جنّة المنسيّات). وهو عالمٌ يتفرّد في توظيف الإشارة عن مجموعاته السابقة. ويمكن توصيف هذه الثيمات بمفردات من معجم المجموعة ذاتها:

  • العمى (ومشتقاته).
  • إغماض العينين (ومشتقاته).
  • النافذة (والزجاج والستائر).
  • إرهاف السمع.

وفي إعمال النظر إلى تلكم الثيمات الأربع (التي وردت دوالها في المجموعة لثلاثٍ وثلاثين مرّة) كوحدات مترابطة في كليّة واحدة يمكن استقراء أن العمى (ومرادفاته) يتطابق دلالياً مع إغماض العينين. ويلتقي إرهاف الحس مع الحاجة إلى إغفال حاسة البصر. كما أن المقاربة الشعرية لزجاج وستائر النوافذ تعني الداخلَ الواقعَ خلف النافذة التي تمنع ستائرُها المضاعفة مشاهدةَ الخارج.

*منذ ملحمة جلجامش ترسّخَ في ثقافتنا أن الشاعر هو الذي “يرى”. وقد اعتدنا أن نلحظ في الشعر الحديث ايماءات كثيرة إلى الرؤيا في العتمة أو في الظلام، بل وتجسيد الحسّي ورسم غير المحسوس.

في خروج على هذه النمطية الشعرية المترسّخة في ثقافتنا اختارَ سعدي يوسف (أو هكذا وجدَ نفسه) أن يكون:

(أعمى يطوّف في قرى الله).

فقد كان (العمى) ومرادفاته المتصّلة بانعدام الرؤيا ثيمة مركزية في ديوانه (جنّة المنسيّات). ففي قصيدة (الرسالة الضائعة) يقيم الشاعر صلاته في مكانٍ غير مرئي:

(من مكاني الذي لا يُرى

سأقيم الصلاةَ

السلامُ على معشر الطيرِ أنّى تهادى جناحْ…).

منذ البدء، اختارَ الشاعر مكاناً متوّحداً غير مرئي (مكاني الذي لا يُرى) لممارسة طقوسهِ مصليّاً بالسلامِ على كلِّ ما حلّقَ حرّاً (على معشر الطيرِ أنّى تهادى جناحْ). وهو يعاني من انتكاسات المتعبّد الذي يهاجمُه الإحباط فيلوذ بإيمانه:

(ربّما كنتُ أهذي

ولكنْ..

ستأتي الحمامةْ).

فالحمامةُ – طائرُهُ المحشوش الجناحين – التي لابدّ سينبتُ لها ريشٌ ثانيةً وتأتي[1].

وقد تكونُ الحمامةُ هنا جهينةَ الشاعر الذي سيأتيه بالخبر اليقين، ولا شك لديه في ذلك:

(فأنا الأعرفُ، الآنَ، بالأرضِ والريحِ

حتى وإنْ كنتُ أعمى هنا

غافلاً

نافلاً

لا يراني أحدْ).

متفرّدٌ هو الشاعرُ في سعدي يوسف: مطلق المعرفة (أنا الأعرف)، غافلاً (أعمى)، ونافلاً (لا يراني أحد). إنه منجز الشاعر في صياغة عالمه: في أن لا يرى ولا يُرى. وكأنه بذلك قد اختارَ أن يلوذ بطقوسهِ: متوّحداً يعتزل العالم، لا يعني أحداً ولا يعنيه أحد. أي أن العالم بمعنى آخر يستبدّ بـ (الأنا) وبـ (الآخر) حتى ليتحوّل (أي العالم) إلى فراغٍ تدور فيه معارف لا ترى بعضها بعضاً.

وفي (الطريق2) ينادي بالآخرين، الذين يكادون أن يكونوا مرادفاً للجحيم، مدّرعاً بالاصرار:

(لكنّي سأظلُّ أسير.

فلا تقفوا في وجهي

لا تقفوا..

لا تصفوا للأعمى الطرقات

ولا عينَ الماءِ

ولا بابَ الخانْ).

يصرُّ الشاعر على مواصلة سيرهِ دون مساعدة إدلائية من الآخرين، بل لعلّ وقوفهم في وجهه سيكون بمثابة إعماء يسدُّ عليه الطريق ويمنعهُ من مواصلة سيرهِ، صارخاً بهم: (لا تصفوا للأعمى الطرقات/ ولا عين الماءِ/ ولا بابَ الخانْ). لأنه يعرف الطريق إلى ذلك كلّه. ولا يريد منهم سوى أن يدعوه وشأنه ويكفّوا عن ممارسة دور العين، فالشاعر يريد حتى للأعمى اختيار طريقه، فليس أسوأ من أن يختار لك الآخرون طريقك. وهكذا هو في (نهايات3) يتهادى منسجماً مع نفسهِ في دروبٍ يتصوّفُ بالتيه فيها:

(أعمى،

يطوّفُ بين قرى الله الإحدى والعشرين

وحيداً

مكتنزاً بعماهْ

يضربُ في التيهِ، وتسبقُهُ في التيهِ عصاهْ).

يروق لهُ الطواف وحيداً، لا يمنعُهُ عماه من ذلك بل يدفعهُ للإبحار في التيه متلمّساً الطريق بأداته الخاصة (عصاه). ويوحي الاكتناز بزهو الأعمى الذي يصبحُ في (النور4):

(مكشوفاً للريحِ وللأمواج

مكشوفاً لخرائطَ غارقةٍ منذُ قُرون

مكشوفاً للجندِ وللأبراج

كانَ فنارٌ أعمى…).

ها هو النور ينبعث منه ليتحوّل إلى كتلة ضوءٍ عمياء. فالعمى هنا ليس ظلاماً مطبقاً بل منبعاً للإشعاع، (حتى يوقد من سرِّ الليلِ فناراً أعمى).

وفي (ملمس5) يلمسُ الشاعرُ ما تراه العين:

(هل احتمي بالزجاجِ المُضاعفِ؟

هل أكتفي بالبرودةِ زرقاءَ لصقَ جبيني؟

وهل أطبِقُ الهدْبَ؟

…………………

…………………

………………….).

إنه يفكّر بإطباق الهدب ليرى، وكأنّ في النظر غير المباشر (العمى) رؤيا أكثر صدقاً.

وربّما عمدَ الشاعر أيضاً إلى ترك ثلاثة سطور فارغة (منقّطة) ليوحي لنا بأنه ما أن أطبقَ الهدبَ انفردَ بالرؤيا المتحقّقة من العمى، وانعدمت علينا الرؤيا في الوقت ذاته لأنه قد اعتكف من خلال العمى بمكانه (الذي لا يُرى).

وفي (الليل6) الذي يهبطُ مسرعاً مباغِتاً تصبحُ العتمةُ (العمى) مرتجى العين:

(مسرعاً يهبطُ

حتى قبلَ أن ننصتُ عن بُعدٍ لهُ

أو ترتجى عتمتَهُ عينٌ…).

فالليلُ يحلُّ هنا قبل حلول الرجاء الذي يصل بالشاعر – في انزياحٍ تام عن المدلول النَمطي لليل – إلى حدّ جعلِهِ مرتجى. والعين التي ترتجي العتمةَ إنما هي تبحثُ عن عمى تسكنُ إليه. ولا يتردّد الشاعر في (جنّة المنسيّات7) عن الحلم بذلك:

(كم أحلمُ أن أُطبِقَ هُدبي!).

نلاحظ في هذه المجموعة إنّ إطباق الهدب حاجة متكرّرة للهرب من الرؤيا المباشرة، ربما إلى الرؤية التي تذهب إلى ما لا تذهب إليه الرؤيا (العين). وتلحُّ هذه الحاجة على الشاعر في (استرخاء8):

(أغمضْ عينيكَ

ونمْ، حتى في النومِ…

ولنتذكّر أغنية الأعمى).

دون إغماض العينين واسترخاء التفكّر وممارسة ما يشبه يوغا التأّمل، لا يمكن تذكّر الأغنية. فقد تبلورتْ لدى الأعمى أغنية يحتاج إلى ترنيمها خارج الرؤيا والصحو. حيث تمسي (اليقظة9) عنده انزياحاً آخر حيث يكون النوم:

(أنتَ تلتمُّ تحتَ الملاءةِ

تغمضُ عينيكَ

تسمعُ همساً

ووشوشةً ربما كانت الموجَ،

تشعرُ أنّ حريراً يمسِّدُ صدرَكَ

أنّ الندى يترقرقُ في العشبِ

في غيضةِ الخيزران).

عينان مغمضتان تحت ملاءة في منتصف الليل: صورة تعكس حرفياً اشتهاء العمى. ولكنه العمى اللذيذ الذي يحضر فيه العالم في أبهى صوره: وشوشة موج، حرير، ندى، وعشب. كلٌ يتجلّى أليفاً رقيقاً. والشمعةُ تنوس في الغرفةِ في (أول المساء10):

(ها هي الشمعةُ تصنعُ أغنيتَها على الحائطِ

أراجيحَ

وأرخميدسياتِ

وأشياء من دافنشي،

بينما ظلَّ الكرسي

يدفعُ إلى الحائطِ

وبإصرارٍ

امرأةً من عماءٍ…).

وإذا استحضرنا الدلالةَ النمطية للمرأة كرمز للخصب والحياة، فإن كونها امرأة من عماء هنا قد يعني إن العماء اكتسبَ لدى الشاعر ذهاباً دلالياً يؤتي الخصب والحياة.

وفي (اللحظةِ11) ثمّة أعمى يريد اختراق خلوة الشاعر:

(أيكونُ الأعمى مَن دقَّ الباب؟

الأعمى المتنّكرُ في هيأةِ سيّدةٍ

جاءتْ تصحبُهُ لحظةَ مختتم العمرْ؟).

هل جاء الأعمى للأعمى؟ أم هو أعمى آخر اتخذَ هيأة سيدة في محاولة لمشاغبة حاجات مختتم العمر؟ أم هو أعمى الشاعر راح يلاحق القرصان المتقاعد؟ في جميع الأحوال، لا يريد صاحب الدار أن يفتح بابَهُ لأيٍّ كان، لائذاً باحتماءاته:

(الغرفةُ

محصنّةٌ بستائرَ من خشبٍ وزجاج

ومصابيحُ الغرفةِ

مطفأةٌ)12.

يتحصّن المتوّحد في عالمه الداخلي المأهول بالرؤيا في العتمة وقد اختار عماءه معتزلاً العالم الخارجي المكتظ بالمرئيات. وكما هو دائماً: لا يريد أن يُرى (ستائر من خشب وزجاج) ولا يريد أن يَرى (مصابيح الغرفة مطفأة). لقد درّبَ حواسَهُ13 على وظائف غير نمطية، في أن يولي للسمع وظيفة بديلة للنظر:

(أرهف سمعي:

ثمتَ موسيقى

وسماواتٌ بيضْ…

أرهفُ سمعي:

ثمتَ نبعٌ في قلبِ الغابِ يغيضْ…

أرهفُ سمعي:

ثمتَ نبعٌ في قلبِ الغابِ يفيضْ…).

إنّ إرهاف السمع عند سعدي يوسف هو الحامل الأمين للنبوءة بعد أن فشلت العين في الاستقراء المتعجّل14 لملامح المجهول القادم:

(ولكننا قد مضينا بعيداً

نأينا عن الأرضِ في نشوةِ المتعجِّلِ…

لم نقرأ الأرضَ

لم نتقرَّ تفاصيلَها

ولم نرهفِ السمعَ

لم ندرِ أنّ برابرةً قادمون…).

حقاً.. لقد أصابتْ نبوءةُ الشاعر: فلو كنّا أرهفنا السمعَ جيداً لتناهتْ إلينا دمدمات أقدام البرابرة.

عندما وقعَ البصرُ في فخِ الواقع المخادع وعجزَ عن استحضار الإجابات الغائبة اختارَ الشاعر القطيعة مع الواقع البصري عَبْرَ تحقّق الرؤية من خلال عمائه الرمزي الأكثر ابصاراً وسبراً لأغوار العالم غير المرئي. يقول آرنولد هاوسر في كتابه (التاريخ الاجتماعي للفنون):

“خلفَ كل هذا العالم العلني والمرئي يختبئ عالم آخر غير مرئي، خلف العالم الواعي ثمة عالم آخر لاواع،ٍ وخلف كل هذا الانسجام البرّاق ثمة صراع”.

إن سعدي يوسف: الرائي في العتمة، يطوّف، في قرى اللـه ويرهف السمع لاختراق هذا العالم غير المرئي.

[1] رغم أن قلق الشاعر يدفعه في موقع آخر (قصيدة –اليقظة) إلى اليأس من ذلك:

(ليس ثمّتَ من أملٍ…/ لن تعود الحمامة).

2  قصيدة (الطريق) – 9/12/1992 – جنّة المنسيّات.

3   قصيدة (النهايات) – التاريخ نفسه والمجموعة ذاتها.

4  قصيدة (النور) – 10/12/1992- المجموعة ذاتها.

5   قصيدة (ملمس) – 26/9/1991 – المجموعة ذاتها.

6   قصيدة (الليل) – 27/12/1992 – المجموعة ذاتها.

7  قصيدة (جنّة المنسيّات) – 31/12/1991- المجموعة ذاتها.

8  قصيدة (استرخاء) – 25/1/1993 – المجموعة ذاتها.

9  قصيدة (اليقظة) – 1/3/1993 – المجموعة ذاتها.

10  قصيدة (أول المساء) – 7/4/1993 – المجموعة ذاتها.

11  قصيدة (اللحظة) – 14/4/1993 – المجموعة ذاتها.

12  قصيدة (قد يسقط الثلج) – 22/12/1992 – المجموعة ذاتها.

13  قصيدة (تدريب حواس) – 1/7/1993 – المجموعة ذاتها.

14  قصيدة (متعجِّلون) – 20/6/1993 – المجموعة ذاتها.

 

شارك مع أصدقائك