د_تهاني_محمد
ـــ أنت تبتسم هكذا دائماً ، لمَ لا تصرخ ؟
أجاب جريبر: أنا أصرخ ، إلا أنك لا تسمع صراخي.(إريك ماريا ريمارك)، رواية: للحب وقت، وللموت وقت.
كانت تصرخ باكية لعشرة دقائق متواصلة وهي بين أيديهن يقمن ب(عجنها) والتلاعب بها كدمية من القماش ، تذهب في إغفاءة بعد أن ينهكها البكاء وبطش الأكف في جسدها الطري ، فيتنفسن الصعداء وعدوى ضحكات النصر تسري بينهن ،قد كان تشخيصهن للحالة صائبا ، فالطفلة (ممتونة) ، وبخبرتهن المتوارثة قد عالجن (المتن)، المتن ذلك الشيء الذي لن تجد له في الطب تعريف علمي واحد، فلاهو خلع للكتف فيتعالج بإرجاع المخلوع إلى محله ولا هو تشنج عضلي يستدعي صراخ الأطفال الجنوني هذا. فكل ماهنالك أن الطفلة كانت تعاني مغصا معويا ، يعانيه كل الأطفال الرضع وهو بالفعل ألم مبرح يستحق الصراخ. كنت أجلس وسطهن ببطني المنتفخ وأنا أحمل طفلي الأول داخل أحشائي ، صراخها فجر بركاني الكامن ، فتطايرت الحمم، بكيت، انتحبت،ارتفع صوت نشيجي فالتفتت إلي الأعناق تستهجن حالي ولسان قلوبهن يقول(مالهذه الغريبة، المتمردة،الدخيلة علينا وعلى بيئتنا ،تنتابها الرقة فجأة فتبكي محض طفلة ممتونة!!) حقا لماذا بكيت؟! أنا الطبيبة التي شاهدت عشرات الأطفال وسرطان الدم (اللوكيميا)ينهش أجسادهم وأرواح أمهاتهم ولم تنزل لي دمعة واحدة ! كم من طفل مررت عليه يختنق من أجل شهقة هواء واحدة تأبى الدخول في صدره بسبب ربو قصبي أو مرض تنفسي مزمن، ولم أرتعش ،أعالجهم ومقلتاي جامدتان لاتدمعان! لم بكيت حينها؟! إنه التوقيت الخاطئ فحسب. بلى، فقد انفجر البركان لكن بالوقت الخطأ. فقد كنت أشكو عذاب الغريب ، الغريب الذي يجابه بالرفض بلاذنب يقترفه سوى إنه ليس منهم. عذاب الإختلاف، اختلاف البيئة،التقاليد، المكان. أن تثق بالقارب وتفرح بالسفر لتكتشف وسط البحر أن القارب مثقوب. وحدتي والغربة التي أعانيها وهرمونات الحمل تآمروا علي ، فبكيت في موضع لايستحق البكاء. لست صديقة للدموع ، الجلد والتماسك ديدني. حتى مع أبطال قصصي ورواياتي لم أكن حيادية ، كنت أجلدهم بسياطي كي ينهضوا بعد كل كبوة، لم أدعهم يعيشوا خيباتهم بسلام ،فمعنى الإنسان لدي هو الكرامة والحرية تمشي على قدمين. لكن كل المشكلة في اختيارنا للتوقيت الخطأ.. فمن يحتاج البطيخ في فصل الشتاء؟! هاهو يتعفن في الأسواق حين أصروا على زراعته وطرحوه لنا شتاءا. انقطعت عني تلك الإنفجارات البركانية المباغتة منذ عدة سنوات،حين تيقنت أن (التوقيت هو من يعطي للحدث أهميته). فالزوجة التي طلبت الطلاق من زوجها وهما يرتشفان قهوتهما الصباحية بعد عشرين سنة اتهمها الزوج بالجنون والبطر ، لما تطلب الطلاق بعد عشرين عاما من الصمت ؟! لاسبب مقنع . الحقيقة أن بركانها انفجر بعد أن ظنوا أنه خامد أمين ، فقد كتمت الرفض أعواما وحين خرج ، كان الوقت قد فات. التوقيت هو من يعطي الحدث أهميته . فالصبر مفردة تعاني من سوء استخدام المعنى…. وكظم الغيظ مصطلح (هضمناه)بشكل خاطئ فأصابنا(عسر هضم نفسي) حين قلنا (نعم) في المواقف التي لابد أن نقول فيها(لا).. فلا صلاة للفجر بعد أن تشرق الشمس…. فما إن تشرق الشمس عليك أن تركض غزالا كنت أم أسدا كما يقولون. #