قراءة في مسرودة الروائي شوقي كريم حسن
الناقد.. علي لفته سعيد
منذ العنوان تدرك أن رواية ( سيبندية) تنتمي الى الأدب الغاضب، لكنها ايضا تنتمي الى أدب الديستوبيا حيث تمرّدها على الواقع وانتماءاتها الى ما بعد واقع الانهيار الذي حصل في العراق ما بعد 2003 حيث انقلاب التيارات السائدة التي كانت توصف بالعقلانية لتحتل مكانها التيارات المتمرّدة التي لا تكتفي بالوصف من بعيد، بل الخوض والغوص في عميق وحداتها الدالة وتفتيتها.
فالعنوان المجرد من (أل) التعريف هو الخطوة الأولى للنظر الى حالة الغضب التي انتابت عملية الإنتاج والتي أخذت على عاتقها مهمّة التحوّل من لغة الروائي الى لغة الراوي المنيب والعكس صحيح. ولأن العنوان كما أراه بوّابة المدينة التي تدخل الى عمق النص وزواياها وخفايا وتأويلاته وقصدياته فأنه أيضا سيكون الضوء الذي يسلّط على الممكنات الآلية التي تنتج هكذا عمل بدأ بعملية استفزاز سواء من ناحية اللفظ المخالف للعادات الاجتماعية أو لكونه الخطوة الأولى للحديث عن المسكوت عنه، كما أنه البداية للدخول الى عالم التابوات. فالغضب في الرواية هو ردّ الفعل لفعل الواقع الذي حتّم على المنتج أن يوصم ويوصف ما يريده بهذه الكلمة التي لها مردود (سيّء) في الذاكرة المعانية للمتلقّي العراقي.
إن أولى الأليات التي جعل منها المنتج خطوةً أخرى ما بعد الدخول من بوّابة العنوان هو التنويه الذي يأتي مساعدًا ليس للفكرة بل لوضع المتلقّي أمام حالةٍ من الترقّب وكأنه يضع الخريطة العامّة أمامه للسير في مدينة النص، سواء من ناحية الفكرة والحكاية أو الشخوص والصراع، وكذلك الزمان المختار والمكان المحدّد. وهو بهذا جعل من هذا التنويه منطقةّ عليا يقف عليها المتلقّي ومن ثم النزول الى المدينة والبدء في (فحص) شوارعها. ففي هذا التنبيه أسبقية حكائية مرتبطة بجملة (ذات حكاية.. سمعت حكيما خبر الدنيا…) وهي مقدّمة ربما تكون لدى البعض تخفيفًا من حدّة المراقبة والتلاعب من أجل الوقوع بالمعرفة المسبقة أو أنها تساهم في حصاد كميّة المعرفة لماهيّة ما قاله الحكيم الذي سيتحوّل في النص الى راوٍ يحكي لكنه يحمل لغة السرد في المضي بلعبته الإنتاجية التي تعتمد على أدوات أولية. لكن هنا في التنويه كان الحكي عبارةً عن فكرةٍ مسبقة، وكانت الفكرة قد ارتدت ثوب الاستباق لكي تكون دلالةً على ما سيأتي، خاصة وأنه يلحقها بنصٍّ من (شكسبير.. بهلوان الملك لير)
أن الفعل الغاضب يبدأ منذ أوّل عنوان لأقسام الرواية مدخل …”أبجدية اليتم (المساحة واسعة بين القيم والرذيلة)” وهي هنا تقع ثمرة الفكرة التي يريد المنتج أن يقطفها المتلقّي فيبدأ نصّه بالمستوى الإخباري العام من خلال ربط عنوان القسم بافتتاحه بما ولدته من شخوص أعطت الواقع الزمني مثلما أعطت الواقع السياسي بعض ملامحه من خلال الأسماء والعمر والزعيم الذي سيذهب المتلقّي العراقي الى حيث ارتباطه بعبد الكريم قاسم. لتتوضّح الصورة الأولى لردّة الفعل التي أنتجت الفكرة والانحياز لها بشكلٍ واضح، وهي التي يراد لها أن تصنع فعلًا لواقعٍ احتاج فيها المنتج الى استخدام أكثر من طريقةٍ للعب في عملية التدوين. فالإخبار لديه كان باستخدام الغائب (وقفت العجوز…) لتتحوّل الطريقة بعد عدّة اسطر الى استخدام المخاطب (لكنك اندهرت بكرم عفوك…) وكأنه يخاطب مباشرةً الزعيم الذي يصفه (كرّومي). لتأخذ عملية البناء في الدخول الى الاستهلال عدّة نقاط مهمّة تعطي أسبابًا لهذا التنوعّ في الطرق السردية.
أوّلها: لكي يتخلّص من الروي المباشر الذي اعتادت عليه الروايات التي تستلهم الواقع، وخاصة التاريخ القريب من وصف الحركة والتصوير.
ثانيها: لكي يمنح المغامرة السردية علوّ مكانتها من خلال استخدام لغة رويّ لا تنتمي الى اللغة المتصاعدة أو الأفقية في مراقبة الحدث من الخارج، بل من خلال تثوير اللغة ذاتها لتعطي مفهوم المتن السردي محمول المبنى الحكائي والعكس صحيح.
ثالثها: لكي يتمكّن من الخروج من اللحظة الزمنية الى لحظةٍ أخرى وهو الأمر الذي يقود الى التنوّع في الأمكنة ايضا مثلما يتنوّع في الشخوص وأماكنهم، وهو ما يعني حاجة المتلقّي الى وضع ورقةٍ وقلمٍ ليسجّل الأشخاص وترتيبهم الاجتماعي من جهة، ومقبولية واقعهم من جهةٍ أخرى.
رابعها: لكي يعطي صورةً متكوّنة من واقعٍ صوري عبر اللغة التي تمنحه القدرة على الاستطالة والتمدّد في المشهد الواحد، من أجل أن تكون العملية لها الاستمرارية الدرامية، ولها غايتها سواء من خلال التفاعل ما بين اللحظة الزمنية وبين طريقة الإنتاج أو بين اللحظة القصدية وبين التحليل، وهو يقود المستويات السردية الى الأخرى
خامسها: لكي يتمكّن من استخدام أكثر من مستوى بذات المتن وذات العقبة السردية إن جاز التعبير من خلال دمج المستويات السردية ومنها الإخباري والتصوير ي والتأويلي والقصدي ومن ثم يجمعها المستوى التحليلي عبر ربط المناطق والأزمان سواء الحاضر الذي احدث بها المنتج في الاستهلال أو الماضي القريب الذي يأتي ما بعده لتقشير الأجواء الى محتويات زمنية.
سادسها: لكي لا يعطي مجالًا لمعرفة الاختلاف بين من يتحدّث ومن يروي، ما دامت اللغة واحدة في التصرّف والتصوير للوصول الى الحجّة الرامية والى معرفة التفاصيل الخاصة بالحكاية والفكرة.
إن هذه الأسس اعتمدت عليها الحركة الفعلية للرواية، ومن خلالها يمكن لنا رؤية باطنها وظاهرها معا. فالراوي/ المنتج لم يكتب روايته على أساس التصاعد العمودي أو الأفقي للفكرة والحكاية والمبنى والمتن السردي، بل أراد أن تبدو وكأنها عملية كسر المركز وتفعيل الهامش. المركز القوة العليا والمركز القاع المجتمعي، ولهذا فإنه ينظر الى المركز من خلال عيون الهامش، وينظر الى الهامش من خلال عيونه الخاصة التي أرادها أن تبيّن انتمائه لها. وهذه الطرقة في التدوين جعلت له القدرة على الاستحكام والمراوغة حيث يشاء وأنّى يشاء وكيف يكون ومتى يقطع الروي ومتى يعود الى الحوار. وهذه الطريقة مكّنته من إيجاد طريقة قد تحتاج الى متلقٍّ واع له صبر وأناة في المتابعة والتدقيق وجمع المعلومات. ولهذا فأنه يضع أمام المتلقي عدّة نقاط.
أوّلها: إنها مكّنته من الإفلات من قبضة الطبقة العليا وإن كانت هي الجامعة / السلطة/ الزعيم/ العشيرة/ المدينة.. والوقوع فيما يريد الى الطبقة الهامشية.
ثانيها: إنها مكّنته من طرق أبواب المسكوت عنه دون الخوض في التفاصيل الكلية لها ،لكنه على الأقل تمكّن من بزّ البالون دون تفجيره فالمحظور محظور ليس من قبل المتلقّي، بل من قبل المنتج نفسه.
ثالثها: اللجوء الى القاع وكشف المستور عنه وليس المقدّس أو المسكوت عنه، بل هو الواقع الذي مرّةً يريده مدنّسًا ومرّةً يريده مقتولًا لعلّه ينتصر.
رابعها: إنه تمكّن من جعل صندوق الجدّة كمحورٍ مهم من محاور الروي وهو ما جعل المضي بالفكرة أن تأخذ الحكاية الشعبية وما يرتبط بهذا الصندوق (المقدّس) كونه المتضمّن أسرار المكان والواقع السياسي والاجتماعي.
خامسها: إن بإمكان المنتج أن يستولي على كلّ التفاصيل والانتقال من صيغة روي الى أخرى، ومن خلال تفاعل المنابع مع المصب الواحد لوصول الى التأويل. وكما اعتقد فإن الجملة التي قالتها الجدّة هي محور الحركة والتأويل والقصد الذي أراد المنتج أن تكون هي المرآة العاكسة لفكرته (- كرومي دنيانا بدأت بالزعيم وتنتهي به، ان لم يعد اخبر اصحاب كتبك هذه ان يحرقوها او احرقها انت .. الفقير الذي لا يقرأ كتباً لا تتحدث عنه) ص
سادسها: إنه تمكّن من إخفاء البطل الكلّي (الزعيم) وإبراز الأبطال الآخرين على أنهم أداة التوصيل لما يريد، بمعنى إن البطل الرئيس هو البطل المحوري ونقطة الارتكاز وكلّ الحركات تدور حوله.
المستويات السردية واللغة
تمتاز تجربة شوقي بخزين كبير من اللغة. وبقدرةٍ كبيرة على مناورة، قد تنفلت هنا عقدة أو رأس خيط بالنسبة للمتلقّي لكنه أيّ المنتج لا يعدّها إلّا محاولةً فنيّةً في عملية السرد، لذا فإن التدوين بالنسبة له يعتمد على عددٍ من المستويات.
الأوّل: المستوى الإخباري الذي يسيطر على نسبةٍ كبيرةٍ من المتن السردي، وهو مستوىً يقود الحركات الكلية (اتّكأ الكركدن على جدر الاسئلة التي لم يجد لها إجابة) ص124 وبذات الصفحة مثلا (قال القمي/ كيف استدل على دروب النسيان ابن الحفافة التي ما تركت شرفا إلا وهتكت ستره)
الثاني: المستوى التصويري وهو المستوى الذي يأتي مرافقًا للمستوى الأوّل وهو المسؤول عن توضيح المكان وصور الشخصيات (أخذا الأب مبهج الروح الى حضنه، الذي شعرته شبيها ببحر هائج) ص 164
الثالث: المستوى التحليلي الذي أخضعه المنتج الى عملية التحليل للآراء السياسية المسبقة وهو الأمر الذي يتحوّل فيه المتن السردي من الراوي الى الروائي (لم يعد ثمة من يتمسك بهدوء نفسه، غدت النداءات شارات نهاية مرعبة لليلة مشوبة بالترقب) ص166
الرابع: المستوى القصدي وهو الذي يكون في خاضعا للمتلقي وان جعله المنتج على لسان ابطاله مرة او على لسان راويه مرة اخرى او يأتي على شكل حوار وهو في أكثر من موضع في الرواية ( قالها الأب- يا لها من نهاية تعيسة، الخطوة الخطأ لابد ان تصل الى نتائج شديدة الخطورة )ص192
أما المستويات الأخرى فهي متوافرة ضمن هذه المستويات التي اعتمدت في بنائها الكلّي على ما تمنحه اللغة من مفعولٍ شعري مرّة، وسرديّ واصفةً مرّةً أخرى، حتى أن المتلقي قد يقف أمام بعض الكلمات التي قد يجدها غير مترابطة، لكنها تأتي ضمن السياق الذي تبنّاه المنتج كما في بعض الاقتباسات التي ذكرناها في أعلاه.
ولهذا فإن اللغة ومردود الفكرة، هي محمل المأونة التي تعين المنتج على المضي بما يريد طرحه، كونه لا يعاني من شحّ المفردات ولا الجمل ولا التبويب لها داخل المتن وأيّة منطقةٍ في الجسد الروائي، حتى عناوين الأقسام التي يبدأها بعنوانٍ ويليها ما يعتقد أنه تقشير لما يأتي . ولهذا فإن الاتّساع الرؤيوي احتاج الى عددٍ كبيرٍ من الشخصيات والى عددٍ كبيرٍ من الأوصاف والأماكن وهو ما جعل الحوار يتداخل مع المتن في أوقاتٍ كثيرة للكشف عن ماهيّة العنوان الرئيس الذي أضحى ليس البوابة الرئيسية التي يدخل منها المتلقّي الى مدينة النص، بل هو النتيجة الحتمية لما يريده المنتج من فضح العالم وسبغ مستواه القصدي، وبالتالي يضع على عاتق المتلقّي من هم السيبندية. فكانت اللغة مفتاح المتن والمعوّض عن تلك الانتقالات الكثيرة من شخصيةٍ الى أخرى، ومن واقعٍ تأسيسيّ للمتن الى واقعٍ هامشي أخر (فقأت (دنوش) مواجع والدها الذي كان يرنو الى قصي المسافات. لكنها تعمدت تجاوز أوارات روحه المدلهمة بغيوم القلق والمواجع) ص48
إن الرواية في مجموعها العام هي رواية الغضب التي لا تريد أن تصنع فعلًا، بل جاءت كردّة فعلٍ على الواقع الذي يريده المنتج أن يكون هو البديل للواقع الحالي المأزوم باعتبار القصديات قد تجمعّت على أن ما حصل في زمن الزعيم قاد الى الوقوع بسيبندية الزمن الحاضر.