حاوره: شوقي مسلماني
يحظى الشاعر وديع سعادة باهتمام النقّاد والقرّاء على نحو متزايد سنة بعد سنة منذ مجموعته الأولى “ليس للمساء إخوة” التي صدرت عام 1973 وحتى مجموعته الأخيرة “رتق الهواء” التي صدرت في أوائل العام الجاري، ومنشأ هذا الاهتمام ليس أسلوب سعادة المتميز في الحفر، وهو الأسلوب الذي يتبناه باندفاع شعراء شباب كثر في العالم العربي وتحديداً في مصر… ومنشأ هذا الاهتمام ليس أيضاً بلاغة الصورة في شعره فحسب، بل أيضاً للأعماق السحيقة التي يتصف بها شعره إنسانياً في الدرجة الأولى. ولذلك يشدد سعادة على تفضيله أن يكون “يساريّاً حتى العظم” لفضح “ما يقترفه اليمين ضدّ الأمم والشعوب والجماعات والأفراد والإنسانية عموماً”، فاليساريّة هي “المعارضة لا الموالاة بالمعنى الواسع والعميق للكلمة. إنها الادّعاء العام على ما يجري وليست الدفاع. إنها عين الناقد وليست عين المدّاح”.
وأكثر من ذلك، يرى الشاعر وديع سعادة أن الشعر “هو سياسة أيضاً” فلا فصل مطلقاً، وإذا الشعر هو السياسة بامتياز فبشرط سمو السياسة بما هي “تمرّد ورفض ونقد واستشراف”. ووديع سعادة المتابع النهم لعالم الشعر الحر والقصيدة النثرية هو صاحب وجهة نظر في ما يثار من جدل مستمر عربياً حول الشعر الحديث، ويؤكد أن هذا الشعر قد تخطى عربياً مراحله الأولى وبات ذا “مفاهيم جديدة ورؤى جديدة وأشكال جديدة” وعليه فلا مسوّغ لمؤتمر يتناول قصيدة النثر بعد خمسين سنة من عمرها وكأنها لا تزال في سنتها الأولى. ويقول سعادة بهذا الخصوص إنّ المؤتمر الذي عُقد أخيراً في بيروت حول قصيدة النثر “أعتبره مؤتمراً سلفياً مضى عليه الزمن. نحن في زمن آخر وفي شعر آخر”.
ويستنكر وديع سعادة عموماً كل أشكال السلفية التي تطغى لتعبث بانغلاقها حتى بالشعر، وهو ما يفسّر حذف كلمة “الله” في العديد من قصائده التي وردت في كتاب صدر عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب” ضمن سلسلة “كتابات جديدة”، وهذا الحذف بتأكيد سعادة “جعل تلك القصائد مشوّهة فعلاً، الأمر الذي يسيء بالتأكيد إليّ وإلى شعري”. وليس ما سلف هو كل ما يقلق الشاعر وديع سعادة، فإلى هذا الحوار معه:
* “رتق الهواء” هو مجموعتك الشعرية التاسعة بعد “ليس للمساء إخوة”، “مقعد راكب غادر الباص”، “محاولة وصل ضفتين بصوت” وغيرها من المجموعات، وفي جميعها أنت تنشد خلاصاً لا يأتي. هل تعتقد فعلاً أنك بالشعر يمكن أن تنجو؟
– قد يكون الشعر ورطة، وبالتأكيد هو ليس خلاصاً. أقصد ورطة التوهم بأنه قد يحمل خلاصاً ما، خلاصاً ذاتياً للحظة فقط هي لحظة الكتابة. لم أذهب في وهمي يوماً إلى حد الاعتقاد بأن الشعر قد يكون خلاصاً للعالم إنما كتبت دائماً من منطلق وهم خلاص ذاتي لحظوي أجمل ما فيه، ربما، تبديد لحظات من الوقت. هكذا، بالكتابة، نحاول تحويل لحظات الزمن الثقيلة إلى لحظات أخفّ، لكي يعود بعد ذلك كل شيء كما كان، ولكن مع شعور وهمي آخر هو شعور النصر على برهة من الزمن، وبأننا صنعنا هذه البرهة كما نحن نريدها لا كما تريد هي أن تكون.
* في مجموعتك “نصّ الغياب” قلتَ وداعاً للكتابة وما لبثت بعد سنتين أن أصدرت مجموعة “غبار” ثم “رتق الهواء”. أحقاً كنت تفكر بهجر الكتابة؟ أم كنت تقارب الهزيمة في حدها الأقصى من زاوية الاستسلام في حدها الأقصى أيضاً؟
– الوقت، الوقت. ماذا أفعل بالوقت؟ هذا السؤال هو الذي، على الأرجح، أعادني إلى الكتابة. وهذه العودة كانت ربما، كما قلت أنت، مقاربة الهزيمة في حدها الأقصى من زاوية الاستسلام في حده الأقصى أيضاً. قلت سأهجر الكتابة وهجرتها فعلاً زمناً ليس قصيراً. لكنه كان زمناً ثقيلاً، فقلت أبدّد منه لحظات بالكتابة فكتبت “رتق الهواء” وبدأته بالقول: “إنني أبدّد الوقت”. إذا كانت الهزيمة بلغت حدها الأقصى فلماذا لا أستسلم لها إلى الحد الأقصى؟ وهذا الحد الأقصى من الاستسلام كان بالنسبة إليّ العودة إلى الكتابة.
* ما هو تقويمك للنقد في العالم العربي وبالتحديد نقد الشعر، وهل فعلاً سنة ضوئية تفصل بين المنتَج الشعري والمنتَج النقدي؟
– أرى أن نقد الشعر تخلف عن مواكبة الشعر، ليس اليوم فحسب بل منذ ستينات القرن الماضي. الوليد المختلف لم يحظ بفهم مختلف ورؤية مختلفة. ظلّ معظم النقد أسير زواياه وأقفاصه، فيما انطلق الشعر إلى أجواء وأمكنة جديدة.
للشعر الجديد مفاهيم جديدة ورؤى جديدة، إلا أن معظم النقد تعامل معه من منطلقين: إما بذهنية قديمة تتلخص بالرفض الأعمى لهذا الشعر وهو ما أسميه النقد الإقصائي، وإما باستسهال وعجلة اتسم بهما النقد الصحافي الذي يكتبه معظم النقاد في الصحف، وكأنما فقط لتأدية وظيفتهم في الصحيفة التي يعملون فيها، وهو ما يمكن تسميته بالنقد الوظيفي.
كذلك أفسدت هذا النقد الاعتبارات الشخصية والمصلحية والعلاقات العامة بين الناقد والشاعر، ما جعل أحياناً من زؤان الشعر قمحاً ومن قمح الشعر زؤاناً. مسألة أخرى وهي أن النقد العربي عموماً لديه ما هو أشبه ب “عقدة نقص” تجاه الأسماء الشعرية المشهورة، ما يجعله يكيل المديح دائماً لصاحب الشهرة مهما كانت نوعية كتابته من دون عناء تمحيص أو نقد جدي عميق.
* في إحدى الجلسات أبديت تذمراً من دور النشر والتوزيع العربية، هل لهذا التذمر علاقة مباشرة بمجموعتك الأخيرة “رتق الهواء”؟
– دور النشر والتوزيع العربية هي دور تجارية همّها التجارة أولاً والتجارة أخيراً وليس بينهما حقوق الكاتب. بالنسبة إلى “رتق الهواء” أو مجموعاتي الأخرى أو أية مجموعة لغيري لا يخرج الأمر عن هذا المفهوم، كما أن هذا الأمر لا يقتصر على دار بعينها.
* الهيئة المصرية العامة للكتاب أعادت منذ سنة تقريباً نشر العديد من قصائدك في كتاب (310 صفحات) ضمن سلسلة “كتابات جديدة” وجرى تشويه بعض القصائد من خلال اقتطاع أسطر ومفردات، فهل تمّ ذلك بالاتفاق معك؟ هل هو مقص الرقيب؟ هل هي الرقابة الذاتية التي تفرضها على نفسها الهيئة المصرية العامة للكتاب؟
– خلال زيارتي القاهرة عام 2001 جرى اتفاق خطي بيني وبين المسؤولة عن سلسلة “كتابات جديدة” الشاعرة سهير المصادفة وفي منزل الشاعر أحمد طه وبحضوره وشهادته. وتضمّن هذا الاتفاق موافقتي على إعادة نشر ما تشاء الهيئة المصرية العامة للكتاب من قصائدي ولكن بشرط أساسي هو “عدم حذف أو تغيير أي جملة أو أي كلمة” في هذه القصائد. لكن ما جرى أنّ جملاً وكلمات حذفت من سياق أكثر من قصيدة ما جعل تلك القصائد مشوّهة فعلاً، الأمر الذي يسيء بالتأكيد إليّ وإلى شعري.
لا أعرف سبب هذا الحذف، ربما هي الأصولية الدينية في مصر التي دعت الهيئة المصرية العامة للكتاب إلى اقتراف ذلك، لاسيما أن معظم ما حذف يتضمن كلمة “الله”. ولذلك فإن شكري للهيئة المصرية العامة للكتاب على اهتمامها بإعادة نشر شعري لا يمنعني من أن ألومها على عدم التقيد بالاتفاق الذي جرى بيننا، إذ كان عليها عدم نشر تلك القصائد إذا كانت لديها اعتبارات خاصة، فذلك كان أفضل من نشرها مشوّهة.
* ماذا يعني لك أن يُعقد مؤتمر بمناسبة مرور نصف قرن على ولادة قصيدة النثر العربية وذلك أخيراً في بيروت؟ هل اطّلعت على المداخلات الي أُلقيت في هذا المؤتمر أو بعضها على الأقل؟
– قرأتُ كل مداخلات المؤتمر وما كُتب عنها وعنه من تعليقات وخرجتُ باقتناع تقريباّ أنّ العرب ما زالوا وكأنّ قصيدة النثر في السنة الأولى من ولادتها عندنا.
لا أعرف ما استدعى عقد هذا المؤتمر. هل هو التأكيد على شرعية قصيدة النثر وشعريتها وقد مضى عليها مكرّسة شرعياّ وشعرياً نصف قرن؟ لو عُقد هذا المؤتمر قبل 50 عاماً لقلنا نحتاج إليه، أما اليوم فما هي الحاجة؟ ثم هل لا يزال الشعر العربي اليوم في مرحلة “قصيدة النثر” بمفاهيمها السابقة كما أوردتها سوزان برنار ونقلها عنها بعض الشعراء العرب؟ بالتأكيد لا. نحن اليوم في ما بعد قصيدة النثر، في مفاهيم جديدة ورؤى جديدة وأشكال جديدة للشعر تكسر غالباً الأشكال المتعارف عليها. المؤتمر الذي عقد أخيراً في بيروت أعتبره مؤتمراً سلفياً مضى عليه الزمن. نحن في زمن آخر وفي شعر آخر.
* أتعتقد أنه من الخطأ الزجّ باسم الشاعر المتنبي في حمأة الجدل الذي لا نهاية له على ما يبدو بين أنواع الشعر العمودي والتفعيلة من جهة وقصيدة النثر من جهة أخرى، أو بين الكلاسيكية من جهة والحداثة من جهة أخرى؟
– أعتقد أن الزجّ بالمتنبي في هذا الجدل هو أكثر “خطأ” من عقد مؤتمر لقصيدة النثر، وينمّ عن ذهنية أكثر سلفية. نحترم الماضي بالتأكيد، ولكننا لا نحترم إيقاف الزمن. فأنا أرى أن الشعر مثل أي شيء آخر هو للحاضر وللمستقبل وليس للتجميد في الماضي مثلما كان الشعر في الماضي ليس تجميداً في ماضيه أيضاً.
* البعض يهوى تصنيف الشعر فيقول: جيل الستينات وجيل السبعينات وجيل الثمانينات… هل تؤمن بهذا التصنيف؟ ما الحكمة وراء هذا التصنيف؟ أم الأمر مجرد استسهال؟
– حتى لو افترضنا استخدام هذه التصنيفات لتحديد فترات زمنية للإنتاج الشعري، فإن هذا الافتراض لا يصح لأن شعراء الستينات أو السبعينات مثلاً لم يتوقف إنتاجهم في تلك العقود، ولذلك لا يجوز حصرهم في عقد معيّن. كذلك هناك من “جيل التسعينات” من يكتب بذهنية “جيل الستينات”، ومن “جيل الستينات” من يكتب بذهنية “جيل التسعينات”، وما إلى ذلك… إذن إنها تصنيفات غير دقيقة ولا تحمل صحة تعابيرها.
* ما هو تعريفك لمفردتي المعاصرة والحداثة؟ وهل المعاصرة والحداثة هما في الزمن أم في الإبداع؟
– قد أكون معاصراً، أي أعيش في هذا العصر، وذهنيتي تنتمي إلى عصر آفل، فأنا لست حداثياً إذن ولو أنني في عصر حديث. المعاصرة هي في الزمن، لكن الحداثة هي في المفاهيم وليست زمنية. كلنا اليوم معاصرون، لكننا لسنا جميعاً حداثيين.
* هل يمكن فصل الأدب والفن عموماً عن السياسة؟ وإذا لا، هل للالتقاء بينهما حدود؟ وإذا نعم، هل للانفصال بينهما حدود؟
– الشعر والفن سياسة أيضاً، بمعنى الرؤية إلى أمور الحياة والموقف منها ومفهوم الوجود على ما هو عليه وما يجب أن يكونه، وبمعنى التمرد والرفض ونقد الحاضر واستشراف المستقبل… هذه هي السياسة بمعناها السامي، والشعر والفن هما أعلى سموّها. لذلك لا فصل بين السياسة والشعر والفن عموماً إذا كان الشعر والفن في هذا السموّ السياسي، لكن إذا تدنّى الشعر والفن إلى مستوى السياسة المتدنيّة، لا يكونان شعراً وفناً ساميين، ولا السياسة كذلك.
* إذا جرى تصنيفك كيميني أو يساري أي التصنيف تختار؟ بسؤال أدقّ: هل أنت يميني أم يساري؟
– لا أعتقد أن هناك مثقفاً حقيقياً ينتمي إلى اليمين، لاسيما في هذا العصر. هناك كتّاب يمينيون طبعاً، ولكن ثمة فارق كبير بين الكاتب والمثقف. الثقافة، في رأيي، هي يسارية دائماً. إنها المعارضة لا الموالاة بالمعنى الواسع العميق للكلمة. إنها الادّعاء العام على ما يجري وليست الدفاع. إنها عين النقد وليست عين المدّاح. إنها، اليوم في الأخص، فضح ما يقترفه اليمين ضدّ الأمم والشعوب والجماعات والأفراد والإنسانية عموماً، ورفض هذه الاقترافات والتمرّد عليها. على الثقافة اليوم وفي كل عصر أن تقول “لا” وليس “نعم” لما أشرنا إليه. أن تكون يسارية لا يمينية. ولذلك أفضّل أن أكون يساريّاً حتى العظم.
*-مجلة “إيلاف” الإلكترونية في 26/6/2006