عـادل عطيـة
في لحظة غاضبة في وجه تداعيات الزمن ـ ربما لم تكن مشحونة كفاية بالتفاؤل ـ، قال الرئيس الفرنسي الأسبق “شارل ديجول”: “الشيخوخة حطام سفينة”!
وعندما تهتریء السفينة الإنسانية: أباً، أو: أماً.. الآتية من انهيارات الشيخوخة، الباحثة عن شواطئ آمنة وهادئة ودافئة من الأبناء، لترتاح قليلاً من أتعابها في أحضانهم، تهب العواصف الهوجاء المحملة بالأنانية والإنكار، وتضرب أمواج التجاهل والإهمال السفينة، حتى تمتلئ بالإحساس بالغربة في بيت الأحباء: نفسياً، وعاطفياً، ووجدانياً. وتكاد تغرق في بحر الآلام العميق!
يصرخ أحدهم بغصة أفسنتينية: أبنائي، فلذات كبدي، تركوني محتقراً ومرذولاً مع المرض والألم، وانتظار الوفاة في مأوى للعجزة!
يدافع أحد الأبناء عن ذاته: قائلاً:
إنني أعمل أغلب ساعات النهار، وزوجتي لها اهتماماتها خارج البيت وداخله، وليس لدينا الوقت لرعايته، ولم نجد أفضل من “بيت رعاية المسنين”، مستقراً له، حيث: الضيافة ، والعبادة، والصداقة، والوقاية، والاستفادة من الطاقات!
ولكن الأب، يشتاق لمن يفتقده من أبنائه، ولو في إطلالة واحدة في الشهر، وفاءاً لكفاح السنين؛ لكي يكونوا في مكانتهم!
ويقول ابن أخر:
إن أبي لم يعد متزناً ولا منضبطاً في أقواله، وفي أفعاله، إنه يثير المتاعب الجمة: لي، ولزوجتي، ولأولادي، حتى جيراني ضجروا منه. إن وجوده في وسطنا، أمسى معاناة!
يا له من إبداع لا إنساني، تحويل القول الرديء إلى فعل أردأ وقاسٍ!
ويقول أحدهم في أسى: أنا أملك حق الوفاء الأدبي لأبي، ولكن زوجتي ترفض مشاركتي حمل متاعبه؛ فماذا أفعل؟..
هل يظل أبي معي، وتذهب زوجتي؟.. هل يخرب بيتي؟!..
إن هذه الزوجة لا تعلم من أي روح هي، فالذي لا وفاء لوالديه، لا يحمل الوفاء لشريك حياته، والذي يزرعه الإنسان، إياه يحصد أيضاً!
ويقول أحد الأبناء، معتقداً أنه عثر على المبرر الكافي، ليلفظ والده:
أبي مريض بداء فقدان الذاكرة “الزهايمر”، وأشعر بأسف عندما أتأمل الانحدار السريع في قواه العقلية، فلم يعد يعرفنا، بل ولم يعد يعرف حتى نفسه. أعتقد أنه لم يعد مهماً، أن نكون بقربه، أو: لا نكون!
وقبل أن أقول له: أن الشيوخ بركة لمجرد وجودهم في وسطنا، وحتى وإن لم يكونوا يدركون ما حولهم، فالله يدرك، ويقدر أن يعطينا نعمة الإدراك، لنفهم أنه يعين ويعوض المعروف، ولكل أمين حتى الموت: بالخير، والبركة.. أذهلتني حفيدته الصغيرة، بقولها: إنني أمسك بيد جدي، وأصلى من أجله كل يوم، كما كان يفعل من أجلى!
الأبناء، ثمرة عمل إلهي، أشترك فيه الوالدين، لذا فالبنوة الصادقة لا تنسى جميل الله الذي أوجدها، وكرامة الأبوين اللذين اشتركا مع الله في وجودهم. ونحن لا نستطيع أن نرد أو نكافئ جميل الله إطلاقاً مهما أخلصنا، إلا بسعينا كأبناء لكي نفرح قلبه. فمتى يتنازل كل طرف عن ذاته ويتلاقى الكل في وحدة تشهد للإنسانية الواحدة؟، متمثلين بما كان يفعله آباؤنا مع آبائهم: لقد اعتبروا والديهم الصورة الأصلية التي تفتحت عيونهم عليها، ليروا الله فيهما، وإكرامهم وصية إلهية، تصان في حياتهم، وبعد رحيلهم، بتحملهم في شيخوختهم، والصلاة من أجلهم. لقد تمسكوا بالوصية، وحسبوا قوتهم في ضعف آبائهم تكمل؛ فكانوا من محبتهم يسيرون معهم في طريق الألم، ليحتملوا كبديل عن والديهم: كل تأثيرات الشيخوخة، راضين غير متألمين، شاكرين غير متذمرين، ويودعونهم إلى شاطئ الأبدية في سلام، عارفين: بأن ما يفعلونه الآن بآبائهم، سيحصدون أمثاله، وأكثر، من أبنائهم!
فمتى نتمثل بهم، ومتى نتحرر من عبادة المشاعر الذاتية، إلى شركة حمل الآلام المبرحة مع آبائنا، وتكون حياتنا اليومية محبة محتملة، ومضحية؟..
إن مجرد وجودنا مع آبائنا في محنتهم، تأييد منا لإيماننا بالله، ولمحبته، ورعايته!…