جماليّات التبادل المسافاتيّ في النص الشعري القصير : قراءة نقدية مسافاتية في مسرح قصيدة النثر للشاعر بدر السويطي

شارك مع أصدقائك

Loading

د.مسلم الطعان

 

مسافة إستهلالية :
في معظم تجاربه الجماليّة في كتابة وصياغة نص مغاير، يؤسّس الشاعر بدر السويطي بنية تصويرية مدهشة رغم بساطة الكلمات، وربما حتى بساطة الثيمة المركزية لنصه الشعري الذي عادةً ما ينتمي الى سلالة النص الشعري الوجيز، بيدَ أن لغته تكون مشبّعة بالدلالات والمحمولات الرمزية، إذ يشتغل الشاعر على فكرة التبادل المسافاتيّ، وتلك الفكرة تعبر عن التبادل الدرامي للأدوار التي تقوم بها الشخصيات المفرداتية فوق خشبة مسرح القصيدة. كل نص شعري توجد فيه بؤرة جماليّة للإشتغال المسافاتي الزمكاني، تجذب حتى قارئ النص لتشركه في تفاصيل الحركيّة الدراميّة للنص، فالقارئ-المتلّقي يشعر بأنّ كل مفردة تشحن بطاقة جماليّة تجعلها تتشظى مسافاتيّاً أو تتوّزع بهيئة مسافات جماليّة في جغرافيا النصّ.
*مسافة النص الأول:
(كل ما هنالك
إنها كانت تحاول
أن تتنفس
أن تخرج رئتها
من عنق الزجاجة
الحرية)
*مسافة القراءة النقدية:
لكي تتحقق ثيمة التبادل المسافاتي في مسرح القصيدة، لابد للنص بأن يرتدي بدلته الزمكانية، بمعنى أن المسافة الجمالية للنص تتكون في واقع الحال من مسافتين هما: المسافة المكانية والمسافة الزمانية، إذ يشحن كل منهما بنية النص بشحنات جمالية تترجمها الشخصيات- المفردات عند احتدام لعبة التصادم الدرامي وحدوث الاشتباك الثيمي لمفهوم التبادل المسافاتي.
يفتتح الشاعر-الراوي حديثه مشيرا للمكان بقوله:(كل ما هنالك)، وهنا مفتاح للشروع بفعل درامي تجسده شخصيات أنثوية تؤدي دورها وفق مفهوم التبادل المسافاتي. فالشخصية الأولى هنا شخصية ذات فعل ماضوي تتبادل شحناتها مسافاتيّاً عندما يتم الحوار مع الحاضر، فتلك الشخصية ( كانت تحاول) أن تقوم بفعل زمكاني يجسّد الإصرار على المحاولة للتنفس وكأنها تخرج من القاع للسطح.
وهي تحاول أيضا (أن تخرجَ رئتها/ من عنق الزجاجة)، وهنا وقبل الوصول إلى الخاتمة المسافاتية للمشهدية الدرامية للنص ربما يتساءل جمهور مسرح القصيدة: من هي تلك الأنثى التي كانت تقوم بتلك الأفعال الثلاثة(تحاول/تتنفس/ تخرج) بتقنية التبادل المسافاتيّ، حيث أن مسافة المحاولة تسلم الأمر لمسافة التنفس، وتلك بدورها توكل المهمة لمسافةأخرى تترجم الفعل الدرامي لإخراج الرئة المرتبطة بتكوينها الفيزيائي بالزمان والمكان ، إذْ لا رئة ولا هواء ولا حياة إن لم يؤدّي الزمان والمكان لعبة التبادل المسافاتي لوظيفتهما الدرامية، حيث لا مسرح للقصيدة بدون الزمان والمكان. إن عملية التشابك الدرامي التي تقوم بها الشخصيتان الأنثويتان (الرئة والزجاجة) هي من أجل الوصول للشخصية الجمالية التي تنتجها عملية التبادل المسافاتي، ألا وهي شخصية ( الحرية) وبذلك تكون هناك قصدية جمالية يخلقها الشاعر بدر السويطي في جعل الحرية الشخصية التي تمثل فعل الذروة Climax وهي الكلمة- العنوان التي يمكن أن يستهل بها نصّه لو وضعها في مسافة البداية.
*مسافة النص الثاني:
(لها وقع في حنايا الروح
كإنفجار هيروشيما
و ناجازاكي
الصرخة)
في المسافة الثانية يعرض علينا بدر السويطي مشهداّ درامياً يهيئنا لتحّمُل ثقل الفعل التراجيدي المأساوي، حيث يقدم لنا- نحن جمهور مسرحه المُتَخيَّل- مشهداً آخر من على خشبة مسرح قصيدته مستخدما تقنية التبادل المسافاتي لاستحضار مرارة أقسى أحداث التاريخ المعاصر، وارتكاب دولة الحضارة التكنولوجية ورائدة الحرية زيفاً وادعاءً لأبشع جريمة عرفها التاريخ. يستحضرها السويطي بكلمات موجزة لكنها مدويّة في الذاكرة الإنسانية التي تستعيد بين فترة وأخرى أوجاع وآلام تلك الكارثة التراجيدية.
ثمّة دراما صوتية تجسّدها شخصيّات-مفردات النص: (وقع/حنايا الروح/انفجار)، إذْ تتكئ على الزمكانية المسافاتيّة لترجمة فعل التبادل المسافاتي في بنية النص الفكرية والتاريخية والجماليّة والدراميّة. فالتبادل المسافاتيّ يظهر لنا البنية الزمكانية للحدث حتى لو ذكرنا مكان الحدث لوحده. وهنا يقدم لنا الشاعر شخصيتين تاريخيتين تذكران جمهور مسرح قصيدته بمكان الحدث وزمان وقوعه هما شخصية (هيروشيما) وشخصية (ناجازاكي)، وهو بهذا الفعل الجماليّ، لا يذكرنا بهول الحدث فحسب وإنما يحرّك آليات الوعي الجماليّ لدينا، لندلف معه إلى بؤرة الحدث الجماليّ، عبر آلية المسافة الجماليةAesthetic Distance ، وهي أم المسافات حسب نظريتنا المسافاتية شعرا ونقداً، لنستوعب لعبة التبادل المسافاتي دراميّاً.
*مسافة الخاتمة:
إنَّ لعبة التبادل المسافاتيّ أو تبادل المسافات Exchange of Distances في مسرح القصيدة، محكومة بمسافتي الزمان والمكان، و كلا المسافتان تشكلّان شرطين مهمّين من شروط تأسيس البنية الدرامية للنص، إذا لا دراما كونية أو فنّية دون توفر هذين الشرطين، و كذلك ثمَّةَ وظيفة جماليّة أخرى لهما، إذْ تقومان بتحريض مكنونات الشاعر وإيقاظ و تحريك عواطفه و إثارتها بوصفه مبدعاً و مُخرجاً و مُنتجاً ل( لَذّة النص) على رأي رولان بارت، تلك اللذّة التي ينتظرها جمهور مسرح القصيدة بفارغ الصبر. إنَّ المسافة المكانية Spatial Distance لها مجسّاتها التي تحرّض الشاعر و تدفعه للكتابة، حيث إن الكتابة بحد ذاتها هي فعل مكاني بوصفها بناءً و تأسيساً لمكان آخر أو مسافة أخرى مستفزة و محرّضة لخيال القارئ، و حسب ما يقول الكاتب الكولومبي سانتياغو جامبوا إنَّ ( الكتابة هي بناء مساحات صالحة للسكن بالكلمات لخيال القارئ)، و أيضاً حسب ما نرى في نظريتنا المسافاتيًّة، إنَّ مسافة المكان بالنسبة للشاعر تتحوّل أو تتشظّى إلى مسافات عديدة، لأنَّ مخيّلة الشاعر بطبيعتها غير مستقرّة، فهي متحرّكة على الدوام وتلك الحركيّة تحدث ما نسمّيه بالتبادل المسافاتيّ، فالمكان تولد فيه الأشياء التي لا تستقر على حال واحدة، بل تتغيّر من شكل إلى آخر، والمكان ذاته تولد فيه العاطفة و تلبس لبوسها المسافاتيّ، و فيه تأخذ الشخوص، حتى لو كانت ماديّة، دورها الفعّال في إيقاظ اللحظة الجماليَّة Aesthetic Moment، و هنا تكون مسافة المكان ليست محرّضة للشاعر ككائن بشري مرتبط بها فحسب، و إنما تحرّضه عل التشبث بتلك اللحظة الجماليّة، أي تكسر جدار اللاوعي لديه وتجعله يفكر بوعي ظاهري باقتناص تلك اللحظة المسافاتية، و هنا تحصل عملية التلاقح الزمكاني، أي تندمج مسافة المكان بمسافة الزمان Temporal Distance، و عملية الإندماج تلك تجعل الشاعر يشرع بتأسيس لعبة التبادل المسافاتي، ليس بين الزمان و المكان فحسب، بل بين المسافات الشعورية التي تولّد حواراتها بنية النص الدرامية. و تأسيساً على ذلك فإنّ نصوص الشاعر بدر السويطي، رغم كونها نصوصاً وجيزة، تكون محملّة و مشحونة بطاقة دراميّة زمكانية، و تلك الطاقة بوصفها فعلاً جماليَّاً، تستطيع أن تحاور و تستفزّ و تستنطق ثيمات نائمة بعيدة الغور في مخيّلة و لاوعي الشاعر، و تظهرها للسطح لكي تقوم بلعبة التبادل المسافاتيّ في عملية بناء النص جماليّاً، و تلعب دورها المسافاتيّ دراميّاً من على خشبة مسرح القصيدة. و خلاصة القول إنَّ الشاعر بدر السويطي يتقن بمهارة دراميّة عالية لعبة التبادل المسافاتيّ، حيث يؤثث نصّه الوجيز بحرفيّة المسرحيّ الذي يدهش جمهور مسرح قصيدته ليس بتحريك الخيوط الزمكانية و تبادل الأدوار فقط، بل بحركية المفردة- الممثل، لأن كل مفردة لديه لها دور درامي مسافاتيّ، فالكلمات في مسرح قصيدته شخوص جماليّة تتحرّك بحرية مسافاتيّة، فهو يقدم للقارئ-المتلّقي نصّاً بلا عنوان، ربما تلك التقنية تجعله متوجساً في بادئ الأمر، ولكن حين يصل لنهاية النص وقبل أن يسدل القارئ ستارة القراءة، يجد هناك ضالته عندما يرى أن الكلمة الأخيرة هي العنوان الحقيقي للنص، أي إن الشاعر بدر السويطي يتلاعب بحرية بمسافة العنوان لكي يدهش القارئ بلعبة التبادل المسافاتي، حيث يقوم بنقل أو تحريك الكلمة التي تجسّد مسافة العنوان إلى آخر النص لتكون بمثابة الذروة الدرامية Dramatic Climax، مثل كلمة ( الحرية) في النص الأول، و كلمة ( الصرخة) في النص الثاني، و وفق منظور التبادل المسافاتيّ، يحق لنا كقرّاء أن نضع كلمة ( الحرية) كعنوان للنص الأول و كلمة ( الصرخة) كعنوان للنص الثاني، و تلك العملية رغم بساطتها ظاهريَّاٍ لكنّها تشكّل دهشة أو صدمة جماليّة Aesthetic Shock للقارئ-المتلّقي أو جمهور مسرح القصيدة.
شارك مع أصدقائك