لمناسبة مئويّتها ..درس نازك الملائكة … هاشم تايه 

شارك مع أصدقائك

Loading

لمناسبة مئويّتها
درس الملائكة
هاشم تايه
دخلت علينا نازك الملائكة بسمت أكاديميّة جادّة- كان ذلك أواخر ستينات القرن الماضي، في أحد صفوف طلبة قسم اللغة العربيّة بجامعة البصرة- مظهر تدريسيّة حريصة على درسها حرصاً دفع بروح الشاعرة المبدعة بعيداً.. شعر ملموم وراء الرأس، ووجه كما براه الله، إلاّ من أحمر خفيف مرَّ خجولاً على الشفتين، وثوب بسيط، لكنه عصريّ، وحذاء ممسوح من دون كعب، رفيق بالأرض التي يمشي عليها، وكأنّه مصنوع خصيصاً لمن تعمل في وسط يتطلّب الهدوء، وسط يسوده الإيقاع المنتظم الذي يأنف من أي نشاز صوتي مشوّش..
أكثرنا لم يكن يعرف عن الملائكة سوى (النهر العاشق) قصيدتها التي كتبتها في فيضان دجلة، وكانت ضمن مفردات منهج كتاب الأدب والنصوص للصف الثالث المتوسّط.
منذ اللحظة التي اعتلت فيها منصّة الدرس، وحتى نهاية العام الدراسي، كافحت الأستاذة نازك الملائكة من أجل أن يستوعب تلامذتها عروض الشعر، هذه المادة التي كانت جديدة، كلّ الجدّة، على معظمنا، فقطّعت ما لا أتذكّر عدده من أبيات شعرنا العموديّ، في هواء الصفّ، وعلى السّبورة، واستعانت براحة يدها، فأوقعتْها بقوّة على سطح طاولتها، وأخرجت أصواتاً موقّعة تساوي، إيقاعيّاً، (مستفعلن، ومتفاعلن، وفاعلاتن، وفعولن….)، وأطلقتْ لسانها جهيراً بـ (تُمْ َتَمْ تِتُمْ) مُسْتَفْعِلُنْ! وحين يخلط أحدنا بين هذه وتلك من التفعيلات ترفع الملائكة يدها إلى أذنها مستنكرة، وهي تصيح: (أُذُني تُوجعني)! لا للتقريع، ولكن من أجل التنبيه إلى ضرورة الاستعانة بالأذن، وتنمية ملكتها في التقاط الأصوات، والإيقاعات، والتمييز بينها، والاعتماد عليها للتوصّل إلى تفعيلات البيت الشعريّ، من أجل نسبته إلى بحره الخاصّ بسرعة، بدلاً من الاعتماد على تقطيعه باستخدام القلم والورقة.
وفي خلال عامنا الدّراسي ذاك أوقفتْنا الملائكة على بحور شعرنا العريق كلّها مستوفيةً أحوالها، وما يعرض لها من علل، في درس نظري تطبيقي لم يفتر… ولم يكن بين أعداد الأبيات الشعريّة التي استعانت بها، في درسها، بيت واحد من شعرها، ولم أسمعها في الصفّ تشير من بعيد أو من قريب، إلى شعرها، أو إلى ريادتها كمبدعة، كانت معنية بدرسها تنجزه على أكمل وجه مثل نحلة مثابرة… وكنّا نجد في أوراقنا الامتحانية التي تعيدها إلينا مصححة، ما يلفت أنظارنا إلى أغلاطنا في اللغة، حتّى لو كانت هيّنة في نظرنا، فكنّا نرى دائرة بخط أحمر تحيط بكلمة تنتهي بتاء مربوطة بلا نقطتين، وأحياناً كانت تغضب إذا جمع أحدنا بين (سوف)، و(لن) وتقول بنبرة مستنكرة: من الخطأ، كلّ الخطأ الجمع بين (سوف) و(لن). ولم يكن عدم تساهلها مع أخطائنا إلاّ من قبيل الحرص على تكامل عُدّتنا…
إذا كنّا، أحياناً، نجد ما نعدُّه ثغرة في علم هذا الأستاذ، أو ذاك، من أساتذتنا، فلم يكن هذا بمتاح لنا مع الأستاذة نازك التي سمعتها، مرّة تقول، إنّها، في أحد أعوامها، حفظت عن ظهر قلب، مفردات مواد باب أحد أحرف الهجاء في أحد قواميس اللغة.
وفي الحالات النادرة التي خرجت فيها على درسها، أتذكّر أنها، وصفت مصائف بلادنا بأنها أجمل المصائف التي زارتها في أكثر من بلد. وفي مرّة أخرى تحدّثت عن فيروز والرّحابنة. ومرة عبّرتْ عن ذهولها برغبة أبي القاسم الشّابي في أن يعيش الموت كتجربة حيّة، هو القائل:
“جفَّ سحرُ الحياةِ يا قلبيَ الباكي فهيّا نُجرّبِ الموتَ هيّا” !
وهي التي تفزعها النّهاية:
“أينَ أمضي مللْتُ الدّروبْ\ وسئمتُ المروجْ\ والعدوُّ الخفيُّ اللّجوجْ يقتفي خطواتي”.
كانت روح نازك تنطوي على ترفّعٍ ينسجم مع قوّة شخصيتها، وعمق ثقافتها، واعتدادها بشخصيّتها. وأعتقد، أو لأقُل إنني، إلى الآن أحسبُ أنّ كائناً ما يودّ أن يقترب من الملائكة فلابدّ له من التّمتّع بقدر كبير من النظافة والاكتمال..
” حتّى حبُّكَ، حتّى آفاقُكَ تؤذيني” !تقول نازك.
هذا بيان ترفّعها حتّى في الحبّ!
وأظنّها كانت تدافع عن كيانها الذي يبدو من الخارج صلداً بقولها في قصيدة أخرى:
” ونفوسٍ تُحسُّ أعمقَ إحساسٍ \ وتبدو كأنّها لا تُحسُّ\ وشفاهٍ تموتُ ظمأى\ ولا تسألُ أين الرّحيقُ، أين الكأس… “.
عاشت الملائكة- (عاشقة اللّيل)- بمزاجٍ رومانسيّ شعراً، وحياة، كما أرجّح. نالت الماجستير في أحد شعراء الموجة الرومانسيّة في شعرنا العربيّ. وتعلّقت روحُها بـ يوتوبيا تقع وراء العالم:
“دعوني أموتُ\ على بابِ يوتوبيا”.
لبثت نازك أمينةً على النظام في اللغة، والإيقاع في الشّعر، وتعاملت بقسوة مع كلّ ما يهتك قاعدة، أو ما ينشز من إيقاع.
في التفكير، وفي الرّؤية الفنيّة، وحتّى في السلوك، حافظت الملائكة، إلى حدّ بعيد، على الجمع العضويّ بين ما هو عصريّ، وما هو تراثي.
كتابها (شظايا ورماد) الذي أخرجتْه العام 1948 بمقدمته الباهرة، كشف وعيها العميق بطبيعة الشّعر كفنّ، وهو أكثر كتبها تمثيلاً لحداثتها الشّعريّة في سنوات تفتّحها المبكّرة…
شيء من الروح السّمحاء، المسالمة –المسيحيّة مزاجاً- تشفُّ عنه قصيدتها (لنكن أصدقاء):
“لنكن أصدقاء\ في متاهات هذا الوجود الكئيب\ حيث يمشي الدمار ويحيا الفناء\ في زوايا الليالي البِطاء\ حيث صوتُ الضحايا الرّهيب\
هازئا بالرّجاء\ لنكن أصدقاء\ فعيونُ القضاء\ جامداتِ الحَدَق\ ترمقُ البشرَ المتعبين\ في دروب الأسى والأنين\ تحت سوطِ الزّمان النّزِق”.
شارك مع أصدقائك